كلما ادلهمت أيام الانقسام الفلسطيني ولياليه الحالكة السواد، وكلما تاهت بنود الأجند الفلسطينية وسط غاية المصالح المتشابكة للقوى الإقليمية والدولية، فإنني أحاول أن أنجو بنفسي، فأذهب إلى حيث الينابيع الأولى لكي ترتوي روحي من جديد وأذهب إلى حيث حدائق الذاكرة التي لا تتساقط ورودها أبداً، وقد فرحت كثيراً بخبر الاحتفال الذي أقيم في قصر الثقافة في رام الله، تكريما لعميد الأسرى، فخري البرغوثي، بمناسبة دخوله اليوم الأول من عامه الثاني والثلاثين في سجون الاحتلال، حيث تم اعتقاله في الثالث والعشرين من جوان عام ,1978 على إثر عملية عسكرية مميزة نفذها في منطقة، النبي صالح، أسفرت عن مقتل ضابط مظلي إسرائيلي في بداية العام نفسه· المفارقة المذهلة أن الذي يأتي بعد فخري البرغوثي في الأقدمية في سجون الاحتلال، هو ابن عمة، نائل البرغوثي، فليس بينهما سوى بضعة أيام، وكان لنائل البرغوثي حكاية أشبه بحكايات الخيال، لأنه عند اعتقاله كان له ابن واحد في سن الطفولة -حوالي السنة من العمر- واسمه شادي، وكانت زوجته حامل في أيامها الأولى، فأنجبت الابن الثاني هادي، ولم يلتق الأب مع ولديه إلا في سجن عسقلان، حيث كبر الولدان وأصبحا مقاتلين اعتقلتهما قوات الاحتلال الإسرائيلي وتم اللقاء مع والدهما في المعتقل، حيث كان اللقاء نوعاً من التراجيديا الإنسانية المذهلة· وما دمنا نذهب إلى الينابيع، وما دمنا نحتمي من أيامنا بحدائق الذاكرة، فمن المهم أن نتحدث عن آل البرغوثي، الذين قدموا هذا العدد الهائل من المقاومين والمقاتلين والمعتقلين والشهداء، ومازالوا على العهد لا يتوقفون أبداً، فالبراغثة كما يلقبهم الفلسطينيون، هم من أحفاد مقاتل عريق اسمه ''بر بن غوث'' قائد إحدى الفرق في جيش صلاح الدين الأيوبي، والذي ظلت العائلة تتوارث سيفه جيلاً بعد جيل إلى أن تسلمه المحامي، عمر الصالح البرغوثي، وكان السيف معلقا في صالون مكتبه في شارع يافا في القدس حين اجتاحت القوات الإسرائيلية مدينة القدس وضاع السيف ضمن ملايين الأشياء التي ضاعت في استمرار النكبة الفلسطينية· البراغثة، أو أحفاد البر بن غوث قاتلوا الصليبيين في جيش صلاح الدين الأيوبي، وقاتلوا المغول والتتار في جيش المماليك أيام قطز والظاهر بيبرس، وقاتلوا ميمنة جيش نابليون بونابرت بالاشتراك مع آل جرار في معركة عزون العتمة الشهيرة، وقاتلوا الاحتلال البريطاني، ويقاتلون بلا هوادة الاحتلال الإسرائيلي!! إنه تراث مستمر لهذه العائلة المنتشرة في عدة قرى في وسط الضفة، مثل دير غسانة وكوبر وبيت ريما وكفر عين ودير أبو مشعل وعبود، وكان بعضهم قد وصل إلى سينجل، بل إن بعضهم كان قد وصل إلى صفد، وهذا التراث النضالي العظيم يجسده قادتهم البارزين مثل فخري البرغوثي ونائل البرغوثي، ومروان البرغوثي القائد الفتحاوي المعروف، وعبد الله البرغوثي الذي حكمت علية محاكم الاحتلال بالسجن المؤبد سبعه وستين مرة، ويعترف الاحتلال نفسه بحجم هذا التراث النضالي والقتالي لأبطال هذه العائلة، حيث يرفض الإفراج عن هؤلاء الأبطال رغم أن أسماءهم هي التي تتصدر قوائم المطلوب الإفراج عنهم عندما يتم الحديث عن صفقات تبادل الأسرى، وآخرها صفقة التبادل مع جلعاد شاليط الذي يتم الحديث عنها منذ ثلاث سنوات دون جدوى· بقي أن أقول، أن الاحتفال بتكريم الأسير البطل، فخري البرغوثي، بمناسبة دخوله العام الثاني والثلاثين في المعتقل، نظمته لجنة التضامن مع الأسير مروان البرغوثي، وكان ذلك بمثابة رسالة قوية بأن قضية الأسرى والمعتقلين هي من أبرز الأولويات الأولى على أجندتنا الوطنية، فهؤلاء الأسرى والمعتقلين هم ينابيعنا الصافية التي تخلصنا من كدر الأيام الصعبة، وهم حديقة ذاكرتنا الجماعية التي لا يشوشها الانقسام بتداعياته السلبية المفتعلة!! فها نحن لنا جرح واحد نتوجع منه، ولنا أمل واحد ننتظره، ولنا إخوة وأبناء وآباء ورفاق سلاح نريدهم أن يعودوا من وراء القضبان· هذه تحية غزاوية بمذاق مميز، نرسلها إلى المناضل الكبير، عميد الأسرى، فخري البرغوثي، ولكل رفاقه وزملائه وإخوتة في الحركة الفلسطينية الأسيرة، ونقول لهم أنتم ضوء في العتمة، أنتم أمل في زمن الإحباط، ومشاعل تضحياتكم أكبر ألف مرة من تراشق الانقسام·