كرة القدم هي تنفس الفقراء وإن شئت فقل خبزهم ومصدر سعادتهم، الأول تعلقت بها أحلامهم وارتبطوا بها بعدما ملأت كل حياتهم، فهي بالنسبة إليهم طبق الشواء الذي لا يملكون حق شم رائحته أو قطعة ''حلوى'' لا تعرف طريقها إلى حلوقهم المريرة، هي بالنسبة إليهم المساواة والعدالة الإجتماعية التي يفتقدونها في حياتهم العادية· فهم يمارسونها دون تمييز ويشاهدونها دون تفرقة، باعتبارها لعبتهم المفضلة وحقهم الوحيد في الحياة الصعبة التي يعيشونها، لكن ذلك توقف منذ عام 2002 عندما قررت الفيفا، التشفير لمبارياته من خلال بيع الحقوق الحصرية للنقل التلفزي· وقتها كانت القارة السمراء الفقيرة المتخلفة المريضة، وإن شئت، فقل المقهورة، أول من أطلق صرخة مدوية تشكو فيها ظلم الفيفا التي سرعان ما تراجعت عن التشفير في إفريقيا الفقيرة المتخلفة جدا، المنهكة بالأمراض المستعصية، وتنازلت الفيفا ومنحتها حق المشاهدة المجانية ودارت الأيام والشهور والسنون سريعا، وعاد المونديال من جديد وانتظرت القارة السمراء منحة بلاتر الثعلب السويسري الماكر، فإذا به يراوغ ببراعة ولأن بلدا إفريقيا ومغاربيا وعربيا هو المغرب الشقيق يستضيف اجتماع الجمعية العمومية للفيفا، وحوصر فيه بلاتر بأسئلة الصحفيين العرب والأفارقة عن المونديال والنقل التلفزيوني، وكعادته دوما ناور وراوغ ولف ودار مستندا إلى الحاجة الماسة لعائدات بيع الحقوق التلفيزيونية من أجل الإنفاق على الفيفا والقيام بالدور الإنساني المتمثل في مشروع الهدف والقرى الخاصة بالأطفال في العالم ''SOS''، ولولا ذلك ما باع حقوق البث، لكنه غيّر جلد وجهه بعدما كساه بابتسامة صفراء ماكرة وراح يزف البشرى للقارة السمراء وقاطنيها بأن العالم كله، ومن بينها القارة السمراء ستشاهد الإفتتاح ونصف النهائي والنهائي مجانا، ساعتها ووقتها إقتنع الأفارقة بأن ''نصف العمي أفضل من العمي الكلي''، فبادروا بشكر بلاتر الذي خرج من المأزق كما تخرج الشعرة من العجين، لكن كذبه سرعان ما تأكد للجميع، فالرجل باع كل الحقوق ولم يعد بإمكانه الوفاء بما قطع على نفسه من عهود ليعكس ظلم دولة الفيفا التي كان البعض يوما ما يطالب الأممالمتحدة باتخاذ الفيفا مثلا وقدوة في العدل، حيث الكل أمامها سواسية وقانون اللعبة لا يعرف التفرقة، وجاء مونديال 2006 ليرسخ مفهوم التفرقة بعدما علت أصوات في العالم كله تندد بالتشفير وحرمان الفقراء من حق المشاهدة الذي هو أبسط حقوق البشر، ووصف المراقبون الفيفا بمنظمة الأغنياء بعد انتهاء زمن المشاهدة المجانية، ما ينذر بتقليص شعبية اللعبة الملقبة بالشعبية الأولى في العالم، ولم يتوقف الإمتعاض والإعتراض والرفض والتنديد بالفيفا عند الجماهير الفقيرة أو الإعلاميين والمراقبين ونجوم اللعبة القدامى، وإنما امتد ليشمل الزعماء والقادة والسياسيين الذين شنوا حملة هجوم حاد على الفيفا ومسؤوليه وحمّلوهم مسؤولية ما حدث· وكان في مقدمة الزعماء ''زعيم القارة الإفريقية: القائد معمر القذافي قائد الثورة الليبية الذي وصف القرار بأنه مشروع للفساد والإفساد، وطالب بحل الإتحاد الدولي أو تعديل قوانينه بعدما أصبح سوقا للعبيد· وتساءل القائد معمر القذافي كيف يمكن لمنظمة دولية تضم كل دول العالم وليست مملوكة لجهة بعينها أو لدولة أو لمجموعة من الدول أن تحتكر، مؤكدا أن الفيفا محتكر ومستغل أسوأ إستغلال ومكيف حسب مصلحة محتكريه بالرغم من أنه نشأ لتحقيق فائدة إجتماعية ونفسية للناس· واتهم القذافي الفيفا بأنها تسببت في أمراض خطيرة للمهووسين بكرة القدم والمغرمين بها وهي أمراض نفسية وعصبية وهي بدورها تؤدي إلى أمراض خطيرة مثل ضغط الدم، واعتبر الموقف الذي أقدمت عليه الفيفا كان سببا في العنصرية والكراهية في المجتمعات وبين الشعوب، وشدد على أن الفرنسي جول ريميه صاحب فكرة كأس العالم لو كان حيا لتقدم باقتراح إلغائها، وزاد القذافي بطلبه إلغاء الفيفا في حال إصراره على المضي في طريقه لخطورته في العالم ماديا ومعنويا، وعليه تحمّل ما سيترتب على ذلك من مشاكل ومصاعب وأمراض وعداوات، ولم يكن رأي الزعيم الليبي وحده رغم صراحته الشديدة الذي وجه أصابع الإتهام في وجه الفيفا ورئيسها بلاتر، ومن هنا فإن أبناء الشعوب العربية والإفريقية تطالب الإتحادات في إفريقيا وآسيا باستخدام عنصر الضغط على بلاتر ليعود إلى رشده بدلا من المضي في غيه، حيث باع حقوق النقل التلفزي لمونديال 2010 و 2014 ما يعني استمرار حرمان الفقراء وتراجع شعبية اللعبة مما يهدد مسيرتها، ولما كان عدد أعضاء الفيفا 207 دولة والمبلغ الذي تحصل عليه الفيفا مليار و 900 مليون دولار مقابل بيع حقوق البث التليفزيوني، فلماذا يا ترى لا تفكر الفيفا في التعامل مباشرة مع الدول عن طريق الإتحادات من خلال وضع قيمة مالية لكل بلد يريد أن يشاهد المبارايات وقيمة أخرى للفضائيات التي تريد البث الفضائي، وقيمة ثالثة لمن يريد التميز بالتصوير من الملاعب أو مقر إقامة المنتخبات أو المناطق الإعلامية في موقع الحدث، كل ذلك يحقق دخلا للفيفا ربما يفق المبلغ الذي حصلت عليه من شركة تقوم ببيع الحقوق بحثا عن أرباح طائلة على حساب المشاهد العادي وغابت معه المتعة وماتت الإثارة وانعدم التركيز في المشاهدة والتحليل والتقييم كما غاب الإنتشار· ولأن السياسة تدس أنف الفيفا في كل المجالات ومنها الرياضة، حيث شهد الأسبوع الأول من مونديال ألمانيا مثلا تظاهرة شارك فيها مئات الأشخاص في مدينة نورنبرغ الألمانية التي تستضيف مباريات المنتخب الإيراني في المجموع الرابعة، حيث استجاب المتظاهرون قبل مباراة إيران والمكسيك إحتجاجا على سياسة إيران ورئيسها، لكن ورغم كل ذلك جاء افتتاح كأس العالم في نسخته الثامنة عشرة بسيطا ومعبرا عن الشعار الذي رفعه الألمان للمونديال ''مونديال الأصدقاء''، حيث شهد ملعب اليانز الجديد حضور 60 ألف متفرج يتقدمهم الرئيس الألماني، حفل افتتاح اكتسى بألوان قوس قزح وغلفته المحبة وتواصلت فيه أجيال اللعب بعد ما غلبت على فقراته لمسة إنسانية تمثلت في تكريم المنتخبات الفائزة باللقب في تاريخ البطولة من عام 1930 في أورغواي وحتى عام 2002 في كوريا الجنوبية واليابان وإستعاد العالم كله ذاكرة الأيام الخوالي ورحبوا بالنجوم الكبار وكان عددهم 158 لاعب ممن هم على قيد الحياة وسبق لهم الفوز باللقب وكان في مقدمتهم بيليه ورفاقه أبطال 1958 و 1962 و 1970 وحتى جيل رونالدو باولو روسي الإيطالي، كيمبس الأرجنتيني، ولوران بلان الفرنسي وجيف هيرست الإنجليزي الذي سجل هدفا في مرمى ألمانيا في نهائي عام 1966 قبل 40 سنة نال حظه من التشجيع والإحتفاء، ليؤكد الألمان صدق شعارهم ''مونديال الأصدقاء''، وكما كان ملفتا للنظر أن حمل بيليه مع الفاتنة الألمانية كلوديا شفير ''كأس العالم'' إلى حيث وضعت على منصة في الملعب ليراها الجمهور· وقبل انطلاق المبارة الإفتتاحية وقف الجميع دقيقة صمت على أرواح اللاعبين الذين رحلوا عن العالم ما بين مونديال 2002 وحتى بداية مونديال 2006 في لمسة إنسانية ألمانية رائعة تعكس بعد النظر الألماني الباحث عن زيادة شعبية بلاده من خلال كرة القدم· وجاءت المباراة الأولى لتشهد فوزا كبيرا للألمان على كوستاريكا قوامه أربعة أهداف مقابل هدفين، ليصبح أول افتتاح يشهد أهدافا بالجملة ويحطم قاعدة الهدف الواحد التي ظهرت في المونديالات السابقة، وكشفت مباريات الأسبوع الأول استيعاب الكبار لدرس المونديال السابق وجاءت النتائج لمصلحتهم لتتضح معالم الدور الثاني مبكرا بأن فيه مكان للصغار وربما يكون التعادل السلبي لترينداد وتوباغو مع السويد وحده المفاجأة الصغيرة في الجولة الأولى، أما المنتخبات الإفريقية الجديدة فتلقت الخسارة واحدة تلو الأخرى لتؤكد عدم أحقيتها في اللعب مع الكبار، وأنها لن تضيف سطورا في كتاب التاريخ الكروي الإفريقي في المونديال·