الكتاب بالعربية الجزائريون، الذين يعيشون في الجزائر ويكتبون فيها، من أعماق تربتها يجدون أنفسهم محاطين، لحظة الكتابة، بجميع أصوات منمنمتها المتداخلة، بالكلمات الآتية من كل اتجاه متزاحمة؛ نيئة أو مشذبة، صافية وملوثة، من العربية المكتوبة والشفهية المتنوعة تنوع مناطق استعمالها، ومن الفرنسية، ومن الأمازيغية، والتي يجدون أنفسهم مضطرين إلى ترجمتها من أصلها لإدماجها في فضاء الرواية المشكّل أساسا من اللغة العربية الأدبية· كنت وما زلت أعتقد أن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية حاليا، وهي تستلهم بعضا من تجارب كاتب ياسين ومحمد ديب ومالك حداد ورشيد بوجدرة نفسه، يمكنها أن تتكرّس ككتابة جزائرية، بالعربية تأكيدا، ولكن باختلاف يميزها من كتابات روائية عربية أخرى وفي الآن ذاته يغني بها لا محالة الكتابة الروائية العربية عامة· أود لو أن هذه الرؤية ناقشها كتاب الرواية الجزائريون· ذلك أن قراءة بعض النصوص الروائية لكتاب جزائريين بالعربية يقيمون خارج الجزائر والذين يكتبونها عنها بحنين الهجرة، كما عند قلّة قليلة جدا في الداخل، تعطي الانطباع بأنها تنزع إلى مَشْرقة نفسها؛ لأسباب إن كانت غير جلية تماما فإن أبرزها قد تكون مقاربة هؤلاء الكتاب لطبيعة النشر والانتشار في المشرق، كما في الخليج· إن المختصين يستطيعون معاينة هذا التوجه، الذي لم يصبح بعد ظاهرة· فلا بد أن الكاتب الجزائري يعيش الإحساس، بل هو يحمله في أعماقه، بأن ذاكرته تحركها حضارة متعددة الأبعاد؛ حيث تتماس جغرافياً وتتمازج تاريخياً الثقافاتُ المتوسطية والصحراوية والإفريقية الزنجية· ومن جانبي، أقدّر أن كتابتنا مطبوعة بآثار هذه الحضارة· ومن ثمة منبع الخصوصية التي يمكن أن تثمَّن لتكون إضافة نوعية إلى متن الرواية العربية· أن يستعرض أحدنا مرجعيات كتابته يتبين أنه، استعاريا ونظما، يسبح في القرآن ويتحمم في وسط أصوات كلمات قادمة من لغة أمه، من اللغة الشفهية، من الشعر العربي، من الشعر الملحون، من المتون الصوفية، من الفقه الإسلامي، من الفلسفة، من العوائد والشعائر· وهو لا يتخلص من استحكام ألف ليلة وليلة على خياله· كما هو، من حيث الصنعة، لن يجحد أبدا لمسات تأثره بعبقريات الكتابة الروائية العالمية· فالرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية ملزمة بأن تتوصل بقارئها إلى أن يقول: ها هي كتابة تقول خصوصيتي وتفاصيل هويتي وبصمة تاريخي، وأحلامي وإحباطاتي، وشعائر مذهبي المالكي! وها هي، من خلالها، نظرتي إلى صدمة بلدي التاريخية مع محتليه، والتي تزعج وتشوش ذاكرتي منذ ,1830 مثلها مثل إرث حرب التحرير وخيبات آمالنا وإصرارنا على بناء مستقبل لنا· كما أن هذه الرواية معنية بأن تطرح سؤالها حول: لماذا وصل هذا الجزائري إلى حال من الارتباك والاضطراب والقلقلة إلى درجة تكاد اللغة تعجز عن وصفها، كما الرواية عن تجسيدها؟ إن كتابة روائية لا تحفر في عمق هذا الكائن، في مكونات ذاكرته الجماعية؛ بحثا عن هوية جزائرية، هي لابد آيلة إلى إعادة إنتاج كليشيهات ''الآخر'' واستنساخ تجاربه الفنية حتى ولو كان عربيا! فالدفع بالكتابة إلى أن تبلغ حدود القوى العصبية، لحظة الإنشاء، لتجسيد بعض ذلك، ينتج عنه حتما، وباستمرار، نص يتجدد دائما· إنه فعل تأسيسي لعوائد كتابة مرتكزة على الخصوصية والاختلاف والنبل· كذلك تبقى الكتابة الروائية فعل الاحتمال والممكن، الذي يهدم كل يقينية· فمشهد حال الرواية العربية المعاصرة يكاد لا يرسم سوى هذا التماثل من حيث لغة كتابتها المتشابهة، ومن حيث موضوعاتها المتناولة بتكرار، والمتخوفة أيضا أمام خطر الرقابة وتحفظ دور النشر، ومن حيث انبهارها بمنجزات ''الآخر''· لعل هناك قارئا عربيا آخر يبغي أن يلمس ويحسّ ارتجاجات اللغة الواحدة بحملها لخصوصية كل مجتمع، ومسمياته، وذوقه وتجاربه· وإلا فما جدوى ترجمة رواية من لغة عربية إلى لغة عربية أخرى ليفهما قارئا افتراضيا من المحيط إلى الخليج؟ فكم هي طويلة، إذاً، المسافة وكم هي عديدة الاختلافات والخصوصيات بين صحرائنا وبين مائنا!