في سيدي بلعباس، في مقهى الإتحاد الذي تحول اليوم إلى بنك خليج الجزائر، تعرفت على رامبو·· الشاعر والمتمرد والطيف وخلاصة الرحلة عبر الكلمات والأوهام والتخيلات والشطحات التي تتشكل كالوطد الشامخ داخل مسافات القلب والروح والفيضانات التي لا حد لها للوجدانات الهادرة والمدمدمة والجارفة لكل الأوتاد، التي تقف بين حقول الأحلام وأشجار الصور والعبارات والجمل·· رامبو كان يتجلى في ذاك الجنون الذي يخترق أجسادنا مثلما يخترق قطار الزمان أجساد الأمكنة·· لم يكن رامبو مجرد قصيد، مجرد تجل للشاعر الذي يسكننا، بل كان كل ذلك الإختراق للسد المطوق بالصمت والمقدس المدنس·· كان رامبو طفرة القصيدة، فيض الوحي المفاجئ والهاطل من السماء المليء بالصواعق والنجوم، والتجلي الكامل لكل ما تبقى من امبراطورية الكمال المتشظية في تضاريس الفضاء الممتد إلى ما لا نهاية فينا·· كان لمقهى الإتحاد تيراس عامر بالكراسي، وكنا نجلس أحيانا كثيرة هناك·· أحمد مهاودي ذو الشعر الأشعث، والجسد النحيل واللحية الكثة والنظارات الكبيرة والسحنة المطعونة بالسمرة، وكان سعدان الأشبه ببودلير وبشير صاحب الصوت الهادر وكأنه قادم من قلب كهف قبيلة كبلوت وعبد الحق الصامت في عمق ذلك الصخب المتمسح ببوهيمية الياسينية الواقفة على عتبات الأسطورة الهاربة من ضجيج اليومي وسطوة العادي·· ها هو المعنى يطرح نفسه أمامي على تابوت البياض كسد نزق لأرى، كما كنا نراه لكن عبر الكلام المتدفق الذي يمضي مع الزمن، ليختفي مع زحف العمر الزائل خلف صخور النسيان·· كان أحمد مهاودي يجلس على الطاولة، وعباس النادل يأتي ويروح بصينيته، يضع الفناجين والكؤوس والزجاجات على الطاولة، ويتقاسمنا كلنا شبح رامبو، يقرأ أحمد قصائده، نصغي إلى القصائد والجمل الطائرة مع الدخان في السماء··· يخلع عن رامبو عباءته فنكتشف جسد كتب ياسين عاريا، نكتشف نجمة عارية، نكتشف مفاتن القصيدة الياسينية، بكل مفاتنها عارية، وكان ذلك يتكرر كلما عدت من الجزائر العاصمة، من المركز العائلي حيث يقطن ياسين إلى سيدي بلعباس، حيث أصل في تلك الصباحات الباردة على متن القطار الأشبه بصل أسطوري، مقهى الإتحاد، لم يتبق من عالمه شيء، اختفت الأزمنة، واختفت الأشباح، واختفت الأصوات والروائح والأصداء·· واختفت كل تلك الجنونات والأطياف، ها أنا أعود إلى سيدي بلعباس في هذا اليوم، وهذا التاريخ المسجل حروفا، منتصف سبتمبر من هذا العام·· أحمل شبح ياسين وعطر ياسين وشظايا زمن ياسين، أحملهم كلهم على كتف ذاكرتي كالصليب·· لكن لا أحد هناك·· ها أنا مثل شهرزاد أسير وحدي أبحث في هذه الشوارع الغاصة بالملامح التائهة والآذان التائهة عن شهرياري، عن شهريارات لأحكي عن الكاتب، عن زمن الكاتب وأحلام الكاتب التي ظلت تسكنني كالأصداء الباحثة بقسوة عن ملامح صورتها·· تلفنت إلى عبد الحق، كان خارج التغطية·· تركني السائق وعاد إلى العاصمة، اتصلت برفيق قديم لياسين، هو الآن على رأس المسرح الجهوي لسيدي بلعباس، قلت له، ''أنا هنا في سيدي بلعباس'' وتواعدنا على أن نلتقي بعد التاسعة مساءا·· اتصلت كذلك بعز الدين، وهو صديق، تعرفت عليه فيما بعد، في منتصف التسعينيات يوم عدت أيضا دون ياسين إلى سيدي بلعباس، وهو الآن أيضا مخرج بمسرح سيدي بلعباس·· مررت على طريق الركابة، حيث المنزل العائلي لصديقي القديم بشير عثمان·· لم يكن بالمنزل، لا أحد يقول لك أين اختفى صديقي بشير عثمان·· كان مسكونا برامبو ونجمة··· اشتغلنا على مسرحية ''الجسر'' في الثمانينيات، كان هيغليا وماركسيا وياسينيا، كان مولعا بالرياضيات، و''محمد خذ حقيبتك''، ثم أحرق كل الأوراق، كل الشعر الذي كان يكتبه، وركن إلى الصمت وباع في الطحطاحة كل كتب هيغل وماركس ونجمة وفرويد، ثم سافر إلى فرنسا واختفى عشر سنوات·· وفي منتصف التسعينيات عاد كلانا إلى سيدي بلعباس·· احتضنني واحتضنته بقوة·· هو يتحدث عن السنوات الفرنسية في أوساط المهاجرين المغاربة، ويتحدث عن الروح، وعن الطابوية وعن إعادة اكتشافه لياسين المتصوف المتخفي، وعن فتوحات ابن عربي، وأنا أتحدث عن جبهة الإنقاذ، وعن الجماعة الإسلامية المسلحة، وعن بوفاريك والموت اليومي في بوفاريك وعن عنتر زوابري وعن كل أمراء الموت والجنون··· وعن ابن عربي وعن ياسينه الذي اكتشفه بعد طول غياب·· وانبعثت صداقة جديدة، بيننا نحن الصديقان القديمان·· كنت أجلس إليه في حانوت أخيه، حيث كان يبيع كل تلك العقاقير الفلاحية·· التصوف والفلاحة، ابن عربي وياسين؟! كان يكتب، عاد إلى الكتابة من جديد، لكنه لم يطلعني سوى مرة أو مرتين على كتاباته الطلاسمية··· أنا عدت إلى المسرح مع عز الدين، وكتبت المأساة ''هابيل وهابيل'' أما هو، فظل يكتب بسرية طلاسمه التي حولته إلى زاهد لم يعد قادرا على مواصلة الكلام والإنخراط في الحياة، ''حياة التفاهة'' كما كان يقول·· ثم اختفى·· رفض أن يتزوج، رفض أن يسير في شوارع المدينة، رفض أن يجلس بالمقاهي·· أين يا ترى هو الآن؟! لا أدري·· هذا اليوم، هو يوم جمعة·· نزلت مع حسن عسوس من فومبيطا حيث منزل والدي إلى المسرح، جلسنا في مكتبه، التحق بنا عز الدين·· كلاهما كان على علم، أنني جئت لنتحدث عن ياسين·· طيلة الساعات التي رحت أطرح الأسئلة فيها على حسن عسوس، كان عز الدين صامتا وهو يضع سيجارته على فمه·· سألت عن مهاودي أحمد، هو أيضا، لم يعد يخرج من البيت إلا نادرا·· لم يعد جسده يتحمل·· لم يعد صوته مدويا، لم تعد نجمته تهدر بكل تلك الضوضاء الغناءة·· تعرف حسن عسوس على ياسين في السنوات الأولى من عودته من باريس إلى الجزائر العاصمة·· ما الذي أريده يا إلهي من حسن؟! هل نريد إعادة بناء الجوانب المنسية من الصورة لذلك الرجل الذي أصبح يوحد لحظاتنا المتشظية··؟! مثّل حسن أدوارا كثيرة في ورشة ياسين، من ''محمد خذ حقيبتك'' إلى ''حرب الألفي سنة'' إلى ''فلسطين مغدورة'' إلى ''سلطان الغرب''·· تعرف حسن في الفرقة على فضيلة التي أصبحت زوجته·· وفيها تلخصت كل التراجيديا الياسينية، تراجيديا كاهنة/ ديهيا الجزائر·· وتراجيديا الجزائر المغتصبة والمقاومة طيلة الألفي سنة···