يعتبر عبد القادر علولة من المسرحيين القلائل الذين يتميزون بوعي مسرحي متفتح على ثقافة الحرفة بمعناها الحقيقي، فكان مؤلفاً وممثلاً ومخرجاً، متميزا، إرتبط فنه بهموم شعبه، وراح يجد في البحث عن صيغ وأشكال مسرحية تنطلق من موروثنا المحلي لتصنع فرجة جزائرية متأصلة و متميزة· لذا عمل بمزاج الأكاديمي والمجرب لإرساء رؤية واقعية ''بسيكولوجية وستانسلافيسكية'' مرتبطة بهواجس مكانه وزمانه، وممتزجة ببرنامج برتولد بريخت المسرحي، ومستمدة من تجارب المسرح العالمي ما يضيف لمحليتها تميزا وجمالا· ارتبط مسرح علولة كثيرا بالجمهور، الذي كان يمثل الحافز الأول والأخير لتجربته المسرحية الحافلة بالمصاعب والنجاحات، التي حققها منذ بداياته الأولى مع المسرح الهاوي عام 1956، حتى اغتياله في العاشر من مارس 1994، إذ كان في اكتشافه الدائم ودأبه المتواضع يعمق أدوات التواصل بين مسرحه، وبين الجمهور الذي خاطبه، وحقق نجاحه الفني من خلال التواصل معه، فبدأ يبحث عن المسافة التي تفصل عروضه المسرحية بالجمهور، والبحث عن كيفية التعامل معه -علما أن هذا الجمهور ذو ثقافة ''شفهية''-· يقول الباحث أحمد إسماعيل أن اكتشاف الجمهور هو شرط اكتشاف المسرح ''فهو المعلم الأول للفنان المسرحي''(1)، وتعمقت رحلة علولة في الغوص في التراث الشعبي، لفهم مكوناته الدقيقة وأشكاله الفنية الخاصة، بالبحث في كتب التراث العربي ومتابعة العروض الشعبية بالأسواق ليس المقصود منه إزعاجه بانشغالات كونية متسامية وإنما يقترح لنا مسرحا، يختلف كثيرا عن ذلك الذي عهده الجمهور العربي، أساسه السرد وتغييب الأفعال الأرسطية (إلى حد ما) حبا في مشاركة الجمهور وكسر الإيهام· إن هدف علولة من تكسير القواعد الأرسطية واقتراح ''مسرح متميز'' ينطلق من تجربته الخاصة إعتمادا على التراث المحلي وقراءاته المتعددة للمنهج الملحمي، والتوجه بعروضه المسرحية إلى فضاءات جديدة، طالما كانت ماكثة في موروثنا الشعبي، فكان هم علولة تكسير الفضاء الإيطالي والتوجه إلى فضاء قديم/جديد متمثل في شكل ''الحلقة''، الذي ارتبط باسمه في السنوات الأخيرة· لقد ارتكزت الحلقة أساسا على القول، بحيث تلعب الكلمة دورا أساسيا وديناميكيا في رفض الإيهام وتزويق الفعل المسرحي، وتزويق الحكاية، ولم يكتف علولة بهذه العودة إلى تاريخ المسرح العالمي والتراث المحلي، بل انتقل ليطبق فعلا ما كان يحلم بتحقيقه، فحملت كل مسرحياته أسئلة ونتائج أخرى، سواء أكانت منتظرة أو غير منتظرة ·· كل هذه الأسئلة جعلت السيل الإبداعي لعبد القادر علولة يتدفق، بل أعاد بها النظر في رؤيته للمسرح، فكانت التجربة ناجحة في مسرحية ''الأجواد''، والتي اعتبرها النقاد أرقى مسرحيات علولة، تأليفا وإخراجا، ولما نالته من جوائز وتشريفات في الملتقيات المسرحية· تعد مسرحية ''الأجواد'' التقاء ''للواقع بالفن'' على خشبة المسرح، كما تعد بمثابة عودة ''الفوال العلولي''، بكل ما يحمل من معاني رمزية تراثية وجمالية، ليعيد إلى المسرح أبعاده الشعرية، فاحتلت ''الكلمة مقْمًّ مج'' مكانا كبيرا في حيز النص، ثم أن بلاغة الشعر النثري أضفى نوعا من الإيقاع الزاخر بالتراجيديا وآمال الجماهير المستضعفة، على حد تعبيره· إذ يعتبر عبد القادر علولة مسرحية ''الأجواد'' بمثابة تتمة منطقية ومكملة، للمسرحية السابقة ''اللثام''، فيوجد تشابه كبير ''وتذكيرات كبيرة بين هاتين المسرحيتين، فهنا يتشكل المسرح سردي، وليس بمسرح تشخيص للحركة في النمط الأرسطي''(2)، وتعد العلاقة بين مسرحيتي ''الأجواد'' و''اللثام'' ضمنية رغم اختلاف أبعاد النصين، ف ''الأجواد'' عبارة عن مجموعة قصص إنسانية في شكل قصائد، ليس بينها ارتباط عضوي مباشر، أما ''اللثام'' فهي عبارة عن ثلاثة مونولوجات تروي قصصا، جرب فيها الكاتب أثر القول .''Le Dire'' إعتبر الكثير من النقاد أن القوام الأساسي في مسرحية ''الأجواد'' هو الحكي، حيث يتشكل نصها من مجموعة قصص / حكايات، مستقلة عن بعضها البعض، لكنها تتابع ضمني (فكري) يجمعها مناخ واحد يقدم حالات اجتماعية وإشارات سياسية تهتم بالرجل الصغير الذي يحمل نفسا نبيلة وآمالا كبيرة للمستقبل· هذه الأفعال الآتية من الوجدان الشعبي على امتداد أربع لوحات تتخللها أغنيات مستمدة من التراث الوهراني (طابع موسيقي خاص بمنطقة الغرب الجزائري )، تعيد نقل الأحداث بالصوت والنغمة وذات الإيقاع الحزين، فالأغاني في ''الأجواد'' عبارة عن أمثلة من قصص إنسانية إلى شخصيات واقعية ترتبط ضمنيا بالنص العام· التشكيل الحركي: أولى علولة أهمية بالغة للتشكيل الحركي خاصة في مسرحية ''الأجواد'' إنطلاقا من بحثه المستمر عن أجواء وفضاءات جديدة تجعل العرض يقترب أكثر من المشاهد ليتفاعل معه، لعل المقولة الشهيرة التي قالها علولة حول مفهومه للتشكيل الحركي ''يوجد في هذا الفعل المسرحي على نحو متزامن فعل الكلام والكلام في حالة فعل، يعملان سوية بشكل أساسي من أجل إعطاء الأذن ما ترى والعين ما تسمع''(3)، يبدو هذا الكلام قريب من العبث؛ لأن العين لا تسمع والأذن لا ترى - الخلط في مفهوم الحواس - لكن إذا حاول القارئ أن يحلل هذا الكلام، يجد فيه ما أراد المخرج توضيحه لممثليه ضمن إطار التشكيل الحركي، لذا يطلب منهم أن يجعلوا النص متعدد الأبعاد، محاولين تصويره من خلال السمع حتى يتمكن المتلقي من أن يرى عبر خياله، جُل الصور التي تصدر عن المفردة، وأن يجعل العين تسمع النص الحركي أي كل التحركات التي يضعها المخرج تصدر أصواتاً أو مفردات توحي بنصٍ ثان، يشكل في الوقت نفسه الموجة المترددة عن النص الأول· إن أساس التشكيل الحركي في مسرح علولة يعتمد في بنيته على تفجير النص إلى حركات تصب في المعنى الذي يطمح إليه، أو تفجيره على حركات تعاكس ما يتضمنه النص، فمثلاً حينما يتكلم أحد الممثلين عن حرية التعبير ترى حركة معاكسة صادرة عن ممثلين آخرين يحاولون منع ممثل آخر عن الكلام موازاة مع نطق النص - جملة حرية التعبير - وبذلك تعاكس تلك الحركة النص المنطوق وتغربه، ويؤكد علولة ذلك بقوله: ''هذا المسرح يعطي الأفضلية للقدرات السمعية، وبالتالي القدرات التخيلية ذات القوام البصري وتمثيل مبسط على أقصى درجة، حتى يصل في بعض المواضع إلى مستويات عالية من التجريد لكي لا يتخطى القوة الإيعازية للمنطوق وللقول''(4)· لقد عمد علولة إلى تجسيد التشكيل الحركي وفق معرفته المسبقة بقدرات وطاقات ممثليه، فكانت عملية توزيع الأدوار ترتكز على هذه الخاصية وعلى معرفته المسبقة بمستواهم الفكري وفهمهم للأدوار والشخصيات، فالميزانسن مرتبطة بتفسيره وآرائه الفكرية وبالحلول الفنية التي أرادها لعرضه، طبعاً هذه العملية كانت تتم بعد مناقشة المسرحية أثناء عملية معالجة النص مع المثلين والمصممين حتى يتسنى له ترجمة العمل الأدبي ''النصي'' إلى لغةٍ حركية، والوقوف على خصوصية الموضوع المطروح للمعالجة، من خلال إبراز جميع نقاط قوة النص بالتشكيلات الحركية عجز عن إبرازها، بوسائل تعبيرية تنطلق أساساً من جسم الممثل وحركاته وصوته، إضافة إلى الأساليب التعبيرية الأخرى، كالديكور والملابس والإكسسوارات والإنارة والماكياج· كان المخرج يبحث دائماً عن العرض المتكامل الذي يستمد قوته من مشاركة الجمهور حتى تستقر في ذهنه كل الملاحظات التي يراها ضرورية وصالحة لتغيير شكل ذلك المشهد أو ذاك· لقد علمنا أن المخرج تأثر واستمد جل تجربته من خلال قراءاته للمنهج الملحمي لبرتولد بريخت والذي أولى له اهتماما كبيراً، لأنه مثل له المعبر الفني لاستلهام التراث بهدف إنتاج شكل مسرحي يستنبط أفكاره من التلاقح بين التراث والملحمية، ويرى فيه المشاهد الجزائري خصوصيته رغم مواضيعه الإنسانية - الطبقة الكادحة -، كما عمد علولة إلى الأخذ من مناهل المنهج النفسي لستانسلافسكي في قضية تكوين الممثل (إكتشاف حركة الفعل المسرحي وفقاً للحوار الداخلي ولضبط الإلقاء والولوج إلى أعماق الشخصية المسرحية) لتسهيل مهامه كمخرج يبحث عن الأساليب الفنية التي تساهم في تكوين ممثليه وفي تعاملهم مع النص· وكذا اقتراح نموذج إخراجي يجد من خلاله هويته كمثقف جزائري عربي، تكون فيه الكلمة - سلطان العرض - محور العرض· إن التشكيل الحركي بالنسبة لعلولة يتجدد في كل عرض - في خطوطه الأساسية - فهو يعتمد بالدرجة الأولى على استجابة الجمهور ومشاركته أثناء العرض، كما يمكن القول أن النص يتجزأ إلى حركات بسيطة لا تستدعي طاقات فكرية كبيرة لفك رموزها، فهي أشبه بالتحركات التي يقوم بها المشاهد في حياته العادية، إذن من هذا المنطلق؛ نستطيع القول أن التشكيل الحركي عند علولة يعتمد التبسيط و الإيحاءات التي تجعل المشاهد في كل لحظة من لحظات العرض يقظا بالنسبة لما يقدمه الممثلون، ثم إن علولة يعتمد بالأساس على التشكيلات الحركية المستوية، والعميقة والتي تأخذ طابعا أفقياً أو عمودياً ، أو حتى نصف قطري، فكل أفكاره المسرحية تمثل بطريقة لينة حتى يتسنى للمشاهد أن يرى الكثير من القيم الفنية، من خلال حركة الأجسام البسيطة التي هي أشبه بالحركات البهلوانية· عمل علولة على توظيف لغة الجسد؛ كلغة أساسية (أذكر هنا الحركات التي ترافق الأغاني وتفجر بطريقة معاني ومغزى النص حتى يتمكن المشاهد من سماع النص في بعده الأول، ورؤية حركته في البعد الثاني في نفس الوقت) هذا الجسد الذي طمح علولة لتوظيفه كلغة جمالية - تشكيلية - في ''الأجواد'' في طبعتها الثانية (لأن الفضاء الإيطالي أعاق نوعاً ما رؤيته الإخراجية)· إن الحركة في مسرحية ''الأجواد''، ليست تصويرية فقط للنص الأدبي بل تشكل معادلاً موضوعياً لروحه وتعكس كل رموزه الخفية، قصد مشاركة الجمهور، باستغلال كل مناطق المنصة، إلا أن علولة - في الطبعة الأولى من ''الأجواد'' - ركز معظم تشكيلاته الحركية في منطقة وسط الوسط، ربما حتى يسمح برؤية العرض من جميع زوايا القاعة أو بغية التركيز على أن هذا المسرح يعتمد بالدرجة الأولى في تشكيله على روح الحلقة في شكلها الدائري (أنظر الصورة)· يقدم عرض ''الأجواد'' متعة بصرية، خاصة حينما يدخل معظم الممثلين الفضاء الركح، لتتنوع حركاتهم وتمنح المشاهد تشكيلات حركية ذات لون مميز في لباسهم وجماليات حركاتهم· إن الفضاء الحركي الذي يجسده المخرج يتغير من مشهد إلى آخر، ويلتقي في نقطة واحدة (داخل حيز المنصة) وهي البراتيكابل المركزي الذي يتوسط الفضاء، فكل التشكيلات عند المخرج تنطلق حتماً من الوسط لإبراز جميع الصور المسرحية في شكل نصف دائري· في هذا الصدد، أذكر أن الشكل الدائري للحلقة عند علولة لم يكتمل، فالدائرة في مسرحه غير مغلقة في شكلها الهندسي كما يزعم الكثير من الباحثين، إذ أن الحلقة تعد من أقدم الفنون الأدائية في مناطق المغرب العربي، حيث يصعب تحديد تاريخ معين لظهورها، تأخذ الحلقة إسمها من شكلها الدائري وفضائها الهندسي المميز الذي يتحلق حوله المتفرجون(*) بحيث يتوسط صاحب الحلقة مركزها وهو يواجه، من موقعه ذاك، جمهوره، مما يجعله يتحكم في المشهد بكامله· إستحضر علولة الشكل الحلقة - بما يحمل من شاعرية - من الحياة اليومية إلى المسرح، دون أن يترك ''الفوال'' في وسط الناس، وأضاف له ممثلين آخرين يحملون معه الحكاية ويرونها بشكل جديد والمضمون جديد، ف ''الفوال'' يعد بمثابة الشخصية المركزية في مسرح علولة، هذه الشخصية التي تحمل الكثير من المعاني في التراث الشعبي لبلدان المغرب العربي، خاصة في الجزائر والمغرب، ولعل أهم خاصية تمتاز بها، مستغرقة في التسمية ويقول علولة في شأنها ''القوال هو حامل التراث الشفهي بكامله، فهو يؤلف ويغني، ويروي الحكايات والأساطير المتداولة''(1)، وفي مسرح علولة يعتبر بمثابة حامل العرض المسرحي ككل، ففي عملية الأداء تتزاوج الطرق ما بين التمثيل بالطريقة الأرسطية ِّْمُّفْْفَ َمىلجٍُك مٌ والقول أو الحكي لكسر الإيهام بالطريقة التي جلبها علولة من التراث لأن التغريب في شكله البدائي متواجد في الحلقة الشعبية· بعد عشر سنوات من البحث والتنقيب في أسرار هذا التراث عكف علولة على دراسة الثقافة الشعبية بوجه عام، والفنون الشفوية (الفوالة)، وأشكال الاحتفال، وأنماط التعبير الأخرى بعد أن جاب القرى والأسواق، وحضر الاحتفالات الشعبية: حيث سجل، وفكر، وقارن· لقد أخد بزخم هذا التنوع التراثي ليجعل منه المادة الخام لاستلهام موضوعات وأشكال ذات خصوصية محلية، وبلوغ شكل مسرحي (الحلقة) يخالف تقاليد المسرح الغربي، ليصير بذلك رائدا في التأسيس لمسرح جزائري يستمد أصالته من عمق تراثه الشعبي· فلاحظ دور الفوال في عملية السرد الحكائي وكيفية تعامل هذه الشخصية مع الجمهور، وحاول بذلك نقل هذا النموذج البدائي إلى منصة المسرح برؤية درامية جديدة جعلت من الفوال نمودجا مسرحيا جديدا يتابعه المشاهد الجزائري باهتمام، ليظهر عن طريق سرد أحداث وحكايات مشوقة ترويها عن شخصياته المسرحية· ختاما، يمكننا القول أن تجربة ''علّولة'' تجربة مسرحية فتية، كانت في طور التشكّل إستناداً إلى قوله بأن ما توصل إليه من نتائج لازال في مرحلة الصياغة والتجريب· هذه التجربة الفنية التي يزيد عمرها عن ثلاثين سنة من العطاء المتواصل، لم يشأ لها القدر أن تكتمل، ذلك أن صاحبها كان بطلا لمسرحية أخرى لم يخبره مخرجها أن البطل يموت فيها قبل نهاية الفصل الأخير···