ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العربية وثقافتها
التحالف الثلاثي وتحديات العصر (*)
نشر في المساء يوم 26 - 03 - 2010

أبدأ هذه الورقة بتحية جمعية الجاحظية هذا الصرح الثقافي الذي أسسه قبل حوالي عقدين الكاتب الجزائري الطاهر وطار، أو عمي الطاهر كما يناديه أصدقاؤه وعشاق أدبه الرفيع، ونوجه له من هذا المنبر تمنياتنا بالشفاء مشفوعة بتحية تقدير يشاركنا فيها جمهور من قرائه الذين ينتظرون عودته إلى مقامه الزّكي ليواصل مساره في موكب الإبداع الأصيل.
نشير ونحن في بيت الجاحظية إلى أن عمي الطاهر كان أول ضيوف منبر "فرسان البيان"، وألقى محاضرة بتاريخ الثلاثاء 26 فبراير 2002 بعنوان "من اللوح والصلصال إلى الحاسوب والاتصال" عرض فيها لمحة عن مساره الحافل بالجهد والاجتهاد والنضال في كثير من المواقع توّجها بمنتوجه الأدبي الرفيع.
إن وصف أدب الطاهر وطار بالأصيل والرفيع ليس من باب الإشادة المناسبية، وإن لم يحظ الكثير من رواياته باٌهتمام النقاد وبالبحث في أسلوبه عما يقترب من مدرسة في فن الرواية، فقد انتقلت إليه الكثير من اللغات بدل أن ينتقل هو إليها، فأدبه مترجم إلى أكثر من عشر من اللغات الغربية والآسيوية.
ويمكن القول بأن وطار ساهم مع قلة من أدباء الجزائر والبلاد العربية الأخرى بالارتقاء بثقافتنا ولغتنا العربية إلى العالمية، بينما ضاع آخرون من الباحثين عن عالمية بلسان الآخر، وفقد بعضهم في نهاية المطاف حقوق الأنا عليهم أي صدق وموضوعية التعبير عن تجربة الوطن في بعدها الإنساني وبقوا ثقافيا على هامش الآخر.
موضوع هذه الورقة هو إشكالية اللغة العربية في الجزائر، بالتأكيد هناك خصوصية لهذه المسألة في بلادنا سنشير إليها بعد قليل، غير أن اللغة وهي سلطة الثقافة ومن محاور الهوية لا تخص العربية وحدها ولا الجزائر دون الأقطار العربية الأخرى.
لذلك سوف نتناول في هذه الورقة القضايا الخمسة التالية ونختمها بخلاصة :
1- الحلف الثلاثي ضد العربية
2- الحالة الجزائرية
3- العربية وتحديات العالم المعاصر
4- بين الهوية والانتماء
5- منهجية وأهداف
- خلاصة
1- الحلف الثلاثي ضد العربية
تحتل اللغة العربية - حسب ترتيب اليونسكو المرتبة السادسة بين اللغات التي تستعملها نصف البشرية، بعد الصينية والإنكليزية والهندية والإسبانية والروسية وتأتي قبل اللغة الفرنسية وتتفوق ذخيرتها المعجمية والتراثية المدونة على ما أنتجته الحضارة الهيلنية باليونانية القديمة والرومانية باللاتينية، وهما من اللغات البائدة، ويحتاج المتوفر من تراثها إلى ترجمة إلى اللغات الأروبية المتداولة حاليا، على العكس من تراث العربية الذي يمكن الاٌطلاع مباشرة على تراثه من العصر الجاهلي وإلى اليوم.
لقد اٌرتبطت اللغة العربية بالقرآن وعلومه، وتم بفضل آي الذكر الحكيم توحيد لهجاتها في فصحى واحدة وموحّدة للناطقين بها لغة أولى في أوطانها الممتدة بين المحيطين الهندي والأطلسي أو لغة ثانية في أعماق إفريقيا وبين الملايين من المسلمين في القارة الآسيوية وهي من أولى اللغات التي اٌكتمل تقعيدها وإحكام قوانين نحوها وصرفها في زمن مبكر يزيد على 1200عام.
لم تتمكن العربية من مواصلة تقدمها الحضاري وتحقيق التراكم العلمي والإبداعي في أوطانها واٌنتشارها خارج حدودها الثقافية، بعد أن كانت لغة العلم والتعليم في كثير من الجامعات والمعاهد في جنوب أروبا وتتصدر مكتبات تلك الجامعات مراجع في الطب والصيدلة والرياضيات والفلك بالعربية، فقد تحالفت ضدها ثلاثة عوامل عطلت تقدمها وأضعفت إشعاعها، أولها ما حاق بأهلها من تخلف وجمود وفتن بسبب ضعف الدولة والاستقواء بالأجنبي وهو ما حدث في السابق ولا زال يحدث إلى اليوم، فهل نحن نستقرئ التاريخ؟ وإذا رجعنا إليه هل تستفيد شعوبنا وقياداتها من أحداثه، أي ممّا أدى إلى القوة والاٌنتصارات وما أوصل إلى الضعف والاٌنكسارات.
والعامل الثاني يرجع إلى المد الكولونيالي الذي اٌجتاح المنطقة مشرقا ومغربا، واستفاد من حالة الضعف والتأخر السائدة فيها، فعمل على دفعها نحو مزيد من التفكك وغرس عقدة النقص والإحساس بالدونية بين شرائح من شعوبها ونخبها ومنعها من بناء قدراتها الذاتية والمشاركة في حداثة العصر بلسانها، بل تثبيتها في حالة أدنى من الوضعية السابقة المتخلفة أصلا قبل الصدمة الكولونيالية في القرن التاسع عشر.
أما ثالث العوامل فهو تخاذل أهلها وغفلة الكثير من نخبها وأولي الأمر في أوطانها، عن تحريك النهضة وتوفير الشروط التي تمكّن بلداننا من اللّحاق بموكب المقدمة، ومن الثابت في تجارب الأمم القديمة والمعاصرة أن تحقيق التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي والحد من التبعية يتطلب استيعاب المعرفة وتوطينها باللغة الوطنية.
ومن أقرب التجارب الناجحة ما حققته الصين الشعبية التي بدأت مسيرتها النهضويّة بعد منتصف القرن الماضي وحقّقت تقدّما مذهلا يؤهلها لأن تكون عملاق العقد القادم فقد اٌرتفعت نسبة براءات الاختراع بلغة الهان الجامعة السنة الماضية 2009 بنسبة 29 ¥ واٌحتلت المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة ب 8000 براءة اٌختراع اشتركت فيها مع كوريا الجنوبية.
أما العربية لسانا وثقافة، فقد تحالفت ضدها العوامل الثلاثة السابقة، وفي فترات طويلة من تاريخها كان الإسلام عقيدة وتراثا الملجأ الأخير للفصحى، إما بسبب الاضطهاد والإقصاء، وإما بسبب تهاون الناطقين بها وتخليهم عنها.
والجدير بالذكر أن المسيحيين العرب في المشرق ساهموا بجهد كبير في خدمة العربية بمنتوجهم الفكري والأدبي وبالسبق في وضع القواميس الأولى، وبالترجمة من اللغات الأجنبية وتأسيس الصحافة الحديثة، فقد كان لهم مع معاصريهم من المسلمين دور بارز في إطلاق إرهاصات النهضة في القرن التاسع عشر وما بعده، كما قدّم علماء الاستشراق خدمات كثيرة للعربية وتراثها، بعضها لأهداف علمية، وأكثرها لأغراض أخرى.
2- الحالة الجزائرية
إذا رجعنا إلى الماضي القريب نسبيا نجد أنّ هناك أسبابا تاريخيّة نذكر بعضها ليس لتبرير وضعها الراهن وإنّما لتفرّد الحالة الجزائريّة عن بقيّة الأقطار العربيّة الأخرى التي يتعلم فيها الأطفال من رياض الحضانة إلى الجامعة بالإنكليزية أو الفرنسية وتجتاحها بدرجات متفاوتة العاميات، حتى في مدرجات الجامعة وينتشر فيها التهجين على الألسنة على مرأى ومسمع من مجامع اللغة العربيّة التي كثيرا ما تبقى مشاريعها وتوصياتها حبرا على ورق.
من بين الأسباب التي تخصّ بلادنا:
1- تدمير الدولة، وطمس معالمها ورموزها وعزلها عن محيطها الطبيعي المغاربي والعربي، وكانت تلك هي البداية للاٌستيطان والإلحاق بفرنسا ظلما وعدوانا، وهو ما لم يتعرّض له أيّ بلد في المنطقة.
2- بعد حوالي ثلاثة قرون من الخلافة العثمانيّة والحضور التركي على رأس السلطة في الجزائر، بقيت العربيّة هي ّ اللغة السائدة على المستوى الشعبي وفي الإدارات المحليّة واٌقتصر تداول اللغة التركيّة على ديوان الدايات والبايات وعائلاتهم القليلة العدد، وباٌستثناء بعض الألقاب وأسماء بعض المهن والأكلات التركيّة الأصل، لم يكن هناك أيّ تأثير للغة التركيّة في الجزائر.
3- عمد الاحتلال منذ بداية عدوانه على الجزائر إلى استئصال النخب المتعلّمة وملاحقة من بقي منها على قيد الحياة، وقد حدثت خلال كل تلك الفترة هجرة كبيرة خارج الوطن بسبب القمع والاٌضطهاد وحكم الكافر لدار الإسلام، بناء على فتوى صدرت في تلك الفترة، ومن المهمّ اٌستكمال دراسة ذلك النزيف المبكر لعلماء الجزائر ومثقفيها والتنقيب عن آثارهم ومسارهم في بلاد الجوار المغاربي وفي المشرق، وتأثير الفراغ الثقافي الناجم عن هجرة النخبة، وقد يكون ذلك من أسباب عدم تطوير مناهج التعليم الأهلي في الزوايا والكتاتيب أو المعمرات التي كانت آخر قلاع الإسلام والعربية.
4- أدت العوامل السابقة إلى محاصرة العربية في آخر مواقعها الدفاعيّة وتفقير رصيدها من المفردات والتعابير الحديثة الخاصة بشؤون الإدارة ومستجدات الحياة العصرية في مجتمع اٌنتشرت فيه الأمية وتكاثر فيه الأجانب المستوطنون وتسلطوا على الكثير من المدن واٌغتصبوا الأراضي الخصبة في شمال البلاد وشريطها الساحلي بوجه خاص، ونتيجة لسياسات القمع والتفقير والتجهيل فرض الاحتلال على الأغلبية من الجزائريين عمل السخرة في مزارعهم ومعاملهم وبيوتهم التي لا تستعمل فيها سوى الفرنسية.
5- لم يكتف المخطط الإجرامي للاحتلال الفرنسي بمحاصرة العربيّة واٌعتبارها لغة أجنبيّة بل عمل على إضعافها وتخريبها من الداخل ففي سنة 1954 أصدرت لجنة التعليم الابتدائي القرار التالي: "إنّ لهجة التعامل بين الأهالي هيّ اللغة العاميّة والفصحى لغة ميّتة وأمّا العربية الحديثة فهي لغة أجنبيّة وتعليمها من أشكال القمع.
6- من السهل تبيّن دوافع وأهداف تلك التعليمة وهي تفكيك الهويّة من داخلها وقطع أواصر الانتماء إلى الثقافة والحضارة العربية الإسلاميّة وتجفيف الرصيد اللّغوي للجزائريين، وتركهم في منتصف الطريق بين لغتهم وتراثهم الأصلي وبين لغة وثقافة القوّة الكولونياليّة المهيمنة ولذلك اٌتّجهت النخبة القليلة العدد لتعلّم لغته واٌضطرّ جمهور الناس لاٌستعمال المفردات والتعابير الأجنبيّة بسبب عدم التعامل بمقابلاتها العربية وقلّة تواردها في الإعلام والتعليم المحدود جدّا واٌنعدامها في إدارة الاحتلال.
7- هناك علاقة سببيّة وثيقة بين قوّة الدّولة وتجانس المجتمع وبين اٌزدهار اللغة وتقدّم علومها وإشعاع ثقافتها ونجد في توصيف وتفسير اٌبن حزم (384 - 456) ه (964 - 1036) م قبل حوالي ألف عام ما يصدق على حالة الجزائر قبل التحرير وما آل إليه وضع المنطقة العربيّة كلّها نتيجة لما تعانيه من تخلّف وتبعيّة واٌنكسارات متتالية واٌندهاش وحيرة أمام طوفان عولمة طاغية لا تشارك فيها إلا بالنزر اليسير.
يقول اٌبن حزم في مدوّنته الشهيرة الإحكام في أصول الأحكام: "إنّ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واٌختلاطهم بغيرهم، فإنّما يقيد لغة الأمّة وعلومها وأخبارها قوّة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم (...) وهذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة".
3- العربية وتحديات العالم المعاصر
إذا كان القرآن الكريم قد حفظ العربية وأضفى عليها القدسيّة بين ما يزيد على مليار من المسلمين في شتى أنحاء العالم، فإنها تواجه اليوم تحديات كبيرة وتتطلب من قادة البلاد العربية ونخبها ومؤسساتها حالة من التعبئة العامة لتأخذ لغتنا الجامعة مكانها في سوق المنافسة العالمية لسانيا وثقافيا في عصر العولمة وما أتى في سياقها من قولبة أو نمذجة أثارت ردود فعل زادت من صراع الهويات والمطالبة بحماية الخصوصيات والتنوع الثقافي واللغوي.
من بين التحديات التي تواجه العربية منافسة اللغات الأجنبية المعتمدة في كثير من البلدان العربية لتعليم العلوم والتكنولوجيات حيث تتفرد تلك اللغات بعدد من التخصصات الجامعية وقسم كبير من البحث العلمي في داخل أوطانها ومن طلبة الدراسات العليا في أقطارها وفي الخارج وتفضيل بعض المبدعين استخدام الانكليزية أو الفرنسية في كتابة نصوصهم وحتى نشرها فيما يسمى "المتروبول"، وليس ذلك مأخذا إذا ساهموا أيضا في إثراء لغتهم الجامعة، كما يفعل مبدعون بلغات لا يتجاوز مستعملوها بضعة ملايين، فالإبداع باللغة هو أيضا إبداع في اللغة.
ونشير في هذا السياق إلى اتساع المساحات التي اكتسبتها اللغات الأجنبية في وسائط الإعلام الخاص والعمومي الموجه إلى الداخل، وخاصة في بلادنا، مما يؤدي إلى تعميق الانشطار اللساني والثقافي داخل النخب وعلى مستوى الجمهور.
إذا نظرنا في تقنيات الاتصال الحديثة نجد أن العربية لا تمثل سوى 0.4 ¥ من بين اللغات المتواجدة على الشابكة أو الانترنيت مقابل 47 ¥ للانكليزية و9 ¥ للصينية و8 ¥ لليابانية و6 ¥ للألمانية و4 ¥ لكل من الإسبانية والفرنسية و3 ¥ للإيطالية و2 ¥ لكل من البرتغالية والروسية.
وفيما يخص استيعاب المعرفة ونقل التقانة عن طريق الترجمة وهي الأكسجين الذي ينعش اللغة ويثري رصيدها ويحين ثروتها الفكرية والإبداعية، فإن الوضع غير مرض، فحسب مؤشر اليونسكو حول الترجمة في العالم فإن ما ترجم إلى العربية ما بين 1970 و2005 أي خلال 35 عاما هو 7000 كتاب في مجالات العلوم والفكر والأدب لحوالي 300 مليون من الناطقين بالعربية في المنطقة وخارجها.
يساوي الرقم السابق من المترجمات ما نقل إلى اللغة الليتوانية في نفس الفترة لعدد من السكان لا يتجاوز أربعة ملايين من الناطقين بها، وتأتي اللغة العربية في المرتبة 27 في عدد الكتب المترجمة بعد اليونانية الحديثة وعدد الناطقين بها 12 مليون نسمة مقارنة بساكنة المنطقة العربية التي تمثل 5 ¥ من مجموع البشرية و10 ¥ من مساحة كوكب الأرض.
لا يستهدف التوصيف السابق والمقارنات مع بلدان أخرى اتهام العربية بالقصور أو الاستهانة بالجهود التي تبذلها نخب توصف بأنّها تسبح ضدّ تيار جارف ولا التقليل من عمل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس ومديرها العام ومكتبها لتنسيق التعريب الذي أصدر منذ تأسيسه سلسلة من المعاجم ثلاثية اللغة في العلوم الدقيقة والإنسانية لتوحيد المصطلحات، وقد وصل عددها إلى ثلاثين معجما كما يقوم المركز العربي للتعريب والترجمة والنشر في دمشق بتعريب بعض المراجع الأكاديمية المتخصصة الموجهة لأساتذة وطلبة التعليم العالي والمركز العربي للترجمة التابع للأمانة العامة للجامعة العربية ومقره في الجزائر ومن اختصاصه التكوين العلمي والمهني للمترجمين من عدّة لغات أجنبية.
بالإضافة إلى تلك المؤسسات هناك أيضا معهد في الخرطوم متخصص في تعليم العربية لغير الناطقين بها، فقد تزايد اهتمام الباحثين في شؤون المنطقة العربية والدبلوماسيين والإعلاميين بإتقان العربية الفصحى فهناك اليوم العديد من الإذاعات والقنوات الفضائية التي تبثّ من أوربا والأمريكيّتين وآسيا بالعربية المشتركة بين 22 بلدا عربيا وجالياتها المقيمة في الخارج، كما أنّ هناك جهودا متفرّقة لتعليم العربيّة لأبناء المهاجرين في بعض البلدان الأروبية والأمريكيّة.
4- بين الهوية والانتماء
الهويّة مفهوم عصيّ على التعريف لأن الكلمة نفسها تتضمن في حدّ ذاتها تعريفا على مستوى الفرد فلا يقول الشخص أنا هو أنا دائما لأنّه لا يكون كذلك في كلّ الحالات والمواقف؟
ولا تقول الجماعة نحن هم نحن ففي هذه الحالة يكون المقصود هو التشابه وليس التماثل طبق الأصل في كلّ شيء، وقد أشار الفيلسوف البريطاني "ج. أوستن" J.Austin) ) إلى هذه المسألة في دراسة بعنوان الحقيقة The Truth 1961) ) بقوله أن ما هو هو أو ما هو نفسه لا يعرف Fo auto idem)).
لن نخوض في الجدل الفلسفي والمناظرات الايديولوجية والسياسية وما أسفرت عنه من صراعات أدّت إلى بناء الجدران والحواجز بين الشعوب والأمم والحصار، وحتى الإبادة الجماعيّة قبل موجة النازية وأثناءها وبعدها.
لا نفصّل القول في تلك القضايا لكي لا نبتعد عن موضوع هذه المقاربة، فنحن ندعو إلى هويّة جزائريّة مرنة Flexible) ) وجاذبة تجمع أغلبيّة الجزائريين على جوهرها المتعدّد الأبعاد بدون ترتيب عازل أو طارد، هذا الجوهر هو الإسلام عقيدة وثقافة وحضارة، ساهم فيها أجدادنا وأثروا تراثها لقرون عديدة، والعربيّة باعتبارها لغة جامعة ومن عوامل الوحدة الوطنيّة ولهذه الوظيفة أهميّة في كلّ بلاد العالم فلم تحقّق ألمانيا على سبيل المثال وحدتها الوطنيّة وتجانسها المجتمعي إلاّ بعد أن وحّد الأخوان غريم الألسنة الثلاثة المستعملة في ألمانيا سنة 1859 وهو ما قام به كذلك جول فيري عن طريق ما يسمّى مدرسته الجمهورية l'école républicaine) ) في أوائل القرن الماضي والأمازيغيّة تراثا ولسانا وطنيّا تمّت دسترته سنة 2002، ومن المنتظر أن يكون له مجلس وأكاديميّة متخصّصة، ثمّ مواطنة تقوم على حقوق وواجبات يحدّدها القانون وتسهر عليها مؤسسات الدولة من المجلس البلدي إلى غرفتي مجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني وكذلك منظّمات المجتمع المدني ووسائط الإعلام ومشاركة في الدوائر الثلاثة العربية والإفريقية والمتوسطية والاستفادة الذكيّة من طوفان العولمة ومراكزها وراء المحيطين الأطلسي والهادي.
الهوية المرنة والجاذبة هي التي تستهدف إدماج جميع الجزائريين في جذع مشترك ولا تقصي ثقافيا الأفراد والجماعات التي تنتمي إلى أرض واحدة وتاريخ تشترك فيه منذ مئات السنين، وفيه ما يجمع أكثر مما يفرّق حيث تتداخل عوامل التأثر والتأثير بدرجات متفاوتة فالجزائر واسطة العقد في الفضاء المغاربي، ولها صلات ثقافية قديمة بالمنطقة العربية من عمان إلى غدامس على الحدود الليبية، ولها كذلك عمق إفريقي من جنوبها الشاسع إلى شمالها، ولها أيضا نوافذ على المتوسط واتحاده الذي يخفي أكثر مما يظهر في خطابات المبشرين به.
يعترض البعض على الانتماء العربي الإسلامي للجزائر وعلى وصف الاتحاد المغاربي المنتظر بالعربي، وهذه وجهة نظر انعزالية تؤدي إلى مزيد من التفكيك في داخل كل قطر وتعميق الانفراط على مستوى المنطقة العربية والإفريقية، تدفع إليه القوى المتنفذة وتستفيد منه منذ أمد طويل، وقد أدى الوضع العربي المتردي على جميع الأصعدة وفساد التدبير والتسيير وانعدام المشروع الحضاري والإرادة المستنيرة والفاعلة إلى التغطي بوطنية ذرائعية (البلد كذا...أولا، البلد كذا...أولا) وكأن هناك من يطالب بجعله ثالثا أو رابعا، وفي أي ترتيب!
ليكون للجزائر دور وحضور فاعل ينبغي أن يتحقق ذلك انطلاقا من جوارها العربي الإفريقي وذلك ما فعلته الولايات المتحدة بالنسبة لجنوبها الأمريكي وما تسعى إليه تركيا في جوارها العربي والقوقازي، وما تحاول إيران تحقيقه في محيطها العربي والإسلامي وأبعد من ذلك.
عاد المنظرون الاحترافيون إلى حفريات الماضي للتنقيب عن الأصول والجذور ما بين ثلاثة وخمسة آلاف عام، ليس من منظور الاستمرارية الحضارية والتفاعل التاريخي ودوراته المتعاقبة، بل بسبب ما أصاب الذات الجماعية من خيبات وانهيارات وعجز عن تقديم بدائل فكرية ذات مصداقية تتجاوز التذكير بالماضي والتنويه بأمجاده والسخط على الحاضر عند البعض أو بتقديم حصائل وإحصاءات موسمية عن انجازاته، وفي الحالات السابقة فإن المثال والنموذج موجود خارج المنطقة كلها فكل شيء حسن أو سيء يقاس بما حدث ويحدث هناك في الغرب الأوربي الأمريكي.
يقدم ذلك النموذج للنخب العربية والإسلامية على أساس خيارين لا ثالث لهما الأول انغلاق وانسحاب من المشاركة في موكب العصر بناء على مقولة - ليس بالإمكان أحسن مما كان - وهو ما يؤدي حتما إلى مزيد من التقهقر والانحلال والثاني تقليد ببغائي للآخر حسب الصورة التي يريدها وهو ما يؤدي إلى مزيد من التقهقر والانحلال في الآخر، ولم يسفر لحد الآن عن توطين حداثة تقودها نخب وطنية وتشع على المجتمع كله ومشروع حضاري يستأنف مسيرة الأمة نحو تقدم المجتمع وقوة الدولة الآمنة والعادلة والقادرة على المنافسة السلمية على الساحة العالمية.
إن أطروحة صراع الحضارات التي قدمها "ص. هينتغتون" لا تقتصر على المواجهة بين الشرق والغرب، بين الإسلام والأديان التي سبقته أو جاءت بعده، هي في الأساس صراع إرادات يعبئ فيه طرف الأنصار عن طريق العقيدة أو الايديولوجية أو المذهب لتحقيق الغلبة في تعبير ابن خلدون، فهي تحدث داخل المنظومة الثقافية الحضارية الواحدة لدواعي توظف فيها العوامل السابقة لأغراض الزعزعة والهيمنة وما يسمى المصالح الحيوية للقوى الكبرى.
إن المبادئ السامية التي اتفقت عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، تبقى مجرد ديباحات وإعلانات نوايا، إذا لم تلتزم بها الدول وتناضل من أجلها منظمات المجتمع فالمبدأ أو القانون لا يساوي أكثر من تطبيقه، لننظر إلى أروبا القرن الواحد والعشرين وهي المرآة التي يرى فيها العديد من فصائل النخبة في كل المنطقة خارطة الطريق الصحيح، ماذا نجد؟ المعاينة تفيدنا بالحقيقة التالية:
إن كل البلدان الأروبية سواء أكانت أعضاء في الاتحاد أو خارجه لا تجادل أبدا في انتمائها الأروبي، ولم يمنع الماضي الذي تخللته صراعات دموية وملايين الضحايا من تبنيها لجذع مشترك هو الثقافة الهلينية الرومانية والعقيدة اليهودية المسيحية ولا ينكر أي بلد منها ذلك الانتماء لأنه من أصل جرماني أو لاتيني أو سكسوني أو سلافي...
بينما يكثر الجدل حول تركيا ذات الأغلبية المسلمة وبسبب ما بقي في الذاكرة الأروبية عن الدولة العثمانية، وتتحاور النخب الحاكمة في فرنسا عن هوية فرنسا التي تستبعد المسلمين والعرب والسود وترافع عن فرنسا التقليدية أي البيضاء، والهدف تسييج هوية طاردة تختلف في الأسلوب، وليس في الهدف عن الإيديولوجية النازية وشقيقتها الفاشية.
عندما نلقي نظرة إجمالية على التوجهات الكبرى التي مثلتها النخب خلال نصف القرن الماضي في بلادنا يبدو للملاحظ أن مرجعية الحركة الوطنية وثورة التحرير وبيانها المؤسس قد عرفت فترات من الإعلاء
Sublimation) ) وفترات من الكمونlatence) ) وأن الخصومة حول رموزها ومآثرها ومنهجيتها في التخطيط للتحرير وما تعرضت إليه من هزات من الداخل والخارج، إن الخصومة حول تلك المسائل هي التي أخذت النصيب الأوفر في أحيان كثيرة على حساب تثمين مكاسبها والارتقاء بحصيلتها تنظيرا وتطبيقا.
تأثرت التوجهات الغالبة على النخب باتجاه الرياح والمناخ الدولي حيث ظهرت على السطح في السبعينيات من القرن الماضي التيارات التقدمية المنتسبة لليسار الأروبي والمناصرة للقوة العالمية الثانية وهي الاتحاد السوفياتي المعادي للامبريالية، حسبما تقتضيه مصالحه في جواره وعلى مستوى العالم الثالث وفي أواخر الثمانينات وبعد سيطرة الأحادية القطبية على مفاصل العالم صعد إلى المنصة التيار السلفي، أو ما يسميه الايديولوجيون اليمين الرجعي بدعوى إعادة أسلمة المسلمين، وبعد احتضان طويل من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة لهزيمة موسكو في أفغانستان، لم تعد هناك حاجة لذلك التيار ورموزه وأخذ اسم القاعدة وانتقم قادته لصفقتهم الخاسرة على طريقة شمشون الجبار: "علي وعلى أعدائي يا رب" وكانت الجزائر البلد الذي دفع أضخم ضريبة لهذا التوجه قبل حادثة البرجين في بداية هذا القرن.
لمحنة التسعينات آثار زلزالية كلفت الجزائر آلاف الضحايا والخراب فضلا عن ضياع ما يزيد على عقد في الهدم بدل البناء والخوف بدل الأمن والتأخر بدل تسريع وتيرة التقدم واكتساب المعرفة والتأهيل، وقد كان ميثاق السلم والمصالحة الوطنيّة طوق النجاة الذي اقتدى به كثير من البلدان وسارت على خطاه فقد تزايد الاقتناع بأنّه لا تنمية بدون أمن واستقرار.
في كل تلك التوجهات التي هبت على الجزائر جرعات زائدةover - dose) ) فيها عقاقير محلية وأخرى مستوردة وكلما تغلب المستورد على الغرس النابت في أرض الجزائر وجدت قيادات تلك النخب نفسها أشبه بجنرالات بلا جيوش مقاتلة أي بلا مناضلين من أجل أفكار ومنهجية وأهداف.
الغرس النابت في أرض الجزائر موجود في التجربة التاريخية لمجتمعنا وخلاصتها المتمثلة في ثورة التحرير التي حضّر لها وقادها شباب دون الثلاثين من العمر وفق منظومة فكرية وعملية سطروها في بيانها الأول الذي حيّن الأصالة ورسم الطريق لتحديث الأصالة، وأخرج الهوية الوطنية من رواسب التخلف والروابط القبلية وطهّرها من السموم التي عملت الكولونيالية الفرنسية على غرسها في المجتمع الجزائري، لقد أكمل البيان الذي يرقى لمستوى ميثاق الأجيال مشروع الأمير عبد القادر في إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة.
5- منهجية وأهداف
إن العربية هي اللغة الموحّدة والجامعة لكل الجزائريين وخاصة بالنسبة للنخبة كما هو الحال في البلدان التي تحرص على التجانس والانسجام الثقافي والاجتماعي، وفرنسا ومدرسة جول فيري مثال على ذلك التوجه ونقتبس في هذا السياق من أطروحة ليقي شتراوس (L.straws) في دراسة بعنوان (anthropologie structurale) 1958 (الانتروبولوجيا البنيوية) المقولات التالية:
* إن هناك علاقة وطيدة ومعقّدة جدا بين اللغة والثقافة.
يمكن النظر للّغة باعتبارها منتوجا ثقافيا.
إن اللغة هي الشرط الأول لنشأة الثقافة.
لكل ثقافة بنية مماثلة تماما للّغة، ويتبين من هذه النتيجة التي استخلصها "شترواس" المصاعب التي يعانيها المترجمون الذين ينقلون أدبيات الإبداع نثرا وشعرا من لغة إلى أخرى، مهما كان تمكنهم من اللغة التي ينقلون إليها. أيا كانت تلك الجهود المبذولة على المستوى القطري وعلى مستوى مردودها داخل المنطقة وخارجها في المدى المنظور، فإن المنطلق والرهان الحقيقي لتمكين اللغة العربية في الألسنة والعقول، يتمثل في رأينا في المرحلة الابتدائية والإعدادية من التعليم التي ينبغي أن تحظى بالأولوية في كل مشروع للإصلاح في المضامين والمناهج التربوية وذلك بالعمل على تحيينها والإعداد الجيد للمعلمين والرفع المستمر من كفاءاتهم البيداغوجية.
ومن المهم كذلك دعم التلاميذ والمربين بالشرائط السمعية البصرية والوثائقيات المدروسة والأقراص المدمجة وأدب الأطفال وخاصة منها كتب الخيال العلمي واستخدام تكنولوجيا المعلومات بعد إتقان العربية وامتلاك رصيدها الوظيفي في المرحلة الأساسية.
إنّ الشكوى من ضعف تعليم اللّغات الأجنبيّة في المدارس يطرح أحيانا في صورة حقّ لا يراد به الحقّ وحده، فإتقان العربيّة أولوية لا تلغي تعلّم الألسنة الأخرى، فهناك مناهج لتعلّم أساسيات أيّة لغة في أقلّ من سنة تعرف بالحمام اللّغوي، فمن المفيد بعد إتقان اللّغة الجامعة أن يتعلّم التلاميذ ما يختارونه من اللغات الأخرى، وقد أثبتت دراسات علم النفس السلوكي أنّه من النادر أن يتقن الشخص لغتين أو أكثر بنفس الدرجة من الفصاحة والاٌلمام بخباياها البلاغية.
لقد أولى المجلس عناية كبيرة للجوانب العلمية والتكنولوجية، وعقد عددا من الندوات الوطنية والدولية لتكنولوجيا المعلومات والعربية في الإدارة الالكترونية وهو بصدد إعداد دليل مفصل للمعلوماتية ثلاثي اللغة (عربية انكليزية فرنسية) موجّه للباحثين والمتكونين في هذا الميدان، وهناك دليل آخر للمصطلحات والمفاهيم الخاصة بعلوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء بهدف توحيد المصطلحات والمفاهيم في نظامنا التربوي في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي وذلك بالتعاون مع وزارة التربية الوطنية وبالرجوع إلى ما اتفقت عليه المجامع المختصّة ومكتب تنسيق التعريب في الرباط، وسوف يكون جاهزا قبل الدخول المدرسي القادم، يضاف كل ذلك إلى سلسلة الأدلّة المتعلّقة بمصطلحات الإعلام والاتصال والإدارة والماليّة والمحاسبة والمحادثة الطبيّة والوسائل العامّة. أصدر المجلس بالإضافة إلى عمله الميداني 110 مدونة وثّقت مختلف نشاطاته ويستعد في شهر أبريل القادم للاحتفاء بتوزيع جائزة اللغة العربية التي تنظم كل سنتين في عدة مجالات من بينها الطب والصيدلة وعلوم العربية والاقتصاد والتاريخ، كما أن للمجلس مجلة نصف شهريّة محكمة بعنوان "العربية" وصلت إلى 24 عددا، وسيصدر خلال الشهر القادم (مارس 2010) العدد الثاني من مجلته "معالم" المتخصصة في ترجمة مستجدات الفكر والعلوم والإبداع في مختلف اللغات العالمية.
خلاصة
العربية هي لغتنا الجامعة داخل كل قطر ومن آخر الجوامع بين البلدان العربية بغض النظر عن التباين في السياسات والإيديولوجيات والخصوصيات الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي يمكن التعبير عنها بالفصحى الجامعة، إذ لا توجد في العالم مجموعة من 22 بلدا يمكنها التواصل والتبليغ بلغة واحدة وموحّدة، والاتحاد الأروبي مثال على ذلك فأعضاؤه السبعة عشر الحاليون يحتاجون إلى جيش من التراجمة للتخاطب والحوار.
إن تطوير استعمال العربية في المدرسة ومرافق الدولة والمجتمع بوجه عام علامة لا تخطئ على نهضة بلدان المنطقة، ويقع على كاهل النخبة القيادية في كل المواقع، مسؤولية كبيرة في المحافظة على هذا الكنز ورصيده الذهبي، ولن يتحقق ذلك بدون استراتيجية بعيدة المدى تستكمل تحرير الأرض بتحرير الإنسان من الانبهار بثقافة الآخر والدوران حول مائدته واستهلاك ما يتناثر منها من فتات، وتحريره كذلك من الانسحاب إلى تراث السلف والاقتصار على اجترار مقولاته، فاللغة ومضامينها العلمية والإبداعيّة من أسس القوّة الذاتية للأمة وقوام أمنها ومكانتها بين دول العالم.
ليت الإعلام الوطني والعربي يشيع الثقافة العلميّة ويخصّص حيّزا لقضايا اللغة والتقانة والبحث العلمي النظري والتطبيقي في بلادنا وفي محيطنا القريب والبعيد ويطلع رأينا العام على ما يستجدّ من أفكار واجتهادات نظريّة واكتشافات واختراعات علميّة، يشار إليها أحيانا في باب المتفرقات.
ومن المهم جدّا أن يتدارس السّاسة والمختصون من أهل الفكر والذكر والمعنيون بالتدبير والتسيير في ما يشبه حالة طوارئ للنظر في خلاصات ما تحقق من نقل وتوطين للعلوم والتقانات وتقييم حصيلة نصف القرن الأخير بميزان العقل والنقد ونقد النقد وبحث واقع البحث العلمي والانطلاق نحو إرساء قواعد لمنظومة قطرية ومشتركة لبناء مجتمع واقتصاد وسياسة تكون الفلاحة والصناعة والرفع من مستوى التكوين والتأهيل من أولياتها الدائمة، سياسة تقوم على حب الأوطان وحب المعرفة فذلك هو السبيل للتخلّص من التهليل المُضّلل والتأييس المحبط.
إنّ البلد الذي يتقدّم هو الذي يعدّ شبابه لمستقبل يبدأ من اليوم، وينمي الخبرة والتأهيل من داخل مقومات هويته، ويرى في شبابه أهمّ صندوق للتوفير والادّخار لبناء ثروته البشريّة القائمة على الذّكاء والطموح وهما الوقود الحيوي المتجدّد للتطوّر والازدهار والأمن والاستقرار.
خلاصة القول إنّ العربيّة يمكن أن تتحرّر من التسييس والأدلجة وتستغني عن المرافعات المؤيّدة وعرائض الاتهام المعارضة إذا كانت لغة الدين والدنيا والدّولة ونقصد بالدّنيا الحياة الثقافيّة والاقتصاديّة والعمليّة والخبرة والتّأهيل بين مثلّث حرف "الدال" يتأرجح مصير العربيّة في بلادنا وفي كلّ أوطانها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.