هذا حوار شيق بين الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخس المولود عام 1898 بالأرجنتين صاحب روائع ''الآلف''، ''تقرير بوردي''، ''مكتبة ابن رشد'' وغيرها من الأعمال القصصية والشعرية الرائعة، والكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج المولودة سنة 1933 من مؤلفاتها ''الخيّر''، ''عاشق البركان''، ''في أمريكا''، ''الأرض الموعودة'' و''ضد التأويل''· سوزان سونتاج أريد أن أحكي شيئا·· مكثت أسبوعا ببوينس أيرس، طبعا سعدت كثيرا للدعوة التي وجهت لي قصد المشاركة في معرض الكتاب، وبهذا سأتعرف على الأرجنتين· تلقيت مكالمة هاتفية، أياما قليلة قبل السفر إلى هناك، من قبل صحفي أمريكي كلف بإجراء حوار معي، سألني ما هو شعورك عندما تسافرين إلى الأرجنتين؟ قلت له سأكون في غاية السعادة، كنت دائما، أنتظر السفر إلى الأرجنتين على أحر من الجمر طبعا ستسألني ببساطة، ولماذا الأرجنتين بالذات؟ لأجيبك بأنني كنت، دائما، أريد الذهاب إلى بلاد بورخس، ضحك الصحفي ضحكة هيستيرية، ثم أردف قائلا ''طبعا طبعا إنه كاتب كبير، ولكن أظن أن هناك سببا آخرا لهذا السفر، شعرت بشيء من الضيق من هذا السؤال، ثم وطنت نفسي على أن أكون أكثر حزما لأضيف طبعا كنت أريد الذهاب إلى الأرجنتين لأعبر عن مدى إعجابي لعودة هذا البلد إلى الديمقراطية، في حقيقة الأمر، السبب الأول هو الأكثر تحفيزا لقيامي بالسفر إلى الأرجنتين، فبورخس ليس كاتبا معروفا فحسب، بل يحظى، أيضا، بإعجاب العديد من الكتاب، لقد علمنا أشياء كثيرة، لقد استفدنا كثيرا من تلك الألعاب التي علمنا إياها، لم يصل بورخس إلى هذه المكانة المرموقة بسهولة، أذكر هنا إحدى مقولاته التي تعزز ما أنا بصدد تأكيده يقول: تعبت كثيرا من المتاهات، النمور، المرآة، خصوصا عندما يرنو الآخرون إليها، هذه الجملة أعجبتني كثيرا لأن بورخس يحسن جيدا تحويل ما هو غير مفيد إلى شيء مفيد يقول، أيضا، ''إحدى الميزات هو أن يكون هناك من يقلدك، بعض الناس يقومون بما أقوم به، لذا وجدت أنه ليس ضروريا أن أفعل ما يفعل الآخرون، ذكرت هذه العبارة لأبين مدى تأثيره في، وفي بعض الكتاب رغم أنني لا أعلم أن ما قاله مجرد خيال، ولكني أقول أنه كان، دائما، متواضعا بالقياس إلى عظمة أعماله· خورخي لويس بورخس: لا لست متواضعا كل ما في الأمر أنني واثق من نفسي، لا أكثر ولا أقل، أندهش عندما أعلم أنني شخص معروف، لم أفكر في هذا قط، بعد 50 عاما لم أعد مجهولا، لقد اعتدت، الآن، على الشهرة، رغم أن هذا يكلفني الكثير من الجهد، أنا دائما مندهش من كرم الآخرين لدرجة أنني كنت أعتقد أنني أحد المخلوقات الغيبية، غير أنني أقول أنه بإمكان البعض أن يكتشف بأنني أكبر كاذب، في الواقع أنا كاذب رغما عنه، طيب لنؤمن بهذا الخيال الذي يعتبرني كاتبا جيدا، وبما أن هذا الرأي هو مجرد لعبة فليلعبها الجميع، فنحن لم نأخذ هذا التلاعب مأخذ الجد قط· أكثر الأشياء التي أجلها فيك هي شخصيتك الأدبية· للأسف كوني شخصية أدبية، أريد أن أقول أنك قلقت بسبب اهتمام الآخرين بك· لست أهتم بالإعجاب، ولكني أحب الصداقة والتسامح مع الآخرين· كنت، دائما، تتحدث بإعجاب شديد عن كتابة الماضي· كنت، دائما، معجبا بالكتاب الأمريكيين على وجه الخصوص، فأنا مدين لهم بالكثير، عندما أفكر في إنكلترا الجديدة (أمريكا) تتزاحم في خاطري مجموعة كبيرة من الأشخاص المرموقين الذين أنجبتهم انكلترا الجديدة (ربما علماء الفلك يعرفون سبب ذلك) أذكر على سبيل المثال لا الحصر، إمرسون EMERSON ملفيل EMILY , THOREAU, HENRY JAMES MELVLLE DICKINSON وآخرين·· فلولاهم لما ظهرنا نحن، فما نحن سوى مشروع أنجبته انكلترا الجديدة· أظن أنك، في البداية، كنت مهتما بالأدب الانكليزي· صحيح، لكن أول رواية قرأتها في حياتي هي لمارك توين MARK TWAIN تم قرأت غزو المسكيك والبيرو لبرسكوت BRESCOT، أسعى جاهدا حتى لا أكون جاحدا إزاء أستاذتي، أعتقد أن الماضي، كله، يؤثر في الكاتب، وليس البلد أو اللغة فقط، فاللغة، كما قال كورس CROCE هي شيء جمالي، فاللغة هي نتاج عمل الآلاف من الأشخاص· فقدت بصري سنة 1955 ولهذا كرست نفسي لإعادة قراءة الأعمال التي قرأتها من قبل ذلك قراءة أعمال جديدة، فإعادة القراءة هي نشاط مهم جدا، فعند إعادة القراءة نجدد صياغة النص، فنحن عندما نعيد القراءة نحس أننا مختلفون عما كنا عليه عند القراءة الأولى كما يقول هيراكليتو HERACLETO ''لا أحد يستحم مرتين في نفس الواد''، فالواد يتدفق وهيراكليتو يتدفق، أيضا، وأنا أشعر أنني ذلك الشيخ هيراكليتو الذي يستحم ليس في نفس الواد، ولكن في واد آخر كي أشعر بالإنعاش نتيجة لبرودة الماء· لا أحد يقرأ كتابا مرتين صحيح الفكرة التي أشاطرك إياها ليست متداولة بكثرة لأن الناس، غالبا، ما تزهق من الأصالة· أعتقد أن الأصالة شيء مستحيل التحقيق، يستطيع الواحد منا أن يحدث تغييرات طفيفة جدا في التاريخ، لكل كاتب نبرته الخاصة، قالبه الخاص، لا أكثر ولا أقل، نجد كل جيل، مثلا، يكتب نفس الأشعار، يحكي نفس القصة بفارق بسيط، في النبرة والصوت وكفى· هل تأثرت بآداب أخرى بالإضافة إلى الأدب الانكليزي والأمريكي؟ طبعا، خاصة الأدب الإسكندنافي، الملاح والأقصوصات الإسلندية، فلكل أدب قيمته، تخيلي عالما دون فرلان VERLAINE، دون هوجو HUGO سيكون عالما تعسا دون شك، لماذا انتسبت لهؤلاء؟ لماذا نملء مكاتبنا؟ لأنها تمنحنا سعادة لا توصف، لو كنت روبرسون كوروزو ROBRUSON فإنني سأحمل معي في تلك الجزيرة كتاب ''تاريخ الفلسفات الغربية'' لبرنارد روسل ربما سأكتفي بهذا، لكن إذا سمحوا لي باقتناء الموسوعة يكون ذلك أفضل، فبالنسبة لشخص فضولي، لا عمل له مثلي، تصبح الموسوعة أفضل القراءات على الإطلاق، سواء القديم منها مثل موسوعة بلينيو أو الحديثة كالموسوعة البريطانية أو الأوروبية كلها موسوعات قيمة· أما أنا، فإذا ذهبت إلى جزيرة مهجورة، فإنني لا أحمل معي ''تاريخ الفلسفات الغربية'' لأنني أراه كتابا سطحيا· طبعا، فأنا أحمله معي لأنني قارئ سطحي أعتقد أنك تعتبر ذلك العمل على أنه عمل خيالي الفلسفة هي عبارة عن خيال، فالعالم، كله، عبارة عن خيال دون شك إنه ضرب من ضروب الخيال هل تعتقد أنني أريد أن أقول هذا· طبعا، فأنا لا أندهش لهذا، ولكن ما هو الكتاب الذي تحملينه إلى تلك الجزيرة؟ أظن أنني سأحمل معي كتاب rogers treassures خيار رائع دون شك ما هو النوع الأدبي الذي تريد أن تكتبه الآن؟ الذي أكتبه، الآن، فأنا أكتب أشعار وقصص قصيرة، لا تعجبني، ولكني أشعر بضرورة كتابتها عندما أفرغ منها قد أنتقل إلى شيء آخر، إنتهيت من نشر كتاب بعنوان ''المتآمرون'' يحتوي على 30 إلى 40 قطعة قصيرة، لا أعرف إذا كانت جيدة أم لا· كنت، دائما، معجبا بالأعمال القصيرة، على حساب الأعمال الطويلة· يقول بو poe أن الشعر الطويل هو الذي يجب أن يكون ولكن هناك شيء آخر طويل، أعني بها الرواية أنا لا أؤمن بهذا النوع فيما عدا، طبعا، كيخوثي أو كونراد أو ديكنز، فالروايات الرائعة لتكاري وفلوبير لا أؤمن بها، آسف على هذا الكلام· من بين الأمور التي تجمع بيننا هو هذا الإهتمام البالغ بالأدب الياباني صحيح أنا، الآن، بصدد تعلم اللغة اليابانية، فهي لغة معقدة، فاللغة اليابانية بالنسبة للغات الأوروبية هي مثل لغة الجواراني GUARANI (لغة في جنوب أمريكا) بالنسبة للإسبانية، إنها لغة مليئة بالاستعارات والكنايات، لهذا قد يقرأ القارئ عدة ترجمات مختلفة لهايكوس HAIKUS لكنها كلها وفية للأصل، لأن الأصول، غالبا، ما تكون غامضة، كنصوص هنري جمس· من بين الأشياء التي شدت انتباهي في الأدب الياباني هو شغفه بالمنمنمات· كذلك قيمة اللحظة، في هياكو نشعر كما لو أنهم يريدون أن يقبضوا على اللحظة بأيديهم، لاحظت، أيضا، غياب المجاز كأن اليابانين يؤمنون بأن كل شيء فريد من نوعه غير قابل للمقارنة· قلت أن المجاز يريد أن يجعل اللحظة تمتد إلى أطول فترة زمنية ممكنة· طبعا، وهذا هو عكس هدف الأدب الياباني الذي نجد فيه عملية توقيف الزمن والتحكم فيه· أكثر شيء لفت انتباهي في الأدب الياباني كونه شكل فريد من نوعه، يبدو حديثا جدا، إلا أنه، في حقيقة الأمر، قديم جدا، أظن أن كل كاتب يبحث عن الشكل المثالي في عملية الكتابة، خاصة البعض منهم كبورخس وأنا، فنحن، دائما، نحاول البحث عن أشكال جديدة مختلفة لنعبر عن عدم الرضا الدائم بصياغة واحدة، فالشكل المثالي، بالنسبة لي، هو ذلك الذي يمكن أن نضع فيه كل شيء، عندما أجلس إلى مكتبي، أجد كل الكلمات التي جمعتها تنصهر في شكل واحد، كنا نعتقد، نحن الغربيون، أننا نملك دفتر ملاحظات منذ مائة عام، غير أنني اكتشفت أن اليابانيين يملكون دفتر الملاحظات منذ القرن السادس، ستجد نفسك في حاجة، في يوم من الأيام، إلى دفتر اليوميات· لا، أنا كسول جدا فيما يتصل بالكتابة اليومية، لا أستطيع أن أكتب كل يوم، فأنا أزداد كسلا يوما عن يوم· ورغم ذلك كتبت كثيرا· كل ما نشرته على هناته، على ما يبدو، كان يتطلب مني 10 إلى 20 مسودة قبل صياغته النهائية، فأنا لا أستطيع أن أكتب دون مسودة، أحيانا أقوم بتشذيبات حتى يبدو العمل أكثر تلقائية· كل الكتاب يشتكون من صعوبة الكتابة· لا، الشيء الفضيع، بالنسبة لي، هو عندما لا أكتب مستحيل لا أكتب· من الواضح أن بورخس يشكل الاستثناء، فأنت، دائما، تتحدث عن حبك للأدب، كما أنك، دائما، تجد المبدأ سواء عندما تتحدث عن القراءة أو الكتابة، أظن أن مثل هذا يعتبر العلاج الأمثل للموهبة الذاتية للعديد من الكتاب، أظن أن التحلي بموهبة الكاتب شيء نادر الحصول، كل الكتاب الذين أعرفهم يعرفون أنهم سيصبحون كتابا منذ صغرهم· على الأقل كونراد ووكوينسي كانا يعرفان أنهما يصبحان كاتبين، أما أنا ودون أن أقارن نفسي بهما، أقول أنني كنت، دائما، أشعر أن مصيري سيكون مرتبطا بعالم الكلمات، سواء كقارئ أو كاتب، فأنا متوحد مع الأدب· تخيل الكتب التي كان ينبغي أن تصدرها؟ لم أفكر يوما في هذا، دائما أفكر في نشوة القراءة والكتابة، أما مسألة النشر هذه فلا· هل تعتقد أنه بإمكانك أن تصبح كاتبا مثل إميلي ديكنسون الذي لم يقم بعملية النشر قط· نعم، سألت في أحد الأيام ألفونسو ريس لماذا ننشر أعمالنا، أجابني ''ننشر حتى لا نبقى طوال حياتنا نصحح المسودات''· أعتقد أنه محق فيما قال عندما أنشر كتابا لا أقرأ ما كتب عنه، كما أنني لا أعلم إذا ما بيع أم لا، أنا، دائما، أحاول أن أحلم بأشياء أخرى وأكتب كتبا أخرى مختلفة، لكن تخرج، كلها، نشبه سابقاتها· سئل فاليري VALERY ذات يوم متى تعلم أنك ستنهي كتابة القصيدة أجاب عندما يأتي الناشر لأخذ العلم· لا أفهم، أبدا، معنى كلمة النشر النهائي، من هو الكاتب الذي لا يندم على ما كتب؟ إنه العبث· أحيانا، أريد إعادة كتابة كل عمل كنت قد كتبته من قبل أما أنا فكنت أريد أن أمزق كل ما كتبت، أريد أن أحتفظ ''بكتاب الرمل'' أو ''الرقم''، أما البقية يمكن نسيانها أو يجب نسيانها· ترجمة من الإسبانية: يوسف بوطاروق