غادر خالي جلول المحل في وقت مبكر، ارتدى بدلته الزرقاء ذات اللون الليلي، ووضع ربطة عنق حمراء مزركشة بدوائر أشبه بالنجوم الصغيرة وهي تسرح في السماء ذات الإمتدادات المفتوحة، وقمجة ناصعة البياض، وارتدى حذاءه الأسود اللامع الذي لا يستعمله إلا في المناسبات الجميلة، ووقف أمام المرآة الحائطية وهو يمشط شعره الحالك، تاركا الشوشة تنزل على جبهته العريضة·· وضع ساعته في معصمه، ورش جسده بالعطر·· وخرج إلى الشارع المزدحم بالمارة والعربات المتنقلة، سيارات الدوشوفو والسيمكا والدياس·· وعربات الكارو، وكاليشات تجرها الأحصنة الراكضة وهي تملأ الجو إيقاعا متناسقا وجميلا·· فرنسيون، إسبان، ومالطيون يضعون القبعات على رؤوسهم، ويهود وعرب بألبستهم التقليدية يحثون الخطى في اتجاهات مختلفة، ومتعاكسة ومتعددة··· نظر إلى أطفال يبدون في غاية السعادة وهم يتصايحون ويضجون على الرصيف الطويل المؤدي إلى جسر وادي ماكرة الذي يخترق كصل أسطوري مدينة الولي الصالح سيدي بلعباس·· نظر إلى الساعة المشدودة في معصمه، كانت الخامسة والنصف، داهمته ضجة رعناء وهو يمر بالقرب من حانة سالازار العامرة بروادها التقليديين، كانت موسيقى التانغو تتدفق من داخلها إلى الشارع وهي تحمل كل ذلك النزق والضجيج والهدير الثملان الصاخب·· توقف لحظة أمام كشك مدام پيپو وطلب علبة سجائر·· أشعل سيجارة وهو ينظر بطرف عينه إلى جنود ضاجين، خارجين لتوهم من حانة بولميتش، ويتوجهون إلى ثكنة اللفيف الأجنبي المتواجدة غير بعيد عن الساعات الأربع التي تتوسط وسط المدينة·· كانت تجول بداخله أفكار وخواطر متضاربة مثل أمواج بحر داكن ومتلاطم·· وكانت الشمس تنسحب ببطء والمدينة في غفلة من أمرها··· كان وجه عباسية يبدو ويختفي··· وكان صوتها يتهادى، يتلفع، يظهر من وراء السحب الكثيفة التي كانت تغشاه من الداخل كالشمس الباردة، ثم يتوارى ليطل من جديد ومن بعيد، كأنه آت من وراء جبال نائية خرافية الشكل·· دنا من شارع مارصو، ثم انعطف يمينا باتجاه شارع فينيلون، وهنا راح ينظر إلى تلك البناءات البيضاء ذات البالكونات والنوافذ الزرقاء تطل منها فتيات جميلات وعجوزات بروبات سوداء يجلسن على كراسٍ هزازة يتأملن الزمن الذي يمضي، والمارة الغارقين في الضجة المتلاشية·· كان جلول ينظر إلى المحلات، والمباني والعربات والأشباح التي تتحرك وكأنه يعيد اكتشاف أمكنة سيدي بلعباس وناسها من جديد، كان يعيش لحظتين متفارقتين، لحظة تنبع من داخله، ولحظة تكتسحه من الخارج·· ما لهذا الزمن يتحرك بهذا الشكل الثقيل والمتباطئ·· يتحرك هكذا كسلحفاة لعينة، بينما قلبه يكاد يخرج من صدره·· يركض بجنون كما لم يركض من قبل·· هو يركض كالمسعور حتى يراها·· حتى ينظر إلى عينيها الساحرتين من جديد، ويشرب من لونها، وصوتها المتدفق كينبوع حار ولافح··· الحرب التي اندلعت منذ أربع سنوات، هو لا يراها·· تأتي أصداؤها فقط من بعيد·· تظهر لحظة في اغتيال·· في انفجار، ثم تختفي·· تظهر لحظة في وجوه مفزوعة، في مداهمات خاطفة في سوق العرب، وفي حي الزنوج، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه·· تظهر في العيون القلقة، في الصمت المرتبك، لكن ظهورها يبدو شاحبا، غامضا ومتدثرا بالبياض الكالح·· دخل المقهى، وطلب ليمونادا·· كان المقهى مليئا بالكهول··· كانوا يثرثرون، يتكلمون بأصوات عالية··· شابة ذات بشرة بيضاء تجلس وصاحبها الضاج وسط جمع الكهول··· كانت العيون مصوبة إليها، وكأنها كانت تدرك ذلك، فيرتفع صوتها، وتتعالى ضحكاتها كالموسيقى الهادرة والمنكسرة في الوقت ذاته·· موسيقى أغنية إسبانية معروفة ترتفع·· يأتي النادل، يدفع جلول الحساب، ثم ينهض، وينظر إلى الساعة من جديد·· بدأ قلبه ينبض من جديد·· هل تأتي؟! لا بد أن تأتي·· نظرتها وهي تهم بالانصراف، كانت تقول أنها ستأتي·· وتكون هناك، أمام سينما فوكس·· تقدم باتجاه ساحة جورج كليمنصو·· خطواته كانت متسارعة·· سيكون قبلها·· سيراها وهي تتجه نحو سينما فوكس·· ستبتسم له، وهي تراه من بعيد.. ستتدفق الضحكة من وجهها، وسيشع النور من فمها·· وستركض·· وهو أيضا سيركض، بل سيطير، ويكون أمامها·· وستمد له يديها، وسيمد لها يديه·· ثم يحتضنها·· وهي تشعر بالفرح البهيج وهو يضمها إلى صدره·· ثم تضع يدها في يده·· ويتجهان إلى سينما فوكس·· وستقودهما النادلة إلى مكان وسط الصالة·· وتطفأ الأنوار·· ويبدأ الفيلم··· وسيضع يده على فخذها، ثم تضع يدها فوق يده·· ويشعر باللذة·· يشعر بالحياة تسري من جديد في أوصاله، وعندها سيغمض عينيه، ويترك جسده يحلق في السماء·· طبعا تحلق معه في السماء·· وفي السماء يقبلها، يقبل وجنتيها، يقبل أنفها، يقبل فمها، يقبل صدرها، يقبل أسفل صدرها، يمطرها بالقبل·· يقبلها كما لم يقبل أية امرأة من قبل ولا من بعد··· وهي تستسلم لقبله المتصاعدة والمحمومة·· ثم يتلاشى كل شيء·· كل شيء في السماء يتلاشى·· جسمه وجسمها يتلاشيان لا يبقى منهما سوى القبل، يتحولان إلى قبلتين فقط·· قبلة واحدة فقط·· نظر إلى الساعة.. هي الثامنة وأربعون دقيقة·· صوت ينادي··· كان صوتها···