الترجمة عمل شاق مُضنٍ، ليس سهلا بأي حال، إذ لا يكفي أن يتقن المترجم لغتين أو أكثر ليمارس عملية الترجمة، فهناك عوامل أخرى تتدخل في هذه العملية بالإضافة إلى إتقان اللغات، كاستعاب ثقافة بلد الكاتب المُتَرْجَم عنه، كما أن القواميس ليست سوى وسائط تضع المُتَرْجِم على الطريق، ليواصل، بخبرته وحنكته، العملية· ولهذا، ينصح المترجمون الكبار، كل من يريد ممارسة الترجمة بألا يعتمد اعتمادا كليا على القاموس، هناك من يحبذ الوقوف على المقابل في اللغة الأخرى بأن يقرأ اللغتين إلى درجة قد يستغني فيها عن القاموس،كلية· في بعض الجامعات والمعاهد يسمح للطالب خلال الإمتحانات باستشارة القواميس، وهذا دليل على دوره المحدود، أما عندنا فلازلنا ننظر إلى من يستعمل القواميس كما لو أنه يغش أو غير واثق في إمكاناته، ولأوضح أكثر، أضرب مثلا، إعترضتني كلمة إحترت في ترجمتها إلى العربية، مثل الكثير من الكلمات الأخرى، إنها كلمة ''ماتي'' MATE، إستشرت القاموس، فإذا بي أعثر على العبارة التالية: ''ماتي هو مشروب أرجنتيني يقدم باردا أو ساخنا''، طبعا، مثل هذا الجواب لا يعطي الصورة الحقيقية للكلمة، لكن عندما أقمت في الأرجنتين، شاهدت بأم عيني هذا ''الماتي''، فعرفت مكوناته التي لم تخطر على بالي عندما قرأت تفسير القاموس· لهذا ارتأت الدول، التي تحترم نفسها، أن تمنح المترجمين منحا كي يدرسوا في البلد الذي سيقومون بترجمة أعمال كُتَّابه حتى يقفوا على المعاني عن كثب ويعاينوا معاينة عينية، كما يقول المثل: ''ليس الخبر كالمعاينة''، وإذا كانت الترجمة بين لغتين من نفس الأصل تطرح إشكاليات، فإن الترجمة بين لغتين مختلفين من حيث الأصل تطرح إشكاليات أعمق، بل حتى في اللغة الواحدة، نفسها، هناك مشكل اختلاف معنى اللفظ، ينطبق هذا، أكثر ما ينطبق، على اللغة الإسبانية، حيث قد تعني الكلمة شيئا في إسبانيا، مثلا، وتعني شيئا آخر في المكسيك أو الأرجنتين، رغم أن اللغة واحدة، ومعتمدة كلها في مجمع اللغة الإسبانية على اختلاف معاني الكثير من الألفاظ من بلد إلى بلد، فمثلا كلمة "CIMARRON" لها معنى في المكسيك ومعنى آخر في كوبا ومعنى آخر في الأرجنتين·· وهلم جرا·· ولهذا، أضحى لزاما على المترجم أن يعرف هوية الكاتب قبل أن يشرع في عملية الترجمة حتى لا يغالط القارئ، ولذلك نجد بعض دور النشر الأوروبية عندما تترجم رواية أرجنتينة لا تكتب عبارة ترجمها من الإسبانية وإنما تكتب عبارة ترجمها عن الأرجنتينية، رغم أنه ليس هناك لغة أرجنتينة مثلا أو مكسيكية أو كوبية، فليس في هذه الدول سوى لغة واحدة، رسمية ومعتمدة في الأكاديمية الإسبانية ألا وهي اللغة الإسبانية، إذن، فالمترجم من الإسبانية تعترضه إشكاليتان، إشكالية الترجمة في حد ذاتها، وإشكالية اللغة الإسبانية التي تختلف عن اللغة الإسبانية المستعملة في أمريكا اللاتينية رغم إقرار المجمع اللغوي الملكي الإسباني باعتمادها لديه، بل هناك، أيضا،اختلافات جوهرية حتى بين اللغة الإسبانية المستعملة في المكسيك مثلا، وتلك المستعملة في الأرجنتين، لهذا نجد أن دور النشر الفرنسية والإيطالية، مثلا، تُلزم كل مترجم بأن يختص في ترجمة أدب بلد واحد من أمريكا اللاتينية حتى لا يتشتت جهده وذهنه، أيضا· في الأخير، يبقى أن نشير، في هذه العجالة، إلى قضية هامة ألا وهي عملية تقييم العمل المترجم، لقد عانى المترجمون، ولا يزالون يعانون، من سوء فهم أناس دخلاء على الترجمة· فتقيم أعمالهم وفق معايير لا تمت لعلم الترجمة بصلة، فيقولون عن هذا أنه يقوم بترجمة حرفية، ويقولن عن آخر أنه يقوم بترجمة مائعة، متصرف فيها، وغيرها من الأحكام، وكأن الترجمة عملية دقيقة مثل الرياضيات، فكما أن لكل كاتب أسلوبه في الكتابة، فكذلك لكل مترجم أسلوبه في الترجمة، أي إذا كانت هناك أساليب مختلفة في عملية الكتابة، فكذلك في الترجمة، لكل مترجم أسلوبه، لأن التقيد بالنص هو اتجاه معروف في الترجمة، مثله مثل التصرف، فالشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقيم ترجمة المترجم هو مترجم الآخر وليس أي كان· العجيب في الأمر، أن هناك أشخاص لا يجيدون إلا لغة واحدة، ومع ذلك، يسمحون لأنفسهم بإبداء رأيهم في الترجمة الفلانية والترجمة العلانية، فالبَوْنُ شاسع بين أسلوب الكاتب الذي يكتب من وحي ذاته وبين أسلوب المترجم الذي هو ليس سوى ناقلا، لا أكثر ولا أقل·