حدث ذلك منذ ثلاث سنوات، دخل إلى مكتبي·· وكان أسمرا، نحيلا، يتحدث بهدوء وود، وسلمني رسالة·· وكانت الرسالة من صديق ورفيق مشوار جامعي، لم أره منذ أكثر من عشرين سنة·· كان مثلي يساريا يؤمن بيوتوبيا رائعة، حولتنا طيلة أيامنا الجامعية إلى مجانين وجرذان كتب، ومتسكعي كبار، بل وصعاليك مارسوا السياسة والأدب وفن المشاكسات والأيديولوجيا، وما هو حلال وما هو غير حلال·· صعاليك مارسوا الفضيلة والموبقات، كلها، حتى لا أقول بأسرها·· كان هذا الصديق يحب الجزائر، وفي أحيان كثيرة عندما كنا نثمل، كان يبكي حزنا على ما يمكن أن تؤول إليه الجزائر·· صالح هو اسمه·· إرتيريا هي ثورته وبلده·· جاء من السودان طالبا إلى الجزائر·· قرأت الرسالة، فهمت أن صالح أصبح كادرا في الحكومة الإرتيرية الجديدة·· وبعد وقت كان من النواة المعارضة·· وبعد ذلك وضع تحت الإقامة الجبرية·· إبتسم حامل الرسالة وهو يحاول مغادرة المكتب، سألته·· إسمك؟ فقال محمود طالب في معهد العلوم السياسية بالجزائر·· وهو أيضا إرتيري·· وذات يوم التقينا بعد أن نشرت له مقالا، حول الدارفور على أعمدة جريدة الجزائر نيوز·· ثم أصبح واحدا منا في عائلة الجزائر نيوز، وكان منذ الأيام الأولى نابغا وعالما، وخاصة متواضعا·· يشتغل في صمت، يكتب في صمت، ويكافح في صمت·· تحول إلى وشم في جسد الجزائر نيوز·· ويوم التقيت به في القاهرة تعلمت منه الكثير حول ما يجري في المشهد الثقافي والسياسي المصري·· يقدم لك المعلومة والتحليل بهدوء وموضوعية هادئة تكاد تخفي صوته ووجهه··· هذا محمود الأول، أما محمود الثاني، فلقد كان بالنسبة إلي، وهو يهدي إليّ كتابه الجميل مرايا الصوت وهو عبارة عن مختارات من الأدب الإرتيري (أنطولوجيا) الصادر عن منشورات البيت، هذاالمثقف النوعي الذي قد يفاجئنا في المستقبل بنصوص مدهشة، أقول هذا لأنني عرفت فيه القارىء الذكي، والفنان الذي يشتغل بعيدا عن الصخب والضجيج، وعن الخلفة في النفس·· محمود أبو بكر··· هنيئا لنا بهذا الوليد الرائع والقوي··