قال بيراز: ''ارفعوا غطاء محرك السيارة و تظاهروا بأنكم تصلحون عطبا ما في المحرك، أما أنا، فسأذهب لأتفقد أحوال المزرعة''·وعلى التو، نزل من السيارة وأسرع راجلا،بينما مكث الثلاثة في السيارة وهم يتابعون خطواته··· عبر بيراز الطريق و سلك دربا ملتفا بالحصى والأحجار من كل جوانبه، غير أنه كان مسلكا يقتفيه الراجل من غير لأي· وبينما كانت الخطى تتقدم ببيراز، كان يلقي بنظره تارة يمينا وتارة شمالا،إلى أن أوشكت الشمس على الغروب، وأخذت أشعتها الأخيرة ترتسم في الأفق وتبعث فوق تلك الأرض الحمراء لونا مضيئا· وفي الأفق البعيد، كان تبدو حقول الكروم الخضراء متموّجة يتقاذفها النسيم، أما السماء فقد تربع عرشها في ذاك الأصيل وفرضت ألوانها هيبة ملأت أرجاء الكون ضياءا· كان سقف المزرعة المصنوع من الأجور تتقاذفه الأشجار الهائجة، فيرتطم أحيانا بالأرض، كأنما هيجان الطبيعة في تلك اللحظات يحتجز أسيرا· اقترب بيراز من المزرعة غير أنه لم يستطع أن يميز غير أصوات الدجاج، يختزلها هديل الحمام أحيانا فتحدث سيمفونية عذبة·كان المدخل الكبير للملكية مجردا من الحواجز،التفت بيراز حيث موضع الحظيرة فوجد بها بعض العجلات المتناثرة وعربة جرار، كما كانت هنالك بقايا بقع كبيرة من الزيت تجذب إليها الناظر، وكأن الأرض تبتلعها شيئا فشيئا· وفي الجهة المقابلة للمزرعة، كان هنالك بيت تغطي ستائره الحمراء نوافذه المفتوحة على الحقل· انفتح باب المدخل قليلا فإذا بالسيدة راي تنتظر بيراز وهو يسير نحوها، كانت تنتظره ويديها تداعبان ركبتيها في صمت· لم تبد المرأة أي دهشة من وجود هذا الغريب· لقد امتزجت نظراتها الحادة بشيء من التحدي والصمود، غير أنه سرعان ما ارتسمت بسمة فاترة على شفتيها، تبدو بسمة شاذة غير مألوفة، تنبأ بلقاء حاسم· كان جسد السيدة راي يوحي بامرأة متقدمة في السن، وقد جعل منها شعرها الأبيض امرأة وسيمة على غير عادة النساء ذوات الشعر الأبيض· - هل أنت السيدة راي؟ سأل بيراز و وهو يمد يده لمصافحتها· - نعم··· - أنا··· - أجل لقد كنت أعلم بكل شيء، و لكن أين الآخرون؟ - إنهم ينتظرونني في السيارة· لقد رأيت أنه من الضمان أن··· -أحسن ما فعلت، قاطعته المرأة· - أغلقت شفتيها، وانتابها الشرود بعضا من الوقت· - أعتقد أنكم ستمكثون هنا لبضعة أيام···حسنا، لذلك أطلب منكم ألا تلفتوا الأنظار إليكم في هذه الضواحي، و لو أن اقرب منزل يبعد عنا بكيلومترين·كما أن عليكم أن تبقوا هادئين و ألا تخلّوا بنظام العمل المألوف في المزرعة· طرق الصمت حديثهما للحظات، ثم ما لبثت أن واصلت حديثها: كما أطلب منكم بأن تتجنبوا الكلام مع ولدي· سيعود من الحقل بعد قليل، فأرجوا عدم الحديث أمامه عن مواضيع جادة، لأنه لا يملك مزاج أولئك الذين يعيشون في المدن· - آه، سيدتي، ثقي أنه لن ينتبه لذلك أحد· وفضلا عن ذلك، أود أن أطلب منكم أن لا تفشوا مستقبلا سر زيارتكم لهذه المزرعة مهما كانت الأسباب التي دفعت بكم إلى المجيء هنا· - أرجوك يا سيدتي، تأكدّي بأننا رجال نلتزم بكل شيء·قال بيراز ذلك كمن أحس بشيء من الإطناب والإستصغار· - حسنا· اكتفت السيدة راي بالجواب· - سأذهب حالا لأنادي على الآخرين، قال بيراز· - نعم، صدقت· عندما تصلون إلى المزرعة، اصعدوا إلى الطابق الأول· تأمل، أنا لا أملك سوى هاتين الغرفتين، سأعرضهما عليكم· بإمكانكم أن تغتسلوا أو تفعلوا ما شئتم، و عند حلول الساعة السابعة مساءا، انزلوا لتناول طعام العشاء في قاعة الأكل· توقّفت السيدة راي عن الحديث وألقت ببصرها إلى مدخل المزرعة حيث كان ابنها قادما يقود جرارا· - آه، ها هو جين، لقد وصل· قالت السيدة بيراز· ركن الابن جراره تحت سقف الحظيرة و أوقف المحرك، ثم نزل من مقعده و هو يلقي نظرة خاطفة على أمه و على بيراز· مضى يومان ومضت الحياة في المزرعة من دون أي حادث· أما غارسيه، فقد كان مزاجه عصبيا بعض الشيء· لقد الرجل كان يعاني من نوبات الاختناق نتيجة مرض الربو الذي كان مصابا به، خصوصا أنه نسي علبة أدويته التي لم تكن تفارقه إلى حين قدومه إلى المزرعة· وعلى طاولة الغذاء، كان الحديث متحفظا، متنوعا بين حياة الحقول والحياة في الريف، و نادرا ما كان يبادر أحدهم إلى أخبار السياسة·وفي تلك الأيام، كانت العودة إلى الوطن حديث تبادر إليه الأفواه في موضع، والاستقلال يلوح في الأفق· كان جين يطرح بعض الأسئلة دون من أي تحفظ، بينما كانت والدته ترمقه بنظرات ثاقبة··· لقد أطلق العنان للسانه ولم يعد أحيانا يفكر في ما يبادر إليه من حديث· وطوال الإقامة، كان الرجال الثلاثة يتولون الحراسة بالتناوب ماعدا غارسيه الذي كان معفيا· لم تكن أية تعليمة قد صدرت بعد من قيادة المنظمة العسكرية، وكان بيراز بهدوئه المألوف يعبر عن ثقته العمياء في المنظمة خلال مناسبة، أما سيغيرا الذي كثيرا ما تقاسم آراءه مع بيراز، فقد كان يقول بأنه واثق· وفي الليلة الرابعة، قرر الرجال الأربعة أن يخلدوا إلى النوم باكرا، على غير العادة·كان هنالك رواق صغير في الطابق الأول يفصل بين غرفتين متقابلتين،و في الجهة الخلفية، كانت هنالك نافذة تطل على الطريق الكبير،تسمح لمن يقوم بالحراسة بترصد كل حركة غريبة في المكان· وفي هذه الليلة اللّيلة أوكل دور الحراسة إلى سيغيرا·أما بيراز فقد فضل أن يقضي اللّيلة مع غارسيه بسبب نوبات الربو التي انتابته، بينما خلد إيمانويل إلى النوم بمفرده في الغرفة الأخرى· كانت عقارب الساعة تشير إلى تمام منتصف اللّيل عندما كان سغيرا يحتسي فنجانا آخر من القهوة·عمد الرجل إلى علبة سجائره التي بقي نصف من سجائرها، فامتدت يداه إلى العلبة في خفة ساحر، وتناول سيجارة وهم بإشعالها، فخيمت شرارة عود الثقاب على هدوء الرواق الساكن· أما فوق الطاولة، فقد وضع مذياع تنبعث منه موسيقى على أمواج الإذاعة، وفجأة، تتوقف الموسيقى وينطلق شريط الأخبار فيبث آخر مستجدات الساحة السياسية في تلك الفترة: ''هنا إذاعة الجزائر، نقدم لكم أخبارنا الأخيرة، لقد وصلنا اللحظة خبر عاجل· حسب بلاغ صدر عن المديرية العامة للأمن الوطني، فقد تمّ إلقاء القبض على قائد المنظمة السرية وعلى جميع أعوانه· كما نعلمكم بأن الجنرال و باقي أعضاء هذه المنظمة يتأهبون للمغادرة إلى اسبانيا على متن طائرة القوات الجوية·'' انتصب سيغيرا مذعورا، وأطفأ سيجارته وألقى بها في مطفأة السجائر، ثم قام كمن يستعجل شيئا وقد انتابه شرود وإطراق مفاجئين· أشعل سيجارة أخرى، كادت تلهب أصابعه من غير وعي، لقد تملكته الحيرة ولم يكن يدري إطلاقا ما كان عليه أن يفعله· كان الرجل مصدوما بالنبأ الذي طرق سمعه منذ لحظات، فلم يتمالك نفسه حتى راح يلعن حظ المنظمة التعيس، وهو في حيرة من أمره· جلس سيغيرا على الكرسي و عمد إلى رأسه بين يديه كما لا بد وأن يهتدي إلى حيلة ما· ترى ما مصير الرجال الأربعة؟ ما الذي سيفعلونه بالأموال؟ لقد أصحت الآن المنظمة في خبر كان، من دون قائد أعلى، وقد أوقف جميع رؤسائها· كانت تلك هواجس مرعبة تدور في مخيلة سيغيرا، وقد امتد تفكيره الآن إلى مناضلي المنظمة الآخرين،فهل يا ترى سيلقون نفس المصير؟ وهل سيقتسم المليار مع الثلاثة؟··· وفي تلك اللحظات، بدأ الفزع والخوف يغادران سيغيرا شيئا فشيئا، وقد انتابته نشوة وإحساس غريبين في هذه اللحظات·لقد ارتسمت بسمة غريبة على شفتيه، ودخل في دوامة من التفكير في المليار· لقد ساده اعتقاد الآن بأنه على وشك ضمان مستقبله من هذا المال، إنه فعلا مستقبل مضمون ورائع· فلم لا يتقاسم المليار اثنان فقط أفضل من اقتسامه بين الأربعة، بل ولم لا سيظفر به وحده؟ لا، سوف لن ينجح لوحده· من الأفضل أن يخبر جوزيه بالأمر ويعرض عليه الفكرة؟ حسنا،لا، جوزيه مثالي جدا، فبالنسبة له تمثل المنظمة مبدأ قبل مصالحه الخاصة· لقد تملكه تشويش رهيب امتزج بالنشوة والحيلة··· فكر في غارسيه غير أنه سرعان ما استبعد هذه الفرضية، لأن غارسيه شاب لا يزال في ريعان شبابه، كما أنه ذو شخصية ضعيفة ومريض أيضا، فهو لا يملك معايير رجل حقيقي بالإمكان الاعتماد عليه··· وفي تلك اللحظات اتخذ سغيرا قرارا مهما، حيث لا يجب أن يضيّع فرصة حياته··· دخل إلى غرفة إيمانوال، مكث للحظات ثم سرعان ما ميّز جيدا شكل السرير، فاتجه بخطى وئيدة نحو إيمانويل الذي كان غارقا في النوم··· و امتدت يده بلطف إليه، وخاطبه في هدوء: - رونيه، رونيه، استيقظ··· وعلى التو استيقظ رونيه مذعورا··· - ماذا؟ ما الذي يحدث؟ سأل رونيه صديقه إيمانويل وهو يستعد للقيام من موضعه· - أصغي إليّ جيدا يا رونيه، لقد كنت أستمع منذ لحظات للأخبار··· لقد ألقى رجال الشرطة القبض على الجنرال و على المسؤولين··· - ماذا؟ هل أنت متأكد؟ سأل إيمانوال مذعورا· - أجل صحيح··· ولكن، ترى ما الذي سيحل بنا و ماذا سنفعل بالأموال؟···لقد انتهى الأمر· لا أريد أن ينتهي بي المطاف كالجرذ· - أنت محق، فأنت تتحدث عن مصير غير مبشر، هل أبلغت الآخرين؟ - لا· - ترى ما سنفعل بتلك الأموال؟ ··· (يتبع)