الراحل الطاهر وطار كرمته الشروق لم يرتبط اسم الطاهر وطار بالرواية المعربة في الجزائر فقط، بل كان مؤشرا لمعرفة اتجاهات الرأي الأدبي وحتى السياسي.. يساري ظل وفيا لخياراته منذ انخراطه في الثورة التحريرية التي أجبرته عام 1956 على التخلي عن دراسته.. بربري معتز بانتمائه إلى الأوراس الأشم وارتباطه بقرية مداوروش أين رأى النور. * وطار مناضل عنيد ومثقف مشاكس لا يجامل ولا يخاف الجهر بآرائه، كما فعل عندما أعلن في بداية التسعينيات تعاطفه مع الإسلاميين الذين رأى بأنه من حقهم التواجد في الواجهة السياسية.. كذلك عمي الطاهر رفض أن يسلم بفشل الاشتراكية كاتجاه أو كفكرة وبقي يؤمن إلى آخر أيامه بأن الاشتراكيين قدموا ما في وسعهم وحاولوا كما حاول الإسلاميون من بعدهم، وإن كان عمي الطاهر يعترف ببعض المآخذ على الاشتراكيين لكنه في المقابل كان يرفض تحميلهم لوحدهم مسؤولية كل الفشل الذي حدث في الجزائر. * على صعيد آخر، ارتبط اسم الطاهر وطار بالطبقات البسيطة من الناس حيث بقي طوال حياته وفيا للمناضل الشعبي فيه حتى أنه كان يفتخر دائما بذلك الطفل الذي كان في الاوراس لا يعرف شكل القلم ويعجز عن ركوب الدابة قبل أن يصير من أبرز كتاب الرواية في الجزائر والعالم العربي يجالس المشاهير والزعماء ويطوف بنصف دول العالم وفي سجله ما يزيد عن خمسة عشر كتابا بين رواية وقصة ومسرحية. * ولم يكن عمي الطاهر يجد حرجا في اعتبار نفسه كاتبا سياسيا، فيه نضج وحنكة المناضل الذي خبر الصعاب، وفيه رهافة المبدع والفنان المستوعب لأدوات محيطه فكان كما يقول عن نفسه طرفا ثالثا في المعادلة، معارضا من داخل السلطة، ومنصفا للسلطة في المعارضة، فكان هو المعارضة تارة وهو السلطة تارة أخرى، فلا السلطة قبلت به ولا المعارضة استوعبته. * في شخص الطاهر وطار تتجسد طباع الجزائري البربري العنيد المعتد برأيه أو كما كان يقول هو عن نفسه: "طريق الشاوي بين عينيه". * * كان عمي الطاهر أيضا يتحلى بالتواضع والبساطة مع كل من عرفوه، يستقبل الكل من الكتّاب والصحفيين والأساتذة وحتى الناس العادين، فيبدأ عمي الطاهر يومه بشارع رضا حوحو في مقر الجاحظية التي حولها كما كان يسميها إلى "وكر ثقافي" بمطالعة الجرائد اليومية واستقبال ضيوفه على أكواب الشاي والقهوة والنقاش في مختلف القضايا الثقافية. * دون مواعيد ولا بروتوكولات المثقفين الكبار يستقبلك عمي الطاهر بابتسامة عريضة قد تنتهي إلى قهقهة عالية وهو يمسك بعكازه الخشبي يعدل من جلسته أو يسوي من وضع "البيري" الذي يرتديه علامة مميزة عن اتجاه ظل ينبض في عمق عمي الطاهر. * وهو المتحفظ أحيانا، شرس في أحيان أخرى لكنه دائما يعرف متى وكيف يتحدث ليترك خلفه أينما مر عاصفة من الإعجاب وأخرى من الانتقادات الحادة. قد تتفق معه بعض الشيء وقد تختلف معه كثيرا لكنك مجبر دوما على احترامه ليس فقط لأنه أب الرواية الجزائرية ولكن لأنه رجل ظل عصي على التصنيف يحترمه من هم في السلطة ويخافه من هم خارجها.. كان وطار باختصار رجلا من زمن "النيف والرجلة" الجزائرية. * * أشهر خصومات الطاهر وطار * رفع دعوى ضد بوجدرة واتهم واسيني بالسرقة وقاد معركة "صندوق الإبداع" * * * كان عمي الطاهر يعتبر صراحته من صميم حقه في الدفاع عن رأيه، فكان دائما يقول: "لي الحق في التعبير عن ما أسمع وما أقرأ وما أرى". * ومن أشهر الخصومات الأدبية التي سيحتفظ بها التاريخ خلافه الحاد مع رشيد بوجدرة، الذي سبق أن صرح في محاضرة له بعنابة بأن وطار "أصيب بالغيرة عندما بدأت أكتب بالعربية في 1982 مع رواية "التفكك"، واصفا اتهامات وطار ب "الكذب والنميمة"، فما كان من وطار إلا أن هدد بوجدرة برفع دعوى قضائية إذا ما تجرأ يوما على التهجم عليه، لكن وطار، ومن منتدى "الشروق"، رفض اعتبار ذلك خصومة عندما أكد: "بوجدرة فنان ومبدع لا ينبغي محاسبته كسياسي لأننا لو حاسبناه كذلك لقتلناه". * وفي ذات المناسبة اعتبر عمي الطاهر ما كان بينه وبين واسيني من خلافات ونقاشات أدبية على الجرائد وصلت إلى حد اتهام عمي الطاهر لواسيني بسرقة عناوين كتبه "مجرد رأي مثقف في كتابات الآخرين ومن حقه أن يكون له رأي فيما يقرأ أو يسمع"، رغم أن الجدال بينه وبين واسيني نقلته كبريات الصحف العربية، حتى أن واسني اتهم وطار بمعاداة المرأة في أعماله الأدبية وبالتواطؤ مع "الأصولية" في الجزائر، فما كان من وطار إلا أن رد عليه متهما إياه بسرقة عناوين مؤلفاته منه وسطوه على تراث زليخة السعودي، لكن واسيني، ورغم كل تلك السجلات، أعاد حبل الود بين الرجلين ليوصل حين زار واسيني وطار أكثر من مرة في باريس، كما نشر روايته الأخيرة "قصيد في التذلل"، كما سبق أن أكد ل "الشروق" على أن "العلاقات الإنسانية أبقى من الخلافات الأدبية". * ولعل أشهر جدال ثقافي قاده عمي الطاهر هو "الحرب" الإعلامية الضروس التي استمرت أكثر من شهرين على صفحات الجرائد بينه وبين المديرة السابقة لصندوق الإبداع ربيعة جلطي وزوجها مدير المكتبة الوطنية آنذاك الدكتور أمين الزاوي ورئيس اتحاد الكتاب الجزائريين السابق عز الدين ميهوبي عندما أصرت مديرة الصندوق على إخضاع أعمال الجمعيات الثقافية لرأي لجنة قراءة خاصة، وهو ما اعتبره عمي الطاهر حجرا على الإبداع. ورفض وطار أن تدرج هذه الخلافات في خانة "الصحة الثقافية" ما دامت لا تطرح قضايا أو تسجل أفكارا، واعتبر هذا الوضع انعكاسا للوضع الثقافي في الجزائر الذي يتميز بالهشاشة وغياب التقاليد الاحترافية. * ومن بين طرائف الخلافات التي سيسجلها التاريخ الحافل لوطار بالمشاغبات هو خلافه مع الطاهر بن عيشة الذي وصل حد القطيعة بين الصديقين اللدودين، وهذا بسبب تعصب عمي الطاهر لرأيه في التواجد الأمازيغي في الجزائر بينما كان الطاهر بن عيشة مصرا من الطرف الآخر على أن الأمازيغ لا وجود لهم في النسيج الحضاري للجزائر. * والجدير بالذكر أن وطار كانت له مشاكسات ثقافية مع كل الكتّاب تقريبا من أحلام مستغانمي إلى ياسمينة خضرا وآسيا جبار وغيرهم... ولعل أشهر تصريحاته هي تلك التي اتهم فيها السفارة الفرنسية صراحة باغتيال الشاعر يوسف سبتي. * "الشروق" في بيت الطاهر وطار دقائق قبل دفنه * الدعاء لفقيد الجزائر والعرب بالرحمة والمغفرة يطبع لحظات الوداع * * في جو مهيب ساده الحزن الشديد والدعاء لعمي الطاهر بالرحمة والمغفرة، ودعت نهار أمس عائلة وطار فقيدها وفقيد الجزائريين والعرب الأديب والروائي الطاهر وطار، بحضور شخصيات سياسية وثقافية ومسؤولين في الدولة، هذا إلى جانب أفراد عائلة الفقيد وأقاربه، الذين حضر معظمهم من عين البيضاء لتقديم واجب العزاء وإلقاء النظرة الأخيرة على وجهه الطاهر. * كانت الساعة تشير إلى حدود الحادية عشرة صباحا عندما وصلنا حي "البريد" حيث يسكن "عمي الطاهر" بحيدرة، ورغم أننا التقينا الموكب الذي كان ينقل جثمان فقيد الجزائر الطاهر وطار إلى قصر الثقافة مفدي زكرياء، تتقدمهم سيارة لخضر بن تركي المدير العام للديوان الوطني للثقافة والإعلام، وموسى تواتي رئيس حزب الجبهة الوطنية إلى جانب سيارات أهل "عمي الطاهر"، إلا أننا لم نتراجع عن فكرة دخول بيت الفقيد لتقديم واجب العزاء لأسرته، دخلنا بيت "عمي الطاهر"، حيث وجدنا زوجته التي تبدو في الستينيات من العمر، التي ورغم حالة الحزن الشديد التي كانت بادية على وجهها إلا أنها لم تتوان عن استقبال المعزين من الأقارب والجيران الذين فجعوا لفقدان "عمي الطاهر"، مرة باكية ومرة أخرى ترد عليهم قائلة": لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله"، قدمنا واجب العزاء لأرملة المرحوم وابنته الوحيدة "سليمة"، التي كانت شبه غائبة عن المحيطين بها بسبب صدمة الفاجعة التي ألمت بها، حيث لم تتوقف عيناها عن ذرف الدموع على فراق والدها، فيما كانت النساء الجالسات بجانبها يحاولن تهدئتها، خاصة وان احد أبنائها كان يصرخ باكيا "هاتولي زيزي"، الأمر الذي أبكى كل الذين كانوا حاضرين ببيت "عمي الطاهر" من أقاربه وجيرانه، وقالت لنا زوجة أخي الفقيد أنه كان الحفيد المدلل ل"عمي الطاهر"، وكان يقضي معه وقتا طويلا، وخلال مكوثنا بمنزل "عمي الطاهر"، لم يتوقف المعزون عن ترديد دعاء الرحمة له من خلال عبارات "الله يرحمه مات في يوم مبارك وفي شهر مبارك مثواه الجنة إن شاء الله". * هذا ما قاله الطاهر وطار في أدب الشباب * "لا أعترف بأدب الاستعجال" * * من بين النقاشات الثقافية التي كان وطار محركها في الساحة الثقافية النقاش الذي دار لأشهر بينه وبين عدد من الكتّاب الشباب حول ما سمي ب "الرواية الاستعجالية"، حيث كتب بعض الشباب ينادون بقتل الأب أديبا ودعوا إلى ضرورة تجاوز أعمال الكتّاب القدامى وعلى رأسهم وطار، وهو الأمر الذي استفز صاحب "الشمعة والدهاليز" فكتب وصرح في عدة لقاءات إعلامية بأنه لا "يعترف بما يسمى بأدب الاستعجال لأن المبدع إما أن يكون مبدعا أو لا يكون، ولا حدود للسن أو العمر في قضايا الإبداع". * وأعاب وطار على الجيل الجديد من الكتاب "عدم تحكمهم في الأمور التقنية للرواية، وأن هناك أمورا وجوانب تقنية يجب احترامها في الكتابة الروائية التي لا ينبغي النظر إليها كمجرد سرد فقط، لكنها تقنيات وهيكل وجسد روائي يجب احترام بنائه". كما أرجع نداء الجيل الجديد بقتل الأدب إلى "عدم وجود احترام التراتبية في سلم القيم الثقافية في الجزائر، وهذا الخطأ، يقول وطار، يعود لغياب الأسس التربوية والتنشئة الاجتماعية في هذا الجانب "ربما هذا ما جعل الجزائر تفتقر إلى الإجماع حول رمز أو رموز ثقافية كما هو معمول به في الدول العربية الأخرى، ونحن في المقابل لا نحسن الترويج ولا تسويق نماذجنا الثقافية على غرار ما هو موجود عند الآخر، فضل المشهد الجزائري باهتا خارجيا متشضي داخليا تجمعه المصالح السياسية وتفرقه القضايا الكبرى". ودعا الكتّاب الشباب إلى تجاوز "آبائهم" إبداعيا بأن يأتوا بما هو أحسن ويغيروا نظرتهم للكتابة ولمن سبقوهم. * * في مشهد تاريخي مؤثر * الطاهر وطار يتسلم برنوس "الشروق" ودرع "العرفان" * * * لحظة تقديم فروض تكريم "الشروق" للكاتب الكبير الطاهر، كانت هي نفسها اللحظة التي انتابنا فيها أولا، إحساس جميل بالفخر والاعتزاز، لأنه ليس من عادة الأمور أن تكرم جريدة عروبية حد النخاع كاتبا عروبيا بحجم صاحب رائعة "اللاز" على التراب الفرنسي، وثانيا، بالألم، فوطار الذي التقيناه قبل أربعة أشهر في فندق "سيتادين" وهو ينضح نشاطا، بدا شاحبا ولا يقوى على الوقوف لأكثر من دقائق معدودات. * ربما اعتقد المرض بأنه سيبتعد بضحيته إلى منفى سحيق لا تصله يد الاعتراف والعرفان، لكن "الشروق" قهرت الجغرافيا. * ساعدنا عمي الطاهر على الوقوف من فراشه، وكم كان المشهد مؤثرا، الحاج علي ذراع يعانقه ثم يلبسه برنوس "الشروق" الأسود ذا الجودة العالية. جلسنا، تكلم مستشار المدير العام عن قيمة اللحظة، وعن كبير تقدير الجريدة للمبدعين عموما وللطاهر وطار بصفة خاصة. * أما صاحب "الحوات والقصر" فكان جد متأثرا وبدا عاجزا عن حبس دموعه داخل عينيه، فقد أكبر في "الشروق" مبادرتها، ونفى تفاجؤه منها، فالاعتراف، كما قال، من شيم الكبار "وجريدتكم جريدة كبيرة بل هي الأكبر". * بعدها اقترح علي ذراع أن يتقدم الناشر فرانسيس كامب لتسليم درع "التكريم والعرفان" لكاتبه الطاهر وطار، كانت محطة جميلة للتواصل واستيعاب الآخر، حمل فرانسيس اللوح البلوري الفاخر الذي كتب عليه بخط النسخ "تكريما له على كل ما قدمه للثقافة الجزائرية تقدم جريدة "الشروق" درع العرفان للكاتب الكبير الطاهر وطار"، ثم طلب ترجمة العبارة. * أخيرا تسلم مضيفنا شهادة التقدير، ثم أغرقنا في حديث الأدب والسياسة، وبكثير من الحماس قدم لنا "قصيد في التذلل"، روايته الأخيرة، التي منح "الشروق" شرف حصرية نشرها على حلقات. * للتاريخ * قبل سنة بالضبط، وتحديدا في أوت 2009، قررت "الشروق" تكريم أب الرواية الجزائرية الطاهر وطار، رحمه الله، ليس فقط بنشر روايته الأخيرة "قصيد في التذلل" مسلسلة في شهر رمضان، ولكن بالانتقال إليه في منفاه العلاجي بالعاصمة الفرنسية باريس وتكريمه بدرع "العرفان".. وللتاريخ نذكر القراء وعشاق صاحب "اللاز" ببعض تلك اللحظات التاريخية الرائعة. * وطار يصف المبادرة ب "الظاهرة الجديدة في تاريخ الصحافة الجزائرية" * "يوميا لا أستريح حتى أقرأ "الشروق" على الإنترنت" * * "والله أنا مسرور جدا بالخطوات التي تنتهجها جريدتنا "الشروق" منذ مدة ليست بالقليلة عبر الاهتمام بالمبدعين والمثقفين كجزء حيوي من مكونات المجتمع، وليس كعناصر هامشية تستغل وتستهلك وتثار حولها الفضائح ثم تلفظ كما يلفظ أي شيء لا قيمة له، هذا بصفة عامة، وبصفة خاصة أنا لم أكن في الحقيقة أتصور أن الأخوين علي ذراع ومحمد بغالي يأتيان سفراء من جريدة "الشروق" ليبعثا في روحي، لا أقول المنهارة، ولكن التعبة، المقاومة، المصرة على مواصلة الإبداع وعلى الحضور الثقافي، أنا لست فقط مريض في هذه البلاد، بل أنا كاتب يصر على الإنتاج، إنها لخطوة جد جيدة ينبغي أن تسجل في تاريخ الإعلام الجزائري كظاهرة جديدة، لم تتعود الصحافة الجزائرية عليها، تعوّدت امتصاصنا ورمينا.. ثم ألف شكر للسيد علي فضيل ولكل أسرة جريدة "الشروق" التي تعتبر إحدى علامات هذا الزمان في الجزائر، وعلى فكرة أنا أقرأ "الشروق" كل يوم على الإنترنت وإذا لم أتمكن من ذلك فإنني لا أستريح". * قاد قلعة ثقافية اسمها "الجاحظية" خلال عقدين * صاحب أكبر جائزتين عربيتين ومؤسس أهم جائزتين جزائريتين * * تدخل "الجاحظية" عامها الواحد والعشرين 1989 / 2010 بسجل حافل من الإنجازات والنشاطات، فهي لم تكن مجرد جمعية ثقافية يلتقي فيها الأصدقاء وتعقد بها الندوات والنقاشات، لكنها كانت أكبر مؤسسة ثقافية مستقلة في المغرب العربي تضم دارا لنشر أدب الشباب، وتشرف على إصدار مجلات وتنظم جوائز أدبية. وفي زمن التجارة في كل شيء، أصرّ الطاهر وطار على المحافظة عليها بنفس الإيقاع والحيوية في التسيير، إذ كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة في هذه الجمعية الواقعة بشارع رضا حوحو حتى أنها صارت بيته الثاني الذي يقصده الإعلاميون والكتاب والأصدقاء، فقد يحدث أن يمروا فقط من أجل أن يسلموا عليه واحتساء كوب من الشاي ذي النكهة الخاصة. * بمرور الوقت تحول هذا المكان إلى مركز لقاء بين الأصدقاء والكتاب والإعلاميين الذين يتواعدون عادة ليلتقوا عند شيخ الروائيين للنقاش أو حتى لمجرد تبادل النكت مع وطار الذي لا يحبذ أن يتغذى لوحده فعادة ما يكلم أصدقاءه من الكتاب والإعلاميين ليشاركوه وجبة السمك بالحي الشعبي، حيث عادة ما نجده غارقا في ضبط تفاصيل برنامجه الأسبوعي، أو في معالجة نصوص مجلة "التبيين" الفصلية التي يشرف عليها، أو عاكفا على اصطلاح إحدى الأجهزة الالكترونية أو أي شيء له علاقة بالتكنولوجيا، التي كان عمي الطاهر مولعا بها. * وتحول عمي الطاهر، على عكس العديد من الكتاب، من الكتابة بالقلم إلى إفراغ نصوصه مباشرة على الكومبيوتر، الذي يرافقه في جلسات العمل، بهذا المكان الذي ضم، إضافة إلى قاعة محاضرات رواقا للفن ومطبعة وصالة للموسيقى ومقهى صغير ومكتبة "يوسف سبتي".. هذا المكان، على تواضعه، كان يمد الساحة الثقافية المتصحرة بمواضيع النقاش أسبوعيا التي تبدأ كل موعد ثلاثاء على وقع أكواب شاي التي ما تكاد تدخل المقر حتى ينادي بها عمي الطاهر "عمك سعيد" ليهم بها. * الطاهر وطار نال أكبر جائزتين في الوطن العربي هما جائزة الشارقة للثقافة العربية التي تمنح بالتعاون مع اليونسكو وجائزة العويس الثقافية في نهاية 2009. * وهو الذي أسس جائزتين أدبيتين في الجزائر هما مفدي زكريا، التي ظهرت إلى الوجود في 1990، في الوقت الذي كان فيه الإرهاب يحصد أرواح الجزائريين ولم يكن أحد يومها يفكر في الثقافة والمثقفين، فضل عمي الطاهر أن يحمل لواء الشعر وهو الروائي، فكانت جائزة مغاربية افتكت مع مرور الوقت مكانتها وتحولت إلى جائزة عربية في دورة 2007 عندما كانت الجزائر عاصمة للثقافية العربية. * كما أسس وطار جائزة الرواية التي أطلق عليها اسم واحد من المبدعين الجزائريين الذين رحلوا في صمت "الهاشمي سعيداني"، حيث مكنته جائزة الشارقة التي نالها من سنّ مشروع جائزة الرواية الجزائرية، وهي الجوائز التي نالها الشباب، وبذلك يكون وطار المثقف الوحيد الذي خدم الشباب والإبداع من ماله الخاص. * * "الشمعة والدهاليز" و"قصيد في التذلل" و"آراه" * وطار يعترف بمحاولة الانتحار وبطرد ميشال عفلق وبمجاملة الإسلاميين * * قيل إنه كتب روايته "الشمعة والدهاليز" لاستعطاف الإسلاميين، لأنه صور فيها الحركات الإسلامية "حركات ثورية تدافع عن حقوق الطبقات الشعبية المسحوقة"، أما روايته الأخيرة "قصيد في التذلّل"، التي نشرت مسلسلة على صفحات "الشروق"، فإنه سجل وقفة تكريم للرموز التاريخية وأقطاب الحزب الشيوعي الجزائري، أمثال البشير حاج علي وبن زين وحربي، واصفا إياهم ب"رفاقه". * وفي مذكراته اعترف الطاهر وطار بمحاولته الانتحار إثر إبعاده من قيادة "جبهة التحرير" مطلع الثمانينيات، لأنه وجد نفسه وحيداً ومهمّشاً، بعدما انفضّ عنه الأصدقاء. وجاءت مذكرات وطار حافلة بمفارقات كثيرة فمن جهة هو يشكو من التمزق الذي عاشه في تجربته الحزبية. ومن جهة أخرى يؤكد انه كان منسجماً إلى حد كبير مع ممارسات "الحزب الواحد" الذي انتمى إليه. فهو يفاخر مثلاً بأنه كان سببا في طرد الزعيم البعثي ميشال عفلق من الجزائر، ويقول: "هاجمتُ عفلق في جريدة "الأحرار" التي كنتُ كل شيء فيها، ما جعل الرئيس بن بلّة يطرده بحجّة أنّه دخل الجزائر متسلّلاً". * الطاهر وطار.. سيرة ومسار * * ولد الطاهر وطار عام 1936 في قرية مداوروش بسوق أهراس وفي بيئة ريفية وأسرة بربرية تنتمي إلى عرش الحراكتة الذي يحتل سفح الأوراس والذي يقول ابن خلدون إنه جنس أتى من تزاوج العرب والبربر. * * **التحق بمدرسة جمعية العلماء التي فتحت في 1950 فكان من ضمن تلاميذها النجباء. * ** أرسله أبوه إلى قسنطينة ليتفقه في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس في 1952. * انتبه إلى أن هناك ثقافة أخرى موازية للفقه ولعلوم الشريعة، هي الأدب، فالتهم في أقل من سنة ما وصله من كتب جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة، وزكي مبارك وطه حسين والرافعي وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة. * ** راسل مدارس في مصر فتعلم الصحافة والسينما، في مطلع الخمسينيات. * ** التحق بتونس في مغامرة شخصية في 1954 حيث درس قليلا في جامع الزيتونة. * ** في 1956 انضم إلى جبهة التحرير الوطني وظل يعمل في صفوفها حتى 1984. * ** استهواه الفكر الماركسي فاعتنقه، وظل يخفيه عن جبهة التحرير الوطني، رغم أنه يكتب في إطاره. * ** أسس في 1962 أسبوعية الأحرار بمدينة قسنطينة وهي أول أسبوعية في الجزائر المستقلة. * ** أسس في 1963 أسبوعية الجماهير بالجزائر العاصمة أوقفتها السلطة بدورها. * ** في 1973 أسس أسبوعية الشعب الثقافي وهي تابعة ليومية الشعب، أوقفتها السلطات في 1974 لأنه حاول أن يجعلها منبرا للمثقفين اليساريين. * ** في 1990 أسس مجلتي التبيين والقصيدة (تصدران حتى اليوم). * ** شغل منصب مدير عام للإذاعة الجزائرية عامي 91 و1992. * ** اتخذ موقفا رافضا لإلغاء انتخابات 1992 ولإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات في الصحراء دون محاكمة. * ** كرّس حياته للعمل الثقافي التطوعي، رأس وسيّر الجمعية الثقافية الجاحظية منذ 1989 وقبلها كان حوّل بيته إلى منتدى يلتقي فيه المثقفون كل شهر. * ** أهم المؤلفات: * o روايات: "اللاز" و"الزلزال" و"الحوات والقصر" و"عرس بغل" و"العشق والموت في الزمن الحراشي" و"تجربة في العشق" و"رمانة" و"الشمعة والدهاليز" و"الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" و"الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء" و"قصيد في التذلل". * * اللغات المترجم إليها: * * الفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية والبلغارية واليونانية والبرتغالية والفيتنامية والعبرية والأوكرانية..الخ. * * الاهتمام الجامعي: تدرس أعمال الطاهر وطار في مختلف الجامعات في العالم وتعد عليها رسائل عديدة لجميع المستويات. * * قالوا في الفقيد * * أبوعبد الله غلام الله "وزير الشؤون الدينية" * "الطاهر وطار من الأدباء القليلين في الوطن العربي، لقد عرف بصراحته وعاش صادقا مع وطنه ونفسه وأتمنى أن يوجد جيل يخلفه. * * الدكتور محمد العربي ولد خليفة "رئيس المجلس الأعلى للغة العربية" * "لقد كان الطاهر وطار علامة بارزة في الأدب العربي، وخدم اللغة العربية من خلال الإبداع فيها وليس من خلال التذكير بأمجادها". * * أحمد ماضي "رئيس النقابة الوطنية للناشرين" * "الأديب الراحل الطاهر وطار كان يعتزم إصدار الجزء الثاني من مذكراته، كما طلب منه إعادة طبع الطبعة الأولى منها، وكشف في سياق متصل، أن ناشرين من تونس طلبوا منه التعاون لإصدار كتب "عمي الطاهر" لغرض توزيعها في العالم العربي حبا فيه فقط. * الكاتبة زينت الميلي * بحسرة كبيرة تحدثت نجلة العربي التبسي زينب الميلي عن رحيل عميد الأدب الجزائري الطاهر وطار قائلة في هذا الخصوص: "وطار ورقة مهمة سقطت من ربيع الجزائر الثقافي". * * الدكتور أمين الزاوي "روائي وكاتب" * "استطاع أن يؤسس لتقاليد القراءة للرواية المعربة في الجزائر في سبعينات القرن الماضي، في وقت كانت فيه الغلبة للرواية باللغة الفرنسية وكان لوطار الفضل في إيصال صوت الرواية الجزائرية إلى العالم العربي وله يعود الفضل أيضا في إدارة بيت كببر لمثقفين اسمه الحاجظية، كان مناضلا ثقافيا جمع في بيته كل فرقاء المشهد الثقافي في الجزائر، وطار يعد علامة راسخة في تاريخ الرواية الجزائرية المعاصرة، إذا ذكرنا الرواية الجزائرية يستحيل أن لا نذكر اللاز إلى جانب نجمة كاتب ياسين وأعمال بن هدوڤة" ويضيف الزاوي مشيدا بالحس النقدي لوطار قائلا: "كان يحب المنافحة والمناطحة الثقافية، كان مختلفا مع بومدين وبعد رحيل بومدين قال لي ذات مرة لم أعد أجد من أناطحه، من الصعب جدا أن تعوض الساحة أديبا مثل وطار". * إبراهيم قار علي "إعلامي وبرلماني" * * "وطار كان بالنسبة لي أبا وكان يعاملني مثل ابن له وعندما كنت أدخل الجاحظية أشعر كأنني أدخل إلى بيتي.. كان عندما يستقبلني في بيته يقول لي أنت ابن الدار ولست ضيفا، وكنا في الجاحظية نستشعر حس تلك الأبوة، واليوم نشعر باليتم في غيابه، ليس فقط على المستوى الثقافي بل على المستوى الإنساني أيضا.. لقد فقدنا مثقفا كبيرا وأبا حنونا.. كان من تواضعه يقدم لنا الشاي بيديه عندما ندخل الجاحظية. * محمد عباس "كاتب وإعلامي" * * "وطار كان يمتلك حس النضال والدفاع باستماتة عن "العش الثقافي" الذي أسسه في الجاحظية وجمع حوله كل ما له علاقة بالثقافة، من المحاضرات إلى الموسيقى والنقاشات الفكرية، كنا نلمس فيه ذلك الطموح اللامنتاهي والإخلاص في خدمة الثقافة، ولم يتوقف يوما عن الدفاع عن هذا الحس، وكنا جميعا نستمد منه قوة وجودنا اليومي في ذلك "العش الثقافي" * * لمين بشيشي: وزير سابق * * أنا لا أعتبر أنّ الطاهر وطار رحل، لأنّنا كلّنا راحلون، ونحن نعلم أنّ أعمال الرجل إذا مات تنقطع إلاّ من ثلاث.. والطاهر وطار ترك كتبه تحكي عنه، وكتبه تجاوزت الحدود الجزائرية بفضل الترجمات، ولم يبق وطار ذلك الروائي المعرّب المحصور في سياج القطر واللغة، وكتاباته ليست شقشقة لفظية، وإنّما فيها فيتامينات. الطاهر وطار يصدق عليه القول "الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا". والملاحظ على هذه الوقفة أنّ وطار مزكّى من طرف المجموع، وأقصد من القاعدة إلى القمة ومن شباب من مختلف المشارب جاؤوا لتحيته وهذا يدلّ على قيمته. وطار معروف بنزعته اليسارية ومنسوب إليه أنّه علماني، ووفاته في الثاني من رمضان هو نفس اليوم الذي مات فيه مفدي زكريا. والعبرة في رأيي بميراث وطار، ولا أقصد هنا كتبه، وإنّما الجاحظية، ما هو مصيرها هل تجد محرّكا يضارع وطار، وأيضا الجوائز التي بعثها. هذه مسؤولية من يأتون بعده. * * أمين الزاوي روائي * * رحيل الطاهر وطار بالنسبة لي يمثّل رحيل مثقف نقدي بمعنى أنّه كان دائما يحتفظ بحاسة النقد في كتاباته وممارساته، ونحتاج في ساحتنا إلى مثقف نقدي. أفتقد في رحيله الكاتب الذي جمع بين السلوك الثقافي قولا وممارسة، ولم يكن كاتب البرج العاجي، وهذا ما جعل منه مثقفا إشكاليا، أتمنى أن يزاوج الجيل الجديد بين التفكير في النص الجمالي والحياة الإجتماعية. * * مرزاق بقطاش روائي * * وطار كان عمارة متماسكة البنيان سقطت ولم تسقط في نفس الوقت، ذلك لأنّ الشيء الذي يبقى من وطار إنّما هو إبداعه على غرار كلّ من اشتغل بالأدب، وعليه أشعر أنّ جزءا مني ومن تاريخي الأدبي قد دخل متحف التاريخ ولم يدخل في نفس الوقت ذلك، لأنّ الأدب أفكار وأحاسيس نبيلة لا سيما إذا كان الكاتب وطار غائبا بجسده عنّا، ولكنه حاضر بأدبه على الدوام. وأحسب أنّ وطار غاص إلى الأعماق واستخلص لنا جواهر روائية عديدة نفخر بها في الجزائر وفي العالم العربي وفي اللغات التي نقل إليها. * * زينب الأعوج..أديبة * * وطار كاسم وكإنسان خسارة كبيرة لعائلته وللعائلة الأدبية والفكرية والفنية، وكتبه موضوع دراسة في العديد من الجامعات. لا يجب أن نقول إنّ وطار هو مؤسس الرواية وحسب، لأنّه من مؤسسي الصحافة في الجزائر، والصحافة الخاصة الأدبية. * * الخير شوار روائي وصحفي * * المشهد الثقافي الجزائري منذ الاستقلال إلى غاية نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي ارتبطت باسم وطار، ومختلف الأجيال الأدبية تعتبر وطار الأب الروحي لها، أعتقد أنّ الفراغ الذي سيتركه وطار لا يمكن ملؤه، والشرخ الذي أحدثه لا يمكن تجاوزه.