ها أنا بعد خمس عشرة سنة أجلس بيني وبيني لأتأمل غيابك الفادح، وأقرأ ما كنت تقرأ أنت في الحجر الفلسفي، ما كنت تخبر عنه وتنذر به··· ها هي كل العواصف قد هبّت، العواصف التي شممت رائحتها في بعيد رؤاك·· ها أنت مستريحا في بياض الأبدية مازلتَ تنبعث في يوميّنا الناقص أملا·· مازلتَ، ومازالت لغتك العصية ترشدنا بالرنين ذاته لحداثتك العالية·· أتأمل غيابك في مرآة مشروخة·· وأراك ماشيا في السّديم، كما كنت تمشي في شوارع ''خميستي'' و''مستغانم'' و''العربي بن مهيدي''، بخفة الطائر المتوثب لأدنى نأمة برشاقة الغزال في مهمّه لا حدود لحدوده·· أنت لم تكن أنت··· كنت نبؤة في كتاب الكوابيس المضاءة في ليلك.. المضاءة ''بلامبة'' في السقف.. أنا قالت لك وحذرتك شهرا قبل أن تتحالف كل تلك الكوابيس وتأتيك دفعة واحدة في طلقة محشوشة·· قلتها لك أمام ''كيوصك'' الهواري بساحة جان دارك قبالة الكاتدرائية·· قلتها لك، ونحن نشتري جريدة ''الوقت'' الأسبوعية التي نشرت لك حوارا قلت فيه كل شيء عن الحالة الجزائرية دون مواربة.. كانت صورتك في الصفحة الأولى بالأبيض والأسود.. كنت فاغرا فمك بعيون مفتوحة، كما لو كنت تقول كلمة حادة··· قلت لك دفعة واحدة (الصّورة يا بن عودة توحي بالموت).. عنفتك كيف تفعل وتعطيهم الصّورة·· قلت لي إن الحوار أجري بالهاتف، والصورة لست تدري من أين أتوا بها؟؟·· يوم أسقطوك أنا لم تكن لي الشجاعة لرؤيتك مسجّى في ''لامورغ''.. عياش يحياوي كانت له الشجاعة·· صورتك في جرائد الغد الجنائزية كانت الصورة نفسها·· قال لي عياش مستغربا كيف استطاعوا تصويره في ''لامورغ'' ونشر الصورة بتلك السرعة، حكيت لعياش الحكاية··· هاهو غيابك يعيدنا كل مرة إلى اجترار سؤالاتك، إلى التصادم كل مرة مع القبلية التي لم ينته هيلمانها·· مازالت القبيلة التي كتبت ضدها بيانك الشهير تمسك بخناق الحياة والجمال فينا·· مازال حلم الدولة مرتهنا ببني فلان وبني علان·· مازال مرتهنا بذهنية الدشرة والدوار·· كل ابن عم لابن عمه نصير·· ومازالت الدولة مجرد فكرة على الأجيال الصاعدة تقشيرها وإزالة الغبار عنها· أتأمل غيابك في ضحالة المشهد الثقافي·· آه! يا بن عودة، يادين ربي، لو كنت هنا لبرّدت لي قلبي وقلب الذين أحبوك في هذا الذي يحدث·· لقد تصحرت الحياة الثقافية يا بن عودة وتفكلرت كما كنت تقول·· وطحننا السوسيال·· أذكرك، وأنحني أمام شجاعتك وأنت تشتغل في قصر الثقافة براتب لم يتجاوز الخمسة آلاف دينار·· وسأقولها الآن لأني من القلائل الذين يعرفون هذه الحقيقة، حتى أنت عندما كنت أزعف من تلك الوضعية كنت تقول لي لا تخبر أحدا·· كان بختي بن عودة يشتغل في قصر الثقافة لمدينة وهران إداريا كعون أمن وصيانة·· واه عون أمن وصيانة·· أتأمل غيابك، ولم يعد لي ما أفقده بعدك·· أتأمل غيابك في مرآة هرمة وأجهش بالفقد·· أراك في طوالع النجوم والأفلاك، في الأولمب الباذخ تبرم الشارب الملكي وتضحك·· ما بقي منك يا بن عودة غير هذا الرنين المتردد فينا، أسئلة تتناسل إلى ما لا نهاية من إمكان السؤال·· مازالت ربّة الشِّعر التي سكنتك كجنية الفلوات تهدينا إليك في السّهد العالي لحمى القصيدة بنت الكلب·· آه يا بن عودة! لو أنك لم تمت قبل خمس عشرة سنة·· لو أن المحشوشة اللعينة أخطأتك·· لو أن ما سطر لك في اللوح المحفوظ تعدل··· الأكيد كان العالم سيكون أجمل·