يبدو لي أن أكبر قيمة يشترك فيها هذا الوطن العربي- الإسلامي هي الجهل والاحتكام إلى الوسائط، دون معرفة المصادر الحقيقية، ومن ثم التعامل معها بدراية، أو مساءلتها ببعض المعرفة واليقين، حتىّ لو كان هذا اليقين ظرفيا وقابلا لأن يصبح وهما من أوهام المعرفة· ما حدث لنصر حامد أبو زيد حدث لآخرين قبله، وهو حادث لاحقا، والأمثلة كثيرة في تاريخنا الحافل بالتصفيات والتهميش والنفي والقتل، ومرّد ذلك المصلحة وقلّة المعرفة والتقييمات الغيرية· بيد أننا، وبحكم أحادية الجهل، وليس أحادية التكوين، إضافة إلى نزعة امتلاك الحقيقة الكلية على كافة الأصعدة، قمنا بتخريب واقعنا ومصيرنا· لقد حصل ذلك بعنجهية مدمّرة، من اليمين واليسار والعلمانيين ورجال الدين وأولئك الذين لا يفقهون شيئا، لا في النص ولا في العقل ولا في اللغة ولا في البلاغة ولا في المسائل الروحية· وهذه حقيقة نخفيها على أنفسنا المريضة بكل الأوبئة· قبل سنين أعلن المرحوم ناصر حامد أبو زيد ثورته على الموروث، وخاصة ما تعلق بالجانب الديني وكيفية التعامل مع النص القرآني، أو سلطة النص المطلقة التي تنفي الاجتهاد· المعروف عن الباحث أنه اشتغل على مقاربات مختلفة، ومنها الهرمينوطيقا (التأويلية) والسيمياء والبلاغة، وهي قراءات ''عقلانية'' طبقها في مختلف بحوثه ومحاضراته وكتبه: الاتجاه العقلي في التفسير، مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، هكذا تحدث أبن عربي، الخطاب والتاويل، النص - السلطة - الحقيقة، الإمام الشافعي والايديولوجية الوسيطة، وغيرها من المؤلفات· تتطلب مثل هذه المناهج، في جزء منها، صرامة تحليلية لا تأخذ في الحسبان مبدأ المفاضلة، وقد يكون الجهاز المصطلحي وراء انضباطها، ومن ثم عدم تمييزها بين نصّ وآخر، لأن قراءة البنى ودلالاتها تتم وفق آليات مخصوصة تلغي الحدود، وتلك مشكلة أولى· وتتمثل المشكلة الثانية في قدرات الهرمينوطيقا في حدّ ذاتها، في مرجعياتها وإجراءاتها و''علميتها'' وحقولها· المعروف أنها اهتمت بالدراسات اللاهوتية وحاولت فهم الكتاب المقدّس وفق قواعد ومعايير مستحدثة، ثم تواترت في أوساط أخرى، قبل أن تعمّم على العلوم الاجتماعية والإنسانية في السنين الأخيرة· وما يقال عن الهرمينوطيقا ينطبق على مقاربات جديدة قامت باختزال النص إلى أنظمة من العلامات اللغوية التي تشتغل خارج سياق الانتاج، وبموت المؤلف أصبح النصّ منتوج نفسه، أي أنّه يحمل معناه في ذاته، دون عتبات ودون لواحق مكمّلة· أمّا ثالث مشكلة فتتجلى في الجهاز المصطلحي الذي وظفه نصر حامد أبو زيد، وهو جهاز مفارق لما تم التعارف عليه في التفسير، وقد يتقاطع أحيانا مع محمّد شحرور وأدونيس، بخلاف ما نجده عند طه عبد الرحمن الذي صنّف بدوره في خانة محدودة بسبب مقارباته المختلفة عن طروحات ''الحداثيين''، وإذا كان كل جهاز مصطلحي له زاده ومنطلقاته فبإمكانه أن يتعارض مع الأجهزة القائمة وحمولتها· أما رابع مشكلة فتلخصها دعوته إلى جدل حقيقي يضيء الموروث والمقدّس، مع ما يمكن أن تحيل عليه كلمة ''جدل''، سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو بالسياسة أو بالملل والنحل، لأن الجدل يتطلب معرفة ''عقلية'' قد تتعارض في جوهرها مع المعرفة الغيبية، ما يؤدي إلى صدام بين النقل والعقل، ما بين المسلمات والمساءلات، وإذا كانت المجتمعات المعنية بالخطاب الجديد غير محصنة بالمعرفة الكافية، فإنها لن تتقبل ''الدخيل'' الذي يهدّد طمأنينتها، وهذا أمر لا يحتاج إلى جهد فكري لكي نعرفه، وقد تكون تجربة ابن رشد، ثم طه حسين من أحسن التجارب، ورغم تباعدهما زمانيا فإنهما تتجاوران دلاليا ومنهجيا· مثلهما مثل دراسات محمد أركون واجتهاداته، وحسين مروة وقراءاته المثيرة· وتتمثل النقطة الخامسة في تصريحات نصر حامد أبو زيد ومستويات استقبالها وسياقاتها· إن قوله: ''آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان'' هو قول يتطلب ظرفا متميزا من حيث أن البذرة تحتاج إلى تربة مناسبة· والحال أن هذه المواقف، بغض النظر عن أصحابها، تستدعي، من الناحية العقلية، فهم البنية العامة وحركيتها وتمثلها بنباهة، وذاك ما لم يحدث، لا مع اليمين ولا مع اليسار، ولا مع ''الحداثيين'' ولا مع ''التقليديين'' والاحيائيين والسلفيين والوهابيين وغير ذلك من المصطلحات التي تطلق في محلّها وفي غير محلّها، وبلا سبب في أغلب الأحيان· والنتيجة: اتهم نصر حامد أبو زيد بالإلحاد والردة، ووجد أتباع فقه الإمام أبو حنيفة فكرة الحسبة لفصله عن زوجته الدكتورة إبتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، ثم كان المنفى الاختياري في هولندا· من اتهم نصر حامد أبو زيد؟ سيظل الجدل قائما، وقد لا نعرف الحقيقة أبدا· لقد تم الاعتقاد بأن الدكتور عبد الصبور شاهين كان صاحب التقرير الذي أسس عليه القضاء لتفكيره، ثم اتضح لاحقا أن الدكتور لم يشر إلى هذا الجانب عندما أرسله إلى مجلس الجامعة، بل ركز على المسائل الأكاديمية في أبحاث نصر حامد أبو زيد، وملخصها أن الإنتاج المقدم بحاجة إلى مراجعة لأنه لا يرقى إلى مستوى الدرجة المطلوبة بجامعة القاهرة··· لا غير: ''لا يمكن أن أورّط نفسي في هذا الاتهام البشع، بالعكس فقد اتهمت بالإرهاب الفكري من العلمانيين والشيوعيين وتعرّضت لحملة سيئة، رحم الله أبو زيد وغفر له وللمسلمين أجمعين''· هل تم تزوير التقرير الجامعي لتلفيق التهمة؟ أم أن المسألة مرتبطة بالرغبة في إبعاده من الجامعة لأسباب أخرى لا علاقة لها بالتقرير العلمي؟ المؤكّد أن أبحاث نصر حامد أبو زيد صادمة وخادشة إلى أبعد الحدود، لأن اتهامه العقل المؤمن بالغيب، بالعقل الخرافي والأسطوري هو نفي للآخر وتكريس لمركزية أخرى ذات منحى شمولي، بغض النظر عن طبيعة هذه الشمولية ومآربها· وهناك موقفه من القرآن والسنة اللذين أعتبرهما مجرّد ثقافة، كما أشار إلى ذلك الدكتور شاهين، إضافة إلى الأخطاء التاريخية واتسام أبحاثه ''بجدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في أحشائها جنينا جدليا متجادلا بذاته مع ذاته''· ولعلّ ذلك ما سبب له متاعب على مستويات أخرى، لأن الشك الذي يولد شكوكا أخرى لا يقدّم حلاّ، وإذا تعاملنا مع عقل عينيّ بهذا الشكل الذي لا يقدّم حلولا أصيلة فإن علينا توقع النتيجة وردّ الفعل· لا أحد ينكر على نصر حامد أبو زيد ذكاءه وثقافته الموسوعية وقدراته التحليلية وموازنته وتأصيلاته· لقد عاش هرما معرفيا بطريقته· لذلك لا يمكن أن ننتقده إلا في حالة واحدة: أن نقرأ ما كتبه وأن نفهمه، وهذا أساسي· أما التأسيس على الوسائط فلا ينتج إحاطة بمؤلفاته بقدر ما ينتج تبديها لسنين من البحث والقراءة والتنقيب في الموروث· والحال أن محو هذا أو ذاك لا يخدم سوى بعض الأنظمة، وهي الأجهزة الوحيدة التي تمتلك ذكاء نفعيا قادرا على محو العقل والغيب معا· أشرت إلى ذلك لأن الثقافة العربية قائمة على المحو، وليس على الحلقية والتكامل في إطار التنوّع، وإذا كانت الثقافة ملحقة بمؤسسات سياسية، وذلك ما يميز ثقافتنا، فإنها ستصل دائما إلى القصور، على حساب هذا أو ذاك، سواء كانت تقليديا أو حداثيا، لأن المنفعة الظرفية لا تعنيها المعرفة، مهما كانت قيمتها· البارحة كشك وحسن البنا وحيدر حيدر واليوم نصر حامد أبو زيد، أمّا غداً فإنه دورك أنت فلا تقلق· لقد استوردت الأنظمة كثيرا من الأفكار وطرائق العمل وأنماط الاقتصاد والقوانين السارية لغايات، وتحالفت أخرى مع أشخاص وهيئات لا علاقة لها بمقوّمات التكفيريين والحداثيين على حدّ سواء، لكنّها نقلت الصدام بعبقرية· وتلك مسألة يمكن أن تضيء مضمرات الصراع الدائم بين فئات تدين وتدان، دون أن تعي حقيقتها الفعلية وخلفيات الحرب المعلنة على المعرفة· من المستفيد من تكفير نصر حامد أبو زيد؟ الأمة العربية الإسلامية أم الجامعة أم المسؤولون أم العقل؟ أم أنّ هناك جهات تشجع على صناعة الفتن لأغراض إستراتيجية تخدم مصالحها العابرة؟ ذاك هو السؤال· لقد قدمنا خدمات جليلة لسلمان رشدي و''آيات شيطانية''، ولو فعلنا ذلك مع ميشال كافانا وكتابه ''مغامرات الله ومغامرات المسيح الصغير'' لأعلينا من شأنه، لكنه سيء الحظ· بقيّ مؤلفه مغمورا ولم ينتبه إليه أحد· وأقصد ها هنا أن هذا الموقف قد يغدو إشهارا مربحا تستفيد منه جماعات لا يعنيها الله، والأمثلة على ذلك لا تعدّ· من أعدم الحلاّج ولأيّ غرض؟ وها هو الحلاّج يتقوى بموته· من المفيد قراءة أعمال نصر حامد أبو زيد للاستفادة من جوانبها المضيئة، أّما ما تعارض مع قناعاتنا فيمكن أن يسهم بدوره في معرفة الزلل وتفاديه، الخطأ هو أحد الطرق التي تقودنا إلى الصواب، إن كان هناك صواب ثابت ونهائي، فهو ليس حكرا على أحد·