كنا، نحن التلاميذ، نقدر أساتذتنا الفرنسيين ذوي الكفاءة والروح الإنسانية من الذين لم يصدر عنهم ما يمكن تصنيفه في خانة العنصرية تجاهنا، أو التحامل علينا، والعداء لنا...أما أساتذتنا الجزائريون، مدرسونا باللغة العربية، فقد كنا نُجلهم، ونحبهم، ونعتبرهم، بشكل من الأشكال، مجاهدين، لأنهم يمنحوننا عناصر الهوية التي عمل الاحتلال بكل جهد على طمسها، وأن ما سمح لنا بتلقيه من المعارف المتصلة بها إنما كان لمصلحته، وحاجة إدارة البلاد إلى الإطارات المتمكنة من ذلك القدر الذي سمح به. * وكان أساتذتنا هؤلاء متفاوتين في درجة إظهار عواطفهم الوطنية أمامنا. وكانت الثورة المسلحة قد بلغت أوْج قوتها، والاستعمارُ قد تجاوز كل الحدود في محاربتها والتنكيل بمن يُضبط متلبسا بالانتساب إليها ولو بصفة معنوية. وأشهد أنك أنت، أيها الأستاذ الراحل، كنت أجَْرأهُم في التعبير عن انحيازك التام للثورة، وأنك لم تكن تترك فرصة دون توعيتنا بالعلاقة الوثيقة بين العربية التي ندرسها، والغاية التي يضحّي شباب الجزائر من أجلها بأرواحهم في السهول والجبال. وما أنْسَ، لا أنْسَ أنك في تلك الأيام العسيرة درّسْتنا خطبة " الجهاد " الشهيرة، للإمام علي كرم الله وجهه، مُعرّضا نفسك لأذى شديد. وهي التي تبدأ بقوله، كرم الله وجهه، "الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل والخِزي، وشمِله البلاء، وسِيمَ الخسْفَ، ومُنِع النَّصَف..." وأذكر أنك كلفتنا بإعداد شرح الخطبة وبسط معانيها، مثلما تفعل مع سائر النصوص النثرية والشعرية التي تختارها لنا. وفي الحصة المخصصة لها وجهتَ الأسئلة الأولى إلى أحد زملائنا، فتلعثم، وتلجلج، وتبين لك أنه لم يقم بإعداد الفرض، فغضبت عليه غضبة شديدة، ولكن بهدوئك المعهود الذي لا يفارقك أبدا حتى في أوج لحظات الانفعال والتوتر، وقلت له موبخا، الشباب اليوم يجاهدون، ويقدمون أرواحهم فداءً لحرية الوطن ودينه ولغته، وأنت لا تقوم حتى بشرح خطبة الجهاد... * وفي مناسبة أخرى، وكنا في أحد الأقسام الجديدة (الخشبية) المحاذية للغابة، وأذكر أنك كنتَ معنا في درس العَروض، وكان موضوعه بحر "المتدارك"، ووزنه "فعِلنْ، فَعِلنْ، فَعِلن، فعلن". في كل شطر. وقد جرى منهجك على أن نُغني جماعيا وزن البحر الذي تُعلِمُنا إياه، عدة مرات، وأنت تغنيه معنا. وفي ذلك الدرس، ما إن رفعنا عقيرتنا بالغناء حتى غنى مدفع رشاش في الغابة الملاصقة لقسمنا! فسكتنا جميعا. وانتظرنا ما تأمرنا به، من الارتماء تحت الطاولات؟ أو إخلاء القسم؟ كما يحدث ذلك عادة. ولكننا رأينا وجهك طافحا بالسرور، وأنت تقول، وكأنك تلقي بقية الدرس، "هذا هو الوزن الصحيح!... فَعِلُنْ، فَعِلُنْ، فَعِلُنْ..."، فنسينا نفوسنا، واستأنفنا غناءنا على إيقاع الرصاص الكثيف الذي كان يتبادله الفدائيون مع جنود الاحتلال، فعلن، فعلن، فعلن... * على الرغم من صرامتك التي تعبر عنها ملامح وجهك، ونظراتك الثاقبة التي كثيرا ما تستغني بها عن التوبيخ والتقريع، لم نكن نجد فيك القساوة التي تُرْهبنا، أو العنف الذي يرعبنا، وإنما كنا نَتهَيّبك، ونخشى غضبتك الهادئة دائما. وكنا نشفق على أنفسنا من أن نَجْلب مجرد لومك وعتابك. وكان من أساتذتنا من هم غِلاظ أشِداء علينا. إذا غضبوا أرْعَدوا وأزبدوا؛ ولكنهم لا يحْظَوْن لدى تلاميذهم بشيء من تلك الهيبة التي كنت تحظى بها أنت لديهم. ولقد كانت ساعة كل درس من دروسك ممتعة، ينتظرها القسم الأكبر من التلاميذ باشتياق، ويجدون أكبر عيوبها أنها تمر بسرعة كأنها بضع دقائق... وهذا هو المقياس الحقيقي لنجاح الأستاذ، وليس نقطة المدير، أو تقرير المفتش. * أما أنا فلا شيء يمنعني من أن أذكُر، في معرض تعداد مناقبك أيها الأستاذ المَهيب، أن ثلاثة عوامل عملت على تقريبي منك. أولها عنايتي المتميزة بدروسك. وكنت تلاحظ ذلك، وتعطيني الانطباع بأنك تلاحظه. وكانت تبدو نتائج عنايتي جلية في الاختبارات الدورية، وفي إجاباتي الشفوية على أسئلتك في القسم. وثانيها أنني كنت مُغْرَما بالشعر عموما، وبالعربيّ منه بوجه خاص. وكنتُ أحاول منه ما أحاول من عبثيات الصِّبا؛ فلما علّمْتَنا البحور الأولى وأوزانها في مادة العَروض، استوعبتُ معنى الإيقاع الشعري، وأصبحتْ محاولاتي مع الوقت أقل عبثية. فلما تجرأتُ بعد التردد الكبير، المُضْني، على إعطائك نماذج منها لتصححها لي، فتحَتْ لي عباراتك التشجيعية القوية باب الاستمرار في المحاولة على مصراعيه. وأنا ما زلت احتفظ في أوراقي العتيقة بمجموعة صبيانية منها، صححت لي ما صححت من أخطائها الكثيرة والمتنوعة، ثم دونتَ الملاحظات العامة، بالقلم الأحمر، تحت عنوان فخم، "إلى الشاعر المُفِْلق فلان..." ولم يُدوّخْني الإطراء اللطيف، ولم يَغُرَّني عنوان الفخامة الذي فهمتُ تماما أنك إنما كنت ترمي من ورائه إلى تشجيعي كي لا أتوقف عن التجريب والمحاولة... وكان الشعر عاملا ثانيا قربني منك، ووثق فيما بعد العلاقة بيننا. أما العامل الثالث، ولست أدري مقدار تأثيره أثناء هذه المرحلة، فهو كوننا نحمل اسما عائليا واحدا. وقد ظل عند كل من يعرفنا موضوعا للتساؤل والاجتهاد... * لا يمكن لأحد منا أن ينسى تلك السنوات التي التقتْ فيها عناصر متباينة من مزيج غريب، الحرص على التحصيل، والتجاوب مع أحداث الثورة، والتعرض لقمع الاحتلال وعدوانية مستوطنيه، (ألقيت علينا ونحن في فناء المدرسة، أثناء فسحة الاستراحة القنابل أكثر من مرة)، والمقاومة بالإضرابات، والمشاركة في التظاهرات الطلابية التي تنظم على مستوى كل ثانويات المدينة. وكثيرا ما كانت مسؤوليات التنسيق فيها تؤول إلى مدرستنا. وسبب هذا التشريف هو أن كل من في مدرستنا من التلاميذ هم "عرب"، مما يعني أن عوامل سرية الإعداد أوفر، فنحن كلنا "عرب"، وهم خليط متشابك من "العرب و الفرنسيس". * ثم كان توقيف القتال الذي مهد للفرحة الكبرى بالاستقلال. ثم تغيرت المصائر، واختلفت أحوال الناس كافة. أما أنت أيها الأستاذ فقد ابتدأتَ مرحلة جديدة ومتميزة من جهادك التربوي. فما إن حان وقت الدخول المدرسي حتى عينت أولا مفتشا للغة العربية في ذلك الزمان الصعب، والعربية قد فعل فيها الاستعمار الأفاعيل. ولم تدم في هذه المهمة طويلا لأن الوطن قد احتاج إليك في مهمة أكبر وأشق، إذ عينتَ مفتشا لأكاديمية ولاية قسنطينة القديمة، وكانت تنضوي تحتها مناطق شاسعة صار الكثير منها ولايات. وقد كنتَ المشرف الفعلي على تطبيق سياسات الدولة في المجال التربوي في هذه المناطق كلها. وقد أشرتُ سابقا إلى أنني عاصرتُ مسؤولياتك في تلك الأكاديمية مدة قصيرة بضعة أشهر عندما عينتُ أستاذا في ثانوية الشيخ ابن باديس، عام 1966 وقد بقيتَ، على رأس الأكاديمية، تسع سنوات كاملة تمارس أحب عمل إليك، في أعز مدينة عليك. ولم أكن أدري، بعد مفارقتي قسنطينة في الظرف المُحْبِط الذي ألمعتُ إليه، وفؤادي في مأتم من الطلاق البائن الذي أوقَعْتُه على التربية التي كنتُ أخليت قلبي من كل شيء إلا منها، لم أكن أدري أن قدرَيْنا سيجتمعان، مرة أخرى، في الرحاب التربوية المقدسة. وكان اللقاء في العاصمة. وكان المرسوم في الآفاق مرحلة متميزة، تتم فيها القفزة المأمولة. * * عهد التأصيل والتحويل * في شهر سبتمبر 1970 أجرى الرئيس بومدين تعديلا وزاريا كان من أبرز ما اقتضاه تقسيم وزارة التربية الوطنية، (التي لا أحدَ في هذه الدنيا يصفها بالوطنية، إلا نحن، تقليدا منّا أعمى لفرنسا، دون أن يعرف أحد لماذا يكون لها هذا الوصف دون الصحة، أو الثقافة، أو الزراعة، أو التكوين، أو الصناعة... تماما كما أننا نحن الوحيدون الذين نجعل من وزير العدل "حافظ الأختام"، ولا أحد يدري ما هي، ولا أين هي الأختام التي يحفظها. بيد أن الذي يدريه الجميع هو أننا تَبَعٌ لفرنسا، وعالة عليها حتى في تسمية مؤسساتنا! نسمي كما تسمي هي، والسلام، على مولانا الإمام)... والمهم، إذن، أن وزارة التربية هذه صارت ثلاثة قطاعات حكومية، قطاع التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وقد استقل بوزارة سميت وزارة التعليم الابتدائي والثانوي، (وهي تسمية قزّمت ميدانا عملاقا، في نظر أهله على الأقل، وأغضبت المربين والمربيات. ولكن بطائق التغييرات الحكومية لا تُعدها الأسرة التربوية، ولا يستشار أفرادها في التسميات التي تَعني قطاعاتهم، مثلهم في ذلك مثل غيرهم)، وقد أسْنِدت إلى الأخ عبد الكريم بن محمود الذي جاء إليها من وزارة الشباب والرياضة. وقطاع التعليم الجامعي الذي استقل، للمرة الأولى، بوزارة سميت "وزارة التعليم العالي والبحث العلمي"، وأسندت إلى المرحوم محمد الصديق بن يحيى. وقطاع الثقافة الذي انفصل عن وزارة التربية التي كان تابعا لها، بصفة ضمنية، منذ الاستقلال، وقد ألحِق بما كان يسمى "وزارة الأخبار"، التي صارت تسمى بحكم هذا التعديل "وزارة الإعلام والثقافة"، وأسندت إلى الدكتور أحمد طالب الذي ذهب إليها من وزارة التربية. * بعد أيام قليلة من تنصيب الأخ الصديق سي عبد الكريم بن محمود في وزارته الجديدة، دعاني إلى أن أكون من أقرب مساعديه على رأس ديوانه. وكنت أستاذا بثانوية/ عمارة رشيد، منذ سنة 1967. ثم بعد مدة قصيرة نَصّب الأخ عبد الحميد مهري أمينا عاما للوزارة. وعندما أقرّ مجلس الوزراء المِنْظام الجديد للوزارة، ثُبت أكثر المديرين ونوابهم في مناصبهم؛ وعُين المديرون الجدد للمديريات المستحدثة، فدُعي الشيخ عبد القادر بن محمد ليلتحق بالطاقم المسير للوزارة بصفته "مديرا للتكوين والتربية اللامدرسية"، وهو مفهوم جديد يشمل تعليم الكبار وليس مجرد محو أميتهم. وهكذا تركتَ قسنطينتك الغالية لديك، أيها الأستاذ الألوف، وفارقت أكاديميتك العزيزة عليك، بعد أن مكثت على رأسها تسع سنوات كاملة من 1962 إلى 1971. دعاك قدَرُك إلى العاصمة، مرة أخرى، فلبيت النداء. ثم لم تغادرها أبدا لا يمكن أن يتسع المقام لأورد ولو بإيجاز أهم أحداث هذه المرحلة التي دامت إلى شهر أكتوبر من عام 1977. وقد تحققت فيها أمور هي غاية في الأهمية إذا ما دقق فيها النظرَ الملاحِظ ُ النزيه ذو العدل والإنصاف. ففيها انطلقت مسيرة التعريب بطريقة صار التوسع فيها آليَّ الحركة، تتقدم سنة بعد سنة بصفة مبرمجة سلفا، بحيث لا تخضع لمزاج أصحاب القرار، ولا تحتاج إلى التفاوض من أجلها في كل عام... وقد عُرفت "بالطريقة النُّقَطيّة". وفيها تم إنشاء "التعليم المتوسط"، وإحداث سلك جديد هو أساتذة التعليم المتوسط. وكنت أنت، يا حضرة الأستاذ، مهندس التكوين الذي أشرف على تخريج عشرات الآلاف من أولئك الأساتذة الذين استُحْدثت لهم المؤسسات التي سميت "المعاهد التكنولوجية"، ولئن كان إعدادهم التربوي ناقصا بكل تأكيد، فإن التزامات الدولة "بديمقراطية التعليم"، وحتمية استقبال مئات الآلاف من التلاميذ الجدد، كل سنة، لم يترك مجالا لحل آخر... وفيها بشكل خاص صاغ الرباعيّ المشهور، وأنت أحد عناصره الفاعلة، "ميثاق التربية" الذي حدد المنطلقات الفكرية التي تقوم عليها فلسفتها في بَلدنا. (وقد بدأتَ نظم هذا الميثاق مع تلميذك شعرًا). وفيها وُضع إصلاح التعليم الشامل الذي حملته أمرية 16 أفريل 1976 والمراسيم الملحقة بها، وكان ذلك الميثاق ديباجة لها... وعلى المستوى الإنساني كان الطاقم الوزاري يعمل بتناغم وانسجام، بفضل حكمة الوزير، ولباقة الأمين العام، وتضامن الجميع. وكانت فترة سعيدة جدا من حيث تطور العلاقة الحميمة بين التلميذ وأستاذه، فهي من غير أن تتخلى عن التوقير، والاحترام التام الواجب للأستاذ في جميع الظروف، ارْتقت، فوق كل ذلك، إلى أعلى درجات الصداقة التي تصبح فيها المودة، بدل الهيبة، هي أساس العلاقة، وتغدو الزمالة في العمل شراكة عاطفية يتجاوز مداها المعنِيَْين، لتمتد عبرهما إلى كل أفراد الأسرتين!... * ولقد أتاح تبادل الأشعار لهذه العلاقة عمقا وقوة ما كان أحدنا يتوقعهما لها. أما أنت فشاعر لا تستطيع أن تعيش بدون الشعر. وقد اقتنعتُ بأنه صار عندك طبيعة ثانية بحيث كان أول رد فعلك أمام أي طارئ، كيفما كان نوعه، هو البحث عن صياغة موقفك نحوه شعرا، حتى حين يأتي نظمك على عجل وتقول إنه من "ديوان الهامشيات"... وأما أنا فمنذ نهاية المرحلة الجامعية فارقني الشعر وفارقته، وكانت تمضي عليّ السنون الطويلة دون أن أجد في نفسي ذاك الميل الذي كنت أجده إلى مداعبة أوتاره. ولكنك أنت "فرضت" علي فرضا أن أشاركك "شعر الهامشيات"، وهو نظم بسيط، يميل إلى التراكيب العامية واستعمال الكلمات الفكهة للترويح والتمليح. وهو عادة يأتي تعليقا أخويا على مداخلة أحد المديرين، أو وصفا مضحكا للطعام الذي يتناوله المشاركون في ندوة أو مؤتمر. وقد كنتَ ترسل إليّ أبياتك مكتوبة، ونحن في الطائرة، أو في مأدبة، أو في أواخر اجتماع طويل متعب، فلا أملك إلا أن أجيبك إلى ما تريد. وقد اجتمع لك مما أشركتني فيه يا عاشق الأشعار ومما أشركتَ فيه "نظّامين" آخرين من إطارات الوزارة، ديوانٌ ضخم فيه مئات الأبيات، سميته "ديوان الهامشيات"، وارتأيت أنه ليس مما يُنشر. وقد أهديتني منذ سنوات مضت نسخة منه، ولا شك عندي في أنك أضفت إليه أشياء كثيرة في الأعوام الأخيرة. وهو سجل حافل دونت فيه بالتواريخ أهم نشاطات الوزارة، وأهم رحلاتنا المشتركة من بغداد، بلد الرشيد، إلي نيويورك اليانكية. ومن دمشق الأموية، إلى أكابولكو المكسيكية على المحيط الهادئ البعيد. * * وهبّت على التربية هُوج العواصف! * في شهر أفريل 1977 بدأت نُذر العاصفة تلوح في آفاق التربية؛ بمناسبة تغيير وزاري كان آخر ما أجراه الرئيس هواري بومدين من التغييرات. وقد تميز بعسر الولادة، وغرابة المولود... وأخذتْ، منذ بدايته سماء التربية تتلبد بغيوم داكنة، يومض برقها، ويلعلع رعدها... ولكن خبراء الرصد، العارفين بنزوات الطقس المعتادة في ذلك الفصل، قد أجمعوا على أنها سحابة جَهام، ليس فيها قطرة مطر واحدة؛ وأن برقها خُلَّب، ورعدها جعجعة عابرة. وأكدوا أن أخطر ما يُتوقع من آثارها السلبية، العاصفة الآتية في ركابها، والتي ستقتلع الأشجار الباسقة، و"تكُبُّ على الأذقان دَوْحَ الكَنَهْبَل". وظهر للعيان ما كان قد بُيّت للقطاع من مشاريع الذبح والسلخ... وبعد شهور قليلة، صدرت الجريدة الرسمية متضمنة إنهاء مهام 32 إطارًا، هم مجموع من شارك في إعداد الإصلاح التربوي الذي تضمنته الأمرية الرئاسية التي كان أمضاها هواري بومدين يوم 16 أفريل 1976، ثم بعث لها في أفريل 1977 من يدفنها قبل أن تخطو خطوة واحدة في طريق تطبيقها. فهل انقلب الرئيس على نفسه بإرادته الحرة؟ أم كان مغلوبا على أمره، لم يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟... ولم يكن صدفة أن تلك العاصفة هبت أيضا على وزارتي الثقافة والتعليم العالي. وتكريما للوزراء الثلاثة على جهودهم العاصفة مُنحوا، أظن، وسام الأثير سنة 2000!.. * وخرجتَ يا أستاذ، وخرجنا جميعا، 32 إطارًا معينين بمراسيم رئاسية، فلم تتحرك شعرة ألم لمصير عشرات ممن أفنوا حياتهم في خدمة قطاع لم يدخروا شيئا من أجل تقدمه. وكنت أيها الشاعر الحساس قد رثَيْت نفسك بعد هذه الحادثة، ورثيت إطارات الجزائر كلها، بقصيدتك التي عنوانها "أرثيك يا نفسي بنفسي..." فيها تبكي العمر الذي جعلته وقفا على خدمة البلاد، ثم ها أنت ورفاقك تَلقون جزاء سنِمّار... * وبعد ذلك كله، انتهت العاصفة كما بدأت، بعد أن تركت وراءها الحديقة الغناء قاعا صفصفا، ولم ينجُ منها ما نجا إلا لأن العناية الإلهية كانت قد غيرت مصائر بعض الذين يتحكمون في المصائر... وقد دعيتَ بعد ذلك إلى العودة إلى وزارة التربية، وتقلدتَ فيها أعلى المناصب، فكنت أمينا عاما لها، وتقلدت مناصب عليا في قطاعات أخرى كديوان وزارة العدل... ولكن طعم الوظيفة يومذاك لم يعد كطعمها في زمن مضى، "لا الدار دارٌ، ولا الجيرانُ جيرانُ!"... * أيّ منصب، يا بطل الملاحم التربوية، مهما علا شأنه، يستطيع أن ينسيك لحظة الوجَع القاتل التي قلتَ فيها يائسا، * "...أمْسِي طريدا من وزارتيَ التي * كانت وما زالت نسيم هوائي * أسفي على التعليم راح جمالُه * أبدا، ومات رجاؤه ورجائي * طلقتُها أبدا ثلاثا بعدما * أفنيت عمري في حِمَى المدراء. * سأقول للأجيال ضمن قصائدي * إن الضياع مطية الأمناء"!!... * فجازاك الله، يا مربي الأجيال، خيَر الجزاء؛ وجعل الله لك الجنة هي المأوى، وعوضك عن فعل الذين يزرعون العواصف، دار الخلد والنعيم المقيم. فوداعًا، وداعا... يا طيِّبا قلّ نظيره في طيبته، ويا معلما عز مثيله في تفانيه، ويا صديقا نَدَر من يُضاهيه في صفاء المودة، وصدق الصُّحبة... فمني، من تلميذك الوفي، من رفيقك في مقطع من طريقك التربوي المديد... * "مني سلامٌ ورَيْحانٌ ورَوْحٌ ورحْمة * عليكَ، ومَمْدودٌ من الظل سَجْسَجُ. * عَفاءٌ على دار ضَعَنْتَ لِغيْرها * فليس بها للصّالحين مُعَرَّجُ ...". * وختاما: الوداع ، الوداع، الوداع... من قلب عامر بمودةٍ لك لا تُشرَى ولا تُباع..!! * * أيها الراحلُ عنّا.. * يا أعَز الراحلينْ ! * ما لنا في أصعب الأوقاتِ، * أوقاتِ الوداعْ، * غيرَ أنّاتِ الوفاءْ.. * ودموع في الخفاءْ.. * وحريقٍ الالتياعْ... * في ضلوع الشرفاءْ... * ثم لا نامت عيون الجبناءْ!!..