نشرت مجلة المستقبل العربي التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية بلبنان في عددها الخامس (2009) موضوعا قيما حول مشروع نقد العقل العربي، من نقد الخطاب الى التعريف بالقرآن، أعده الأستاذ يوسف عدي استاذ باحث في شؤون الفلسفة والفكر العربي المعاصر بأكاديمية مراكش بالمغرب، تنشره الشعب في صفحة أدب وفكر على حلقات للإفادة منه والاستفادة.. إن»مشروع نقد العقل العربي، من نقد الخطاب الى التعريف بالقرآن« هو بحث عن إيقاعات التفكير النقدي أو الايبستيمولوجي لدى المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وذلك من خلال بعض النصوص الأساسية الممتدة من نقد الخطاب العربي المعاصر (1982) الى كتاب مدخل الى القرآن (2006). لاشك في أن محمد عابد الجابري قد عرف بنقده »العقل« كأداة منتجة وليس كمضامين.. إذ كثيرا ما راكم الفكر العربي معارف ومنتوجات في الفقهيات والكلاميات والفلسفات.. بيد أن هذا الفكر لم يستطع أن ينتقد الاداة المفكَّر بها. من هنا كانت فرادة الرجل في فتح حقل من حقول التأمل والتفكير.. وهو الذي تبلور في مشروع نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة، ومن هنا كانت الرؤية المنهجية عند الجابري تتجسد في المعالجة البنيوية، والمعالجة التاريخية، والطرح الايديولوجي. لقد تصور الجابري أن الفكر العربي الإسلامي بمختلف المشارب والاتجاهات ينحر في دائرة وحدة الاشكالية، هذه الأخيرة التي يتم تفعيلها من خلال الحقل المعرفي المتمثل في الجهاز التفكيري.. مفاهيم، تصورات، منطلقات، ومناهج..الخ، والمضمون الايديولوجي: الوظيفة السياسية والاجتماعية التي توجه تلك المادة المعرفية، وبهذا فإن استحضارنا منطلقات الرؤية.. وخطوات منهج الكاتب، انما للوعي بطبيعة حضورهما في النصوص في علاقتها بالقضايا والموضوعات المطروحة. يعتبر كتاب الخطاب العربي المعاصر (1982) هو الاعلان الأولي للممارسة النقدية للخطاب النهضوي بأنواعه الايديولوجية والنظرية والسياسية، غير أن الجابري قد حدد في مستوى الخطاب والقول رؤية تشخيصية تتعقب علامات »اللاعقل« في خطاب النهضة والتقدم، تلك الرؤية التي توسلت منهجاً ايبستيمولوجيًا يقوم على النظر في أدوات التفكير ووسائل النظر في حد ذاتها.. بيد أن هذه الرؤية ما فتئت تطور الايقاع النظري والمنهجي في قراءة الفارابية والسينوية والرشدية والخلدونية.. بحيث رسم الجابري في كتابه: نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (1986) منطلقات تفكيره في بوادر المشروع النقدي. وغرضنا من كل ذلك هو النظر في كيفية بناء الجابري اليوم لخطاب إصلاحي عربي اسلامي من خلال القيم والأخلاق من جهة أولى، ومن جرّاء اعادة قراءة القرآن الكريم في ضوء السيرة المحمدية، فكان الاصلاح الديني في الثقافة العربية المعاصرة من جهة ثانية. أولا: نقد الخطاب العربي المعاصر: في »علامات اللاعقل« لقد شرع د. الجابري في افتتاحية كتابه الخطاب العربي المعاصر (1982) في تحديد طبيعة الرؤية والمنهج المستثمرين فيه.. أعني القراءة التشخيصية، يقول الكاتب: »لا يهمنا الآن إن كانت هذه القراءة تنتقل في بناء جديد ما ينطق به النص، وهذا مستوى من القراءة، أو أنها تستنطقه من أجل أن تكشف وراء البناء المباشر الذي يتقدم به بناء آخر مباطنًا له أو ملازمًا له نوعا من الملازمة، وهذا مستوى آخر من القراءة«. وهذا يعني بيان عيوب الخطاب والقول وليس اعادة بناء الاطروحات الايديولوجية والاجتماعية التي سيخصص الكتاب لها كتاب وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر (1992). إن تشخيص الخطاب هو الوقوف عند تهافته وتناقضاته مابين المفهوم والواقع، إذ إن ذلك يبرز علامات »اللاعقل« في فكرنا النهضوي العربي، ومن ثمة فإن قراءة الجابري هي قراءة ايبستيمولوجية تنظر في آليات الخطاب وطرق تعبيره والكيفية التي يقول بها.. بدلا من الميل الى التصنيفات الايديولوجية.. وهذا كله في نطاق العقل العربي. لقد تناول الكاتب في الخطاب العربي المعاصر (1982) أصنافا من الخطابات السلفية والليبرالية والقومية والفلسفية..التي كل هذه الانواع والاصناف من الفكر العربي المعاصر تندرج ضمن »الخطاب النهضوي العربي العام«. ومن هنا كانت رؤية الجابري في تفكيك مقولات هذا الخطاب النهضوي إنما ترنو الى »ابراز ضعفه وتشخيص عيوبه وثغراته«، وأما من حيث المنهج فقد لعب المنهج الايبستيمولوجي الدور الاساسي في فحص الخطاب وتشريحه..الذي أدى الى كشف »إخفاء تناقضاته واضفاء ما يلزم من المعقولية على نفسه«. إن تحليل الخطاب النهضوي العربي من قبل د.الجابري إنما يتم من خلال »الثنائيات« الفكرية والايديولوجية.. التي هي باعث كشف زيفها وتناقضاتها على مستوى الواقع الاجتماعي والسياسي وعلى مستوى الفكر والتعقل.. ومن ثم كان مشروع النهضة مشروعا يسكت عن التوتر المهيمن على الخطاب.. أعني السكوت عن عصر الانحطاط لدى النموذج السلفي، والسكوت عن التهديد الاستعماري في الخطاب الليبرالي.. وهذا هو ما يجعل الخطاب النهضوي العربي خطابا محكوما بتفسير الواقع انطلاقا من »نموذج جاهز، وهذه هي الثغرة الواسعة والعميقة في وعي العرب بالنهضة«. ولعل من معضلات هذا الخطاب وفق النقد الايبستيمولوجي هو تلك الطريقة المشتركة في التفكير ما بين منطق السلفي ومنطق القومي والليبرالي في مفاهيم.. النهضة.. والسقوط.. كل ذلك جعل خطاب السلفي والليبرالي والقومي والماركوسوي العربي.. خطاب وجدان لا خطاب عقل. كما أن من سمات الخطاب النهضوي العربي أنه يقع في شراك»السلفية« سواء كانت استحضارا للتجربة الاسلامية قبل ظهور الخلاف، أم استحضارا للمبادىء الاوروبية الحديثة من قبل الليبرالي العربي.. يقول الجابري: »يسكت الخطاب السلفي الليبرالوي عن واقع »العقل العربي« عن مكوناته و ثوابته، عن نقائضه وتناقضاته..«. وهكذا تمكن الجابري من معالجة أهم القضايا الاساسية، وهي: علاقة الدين بالدولة في اطار الخطاب السياسي الذي هو جزء من الخطاب النهضوي العربي العام، يقول محمد عابد الجابري: »الحق أن ما يلفت النظر في الفكر العربي الحديث والمعاصر هو ضحالة الخطاب السياسي فيه، نقصد الخطاب الذي يطرح مشكل الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما من منظور يعالج بالأساس مسألة السلطة«، ومن ثمة فإن المشكل الحقيقي في فكرنا العربي هو مشكل الديمقراطية وليس قضية العلمنة، وعلى هذا كانت مهمة الجابري في كتابه: وجهة نظر: نحو اعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، هي اعادة بناء الخطاب والرؤية وليس فقط إبداء رأي في مسألة معينة، وذلك من خلال تفكيك الطرح الايديولوجي والمذهبي لقضايا الفكر العربي المعاصر، واعادة بنائها من جديد، أي النظر في ثنائيات العروبة والاسلام، الديمقراطية والشورى، التجديد والاصلاح، الى آخر الشعارات التي رفعها الخطاب العربي الحديث والمعاصر. .. يتبع عن مجلة المستقبل العربي العدد 5 / 200