في الحقيقة فاطمة بُرغم هي الوالدة الأصلية لأبي محمد وقد ولدت حسب ما قاله لي والدي يوما في العام الأخير من الشهر الأخير من القرن التاسع عشر، لم تولد في حي فومبيطا بسيدي بلعباس، فلقد تعرّف عليها الوالد الأصلي لأبي في كولومب بشار عندما قدم إليها وهو صغير رفقة أحد أعمامه المهاجرين من قرية نائية في تافيلالت البربرية بالمغرب··· كان اسم جدي الأصلي عياش، وكان يتحدث العربية بصعوبة أو بلكنة بربرية في أحسن الأحوال، تزوج فاطمة بُرغم وهي لا تتجاوز سن الرابعة عشر، وكانت وقتها وهي الطفلة ذات السمرة الصافية جذابة ومثيرة، وكان صدرها ممتلئا وجسمها ينبض بالحرارة، وكانت لها أسنان شديدة البياض، وما أن رآها جدي الأصلي حتى خفق قلبه في صدره، لم يكن يشبهها فلقد كان ضخم الجثة وقوي البنيان كأنه من عصر العماليق، وكان وجهه مليئا بالصرامة وذو عينين سوداوين وأنف مفلطح وشفتين غليظين ويدين خشنتين، تزوجها وقدم بها من ضواحي كولومب بشار إلى حي فومبيطا حيث بنى مسكنا صغيرا مكونا من سقيفة ضيقة وغرفتين وباحة صغيرة فيها مرحاض وجب عميق قام هو بحفره، ظل يسافر في كل وقت، ولم يكن يمكث إلا وقتا قصيرا في منزله غير البعيد عن جامع زين العابدين الذي كان في ذلك الوقت مجرد مصلى يتسع لعشرين نفرا، قعد سنوات يشغل في فرنسا في المناجم لكن سرعان ما عاد إلى فومبيطا عندما انتهت الحرب الأولى بسنوات قليلة، كان أحمد، ابنهما الأول الذي رأى النور لكنه توفى عندما بلغ العامين، وكان عبد الله ابنهما الثاني لكنه توفى بالطاعون، وكان الجيلالي ابنهما الثالث، لكنه مات بعد شهر من ولادته، وأيضا توفى الرابع الذي لم أعد أذكر اسمه، أما والدي فكان الابن الخامس، وخشيت فاطمة بُرغم أن يلتحق بإخوته المتوفين، فهي لم تعد قادرة على البكاء وعلى تحمّل لوعة الفراق فتصدقت به على جدتي خديجة زوجة ولد المعلم التي كانت صديقتها وتشفق على حالها، وفرحت جدتي خديجة أيما فرح بالمولود الجديد الذي هو أبي، وأيضا فرح جدي عياش أيما فرح عندما صانته بركة عائلة ولد المعلم ليبقى حيا يرزق، وبعد عامين حملت فاطمة بُرغم من جديد وكانت حليمة هي البنت الأولى في حياتها، لتليها يمينة بثلاث سنوات، ومن حينها كفت فاطمة بُرغم عن الولادة، وكف جدي عياش عن كيل الشتائم لزوجته فاطمة بُرغم الذي لم يتزوج عليها إلى أن مات عندما تجاوز المائة عام بقليل، وعندما بلغ محمد والدي سن الثامنة عشر رأى أمي مهدية بنت جدتي مباركة وجدي براشد وهي لا تزال طفلة تلعب مع البنات في حوش براشد المقابل لمنزل جدتي في الشارع التحتاني، خفق قلبه وراحت الأحلام تدغدغه، لكنه لم يجرؤ على مفاتحة جدتي خديجة التي كانت تفكر تزويجه من فاطنة التي تزوج أمها أخوها حميدة زدوك قبل أن يأكل القطار إحدى رجليه في سكة الحديد، كانت فاطنة قصيرة القامة، ذات صوت رنان، زنجية وهي لا تشبه أمها البيضاء ذات اليدين الموشمتين، بل كانت تشبه والدها الذي، قيل إنه قتل في الحرب الثانية، لكن والدي كان قلبه قد خفق لمهدية، ولقد غضبت جدتي كثيرا عندما فاتحها والدي بالزواج، فاحمرت عيناها وراحت ترتعش كورقة معلقة في شجرة وقت الخريف، وأيضا عمتي زينب غضبت وقالت وهي تزعق في وجه والدي ''إلا مهدية'' لم تكن زينب تحب عائلة براشد القادمين من خارج فومبيطا كانوا بالنسبة إليها برانية ولا يؤتمن جانبهم، ولم يعد والدي يدخل المنزل إلا نادرا، وهدد جدتي بعودته إلى أمه الأصلية، وكان ذلك يرعبها ويبث في قلبها الفزع، لكن زوج زينب صدّيق الذي كان لا يتكلم إلا في الأوقات العصيبة والحرجة، تمكن من تطييب خاطر عمتي زينب وخاطر جدتي وذهبت جدتي وعمي صدّيق وحميدة زدوك إلى منزل براشد، وفرح بهم جدي بشير زوج جدتي مباركة فرحا شديدا، وفي أيام قلائل انتشر الخبر وأصبح الحلم حقيقة·· لم يدم فرح والدي محمد طويلا فلقد تحولت أيامه التي تلت العرس إلى كابوس، فعمتي زينب سرعان ما تحولت إلى عزرائيل بالنسبة لأمي، وكلما كان يدخل والدي إلى البيت، كانت عمتي زينب تدخل في هياج شديد، منددة بتصرفات أمي مهدية التي كانت لا تعرف سوى البكاء والصبر، وقد غضب والدها البشير براشد الذي أمر ابنيه جلول براشد ومحمد براشد ليستعيدا أختهما مهدية بعد شهور، وظل والدي حائرا ومكتوف الأيدي وغير قادر أن ينبس بشفة، تدخل الكبار من الجيران ليعيدوا المياه إلى مجاريها، لكن عمتي زينب ظلت تدفع بالتواطؤ مع زوجة خال والدي حميدة زدوك إلى الطلاق، وذات يوم أصيبت مهدية بالدوار والغثيان وراحت تتقيأ ليكتشف الجميع أنها حامل بي·· وعندئذ استجمع محمد قوته ودخل حربا لم يعرفها من قبل لاستعادة مهدية، وكانت وكأنها في الجنة وهي تعود إلى بيتها في منزل جدتي، وعندما اجتاحها المخاض، كانت جدتي قابلتها، وصرخت أنا صرختي الأولى على الساعة العاشرة ليلا في اليوم سبعة وعشرين ديسمبر من العام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين·· وليلتها ضحكت جدتي ضحكة مجلجلة أعادتها إلى أيام الصبا، وصرخ والدي محمد من الفرح وهو الذي كان لا يسمع صوته إلا عندما يكون مع شلته في المقهى يلعبون الضامة، هكذا روت لي ذات يوم والدتي مهدية·