الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    المغرب: لوبي الفساد يتجه نحو تسييج المجتمع بالخوف ويسعى لفرض الامر الواقع    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    الشباب يهزم المولودية    سباق الأبطال البليدة-الشريعة: مشاركة أكثر من 600 متسابق من 27 ولاية ومن دول اجنبية    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    العدوان الصهيوني: الأوضاع الإنسانية في غزة تزداد سوء والكارثة تجاوزت التوقعات    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن كاتب ياسين
نشر في الجزائر نيوز يوم 21 - 10 - 2009

وصلت إلى سيدي بلعباس عند منتصف النهار·· كان الجو حارا، والشمس متفجرة في السماء·· العودة تسكنني دائما كالقدر·· سيدي بلعباس، هي هذه الذاكرة الموشومة المنغرزة في جسدي·· هي هذه الوجوه التي تمر عليّ كما الطيف، كما هذه الأشجار التي أنظر إليها وتنظر إليّ من وراء نافذة السيارة·· هي هذه الأصوات التي تأتي إليّ من بعيد وتأخذني إلى زمن الطفولة، وزمن التسكع والضياع في متاهات شوارع حي فومبيطا، حيث مسقط رأسي·· وعندها كان الزمن الغابر ينتفض داخلي كذاك الحنين إلى كل تلك الروائح والألوان والأصداء التي ظلت تتراقص في سراديبي كالأشياء التي لا تريد أن تختفي، أو تموت، كالأشياء التي تتجدد الحياة من خلالها مع كل الأمكنة التي صارت مجرد أطلال، وكل الفضاءات التي أخذت وجوها جديدة··
غادرت سيدي بلعباس منذ أكثر من ثلاثين سنة·· وقتها تحصلت على شهادة البكالوريا، حملت حقيبتي المكدسة بالكتب، وتوجهت رفقة والدي محمد على متن سيارة الريتمو الزرقاء إلى محطة القطار إلى وادي تليلات ثم إلى الجزائر العاصمة·· سقطت دمعة من عيني وأنا أحتضن والدي الذي حياني بابتسامة عميقة لم تختف من ذاكرتي إلى غاية اللحظة·· انزويت في مكان في القطار، وأنا أحمل في جعبتي كل تلك الصور، صور الأمكنة والأصدقاء التي كنت أخشى عليها من التلاشي··· لكن في الوقت نفسه كنت مشتاقا إلى تلك الحياة الجديدة·· وصلت في الصباح الباكر، كانت عيناي منتفختين من قلة النوم والتعب·· نزلت في التارمينوس وتوجهت وأنا أحمل على ظهري حقيبتي الرصاصية إلى مقهى في ساحة الشهداء·· كنت أشبه الجندي شفايك وأنا في ذلك الضياع المليء بالضجيج والصخب·· وصلت وأنا أكاد أختنق في تلك الحافلة الخضراء إلى رويسو حيث الحي الجامعي رقوال·· كانت غرفتي بالطابق العاشر·· رميت بجسدي على السرير الحديدي وغرقت في سبات عميق·· وفي المساء عندما فتحت عيني شعرت بالجوع، لكن بشوق غريب إلى تلك المقاهي·· مقاهي سيدي بلعباس حيث جلست لأول مرة مع كاتب ياسين، كان يرتدي جاكيت حمراء وسوداء، ويدخن بعمق وهدوء، ويضع على رأسه مظلاً0 أصفراً، ويشرب الشاي المنعنع وهو يصغي إلينا، نحن الشبان الثلاثة سعدان بريك، بشير عثمان وأنا الذين كنا نحلم أن نكون كتابا وشعراء وممثلين!
ما الذي تبقى من ذلك الزمن الأشبه بالحلم؟!
ها أنا أعود إلى سيدي بلعباس·· أبحث من جديد عن ظل كاتب ياسين·· لكن أين أجد مثل هذا الظل··؟!
لم تعد فومبيطا، مسقط رأسي ذلك الحي الذي عرفته·· تغيرت كثيرا مثلما تغيرت المدينة·· الناس أيضا تغيروا أنا هنا غريب وسط أهلي·· أنا هنا مجرد صحفي يطل من حين إلى آخر على أبناء فومبيطا الجدد من خلال التلفزيون·· أين هم الأصدقاء؟ كلهم اختفوا (هل ابتلعتهم الأرض؟!) اختفت الحقول، واختفت أشجار التوت والزيتون·· واكتسح الإسمنت تلك الحقول الخضراء، ومساحات الدوالي التي كانت تمتد إلى غاية بحيرة الولي الصالح سيدي محمد بن علي··
اختفت الدروب الوعرة، واختفت الغدران والسواقي، وحلت محل البيوت القديمة ذات القراميد الحمراء، البنايات المتجهمة والعمارات المتزاحمة والفيلات الباذقة المتغطرسة·· تغيرت أسماء الشوارع، وتحوّلت كلها إلى أسماء جديدة، قيل لي إنها أسماء للشهداء·· لكن هؤلاء الشهداء لا يعرفهم أحد··
احتضنتني والدتي مهدية التي تفاجأت بزيارتي، حتى بيتنا تغير، لم يعد عامرا وصاخبا مثلما كان عليه في الأيام الخوالي·· سألتني والدتي عن زيارتي المفاجئة·· ماذا أقول لها يا إلهي؟! ''هل أقول لها جئت أبحث عن ظل كاتب ياسين·· عن ما تبقى من هذا الكاتب الملعون الذي تعلمت منه كيف يمكن أن نحب الحياة ونحياها بعيدا عن الأقنعة؟''·
سكت·· فمهدية لا تعرف صاحب نجمتي·· لم تلتق به·· ولم تتفرج على مسرحه·· قدمت لي الكسكسي، وشربت الشاي·· نمت قليلا ثم أخذت دشا دافئا، ونزلت إلى مكتبتي، حيث تنام كتبي القديمة·· وهناك بين الرفوف امتدت يدي إلى مسرحية ''الرجل ذو النعل المطاطي''·· كم قرأتها من مرة؟! على أية حال أكثر من خمس مرات·· سألت مرة كاتب، كيف كتب هذه المسرحية·· كان ذلك في العام ,1982 في المركز العائلي بابن عكنون حيث كان يقيم·· وكنت في ذلك الوقت أقضي معظم وقتي في بيته رفقة سائقه، مرزوق الذي اكتشفه كاتب في خضم أحداث الربيع البربري·· وكان مرزوق وقتها ممثلا في فرقة ''دبزة'' المسرحية·· قال لي كاتب أنه زار فيتنام·· التي كانت رمزا للنضال ضد الأمبريالية الأمريكية·· التقى هوشه مينه·· تجول في شوارعها ومدنها·· التقى بنسائها اللواتي ذكرنه بأمه في فن سرد الحكايا·· استمع إلى أولئك المقاومين للآلة الأمريكية وإلى أولئك الذين هزموا الفرنسيين في معركة ديان بيان فو·· تعرّف على روح المقاومة الفيتنامية المتجلية في بساطة الرجل الفيتنامي، وإرادة المرأة الفيتنامية التي كانت في حد ذاتها أسطورة حقيقية·· أسطورة نابعة من العبقرية الشعبية، وعندما عاد إلى باريس أراد أن يروي الملحمة الفيتنامية، يرويها بحب يعكس ذلك الحب الذي اكتشفه في بساطة الفيتناميين·· لكن روايته لهذا الحب، وجدها في ذلك المزج الرائع بين العمل التوثيقي وتجربته في الميدان التي عاشها وسط القرويين الفيتناميين·· كان كاتب معجبا
بمسرح بيسكاتور الذي يعتمد على الوثيقة والشهادة·· لذا كان الرجل ذو النعل المطاطي صورة من هذا المسرح السياسي والهجائي الذي اعتمده بيسكاتور·· وعندما يحدثك كاتب عن تجربته مع الفيتناميين، فإنه سرعان ما ينتقل في حديثه عن حرب التحرير الجزائرية، وعن الفلاح الجزائري في الأوراس وسدراتة وفي العمق الجزائري الذي كان يريد أن يكون له مسرحه الخاص·· والذي كان يسميه كاتب ''المسرح الشعبي··''·
آلو حسان، أنا هنا في سيدي بلعباس
حسان عسوس صديقي، في الخمسينيات من عمره، يميل لون بشرته نحو الشقرة الهادئة، ذو عينين خضراوين، تعرّفت عليه في نهاية السبعينيات عندما جاء مع كاتب ياسين، إلى مدينتي سيدي بلعباس·· مثّل في كل مسرحيات كاتب ياسين، من ''محمد خذ حقيبتك''، ''حرب الألفي سنة''، ''فلسطين مخدوعة'' و''ملك الغرب''·· كان تلميذا في الثانوية ويسكن حي ليفيي عندما ذهب إلى مركز التكوين المهني ببرج البحري ليتفرج على مسرحية ''محمد خذ حقيبتك''·· كان ذلك في العام .1972 وفي تلك اللحظة تغير كل شيء في حياته·· اقترب من كاتب بعد العرض·· كان رجلا بسيطا، متواضعا، ويتكلم بإشارات من يديه·· قال له، حسان، أنه أحب ''محمد خذ حقيبتك'' وأنه يرغب في الالتحاق بالفريق·· نظر إليه كاتب بصمت، ثم قال له، ''إذن تعال غدا··'' وفي تلك الليلة لم ينم حسان·· كان يستعيد صورة صاحب نجمة وهو يكاد لا يصدق نفسه·· هل هو في حلم؟!·· لا·· إنه ليس في حلم·· لم يكن الحلم إلا حقيقة وبداية مغامرة·· والدليل، بعد أسبوع كان حسان في فرقة كاتب·· عرض عليه أن يكون في الفريق الذي يقوم بتصوير عرض ''محمد خذ حقيبتك'' لكن سرعان ما وجد حسان نفسه على الخشبة··
تلفنت لحسان، أنا هنا لوقت قصير·· هل نلتقي؟!
بعد نصف ساعة كنت رفقة حسان·· قلت له، إنني هنا لأبحث مجددا عن كاتب·· رحنا نجوب شوارع سيدي بلعباس ونحن نتكلم عن كاتب·· عن ذلك الشاعر البوهيمي، الذي تقاسمناه مثلما تقاسم هو ورفاقه نجمة·· ها أنا أقف أمام مقهى الإتحاد، حيث التقيت لأول مرة كاتب·· في وسط المدينة حيث الساعات الأربع·· غير بعيد يقف المسرح أمام بلاص كارنو·· في هذا المقهى تناولت الشاي مع كاتب·· صديقي سعدان الذي أصبح فيما بعد أستاذا جامعيا، وكان يحلم أن يكون شاعرا·· وبشير عثمان الذي كان يحلم أن يكون كاتبا وفيلسوفا، سألناه عن نجمة، لكنه راح يتحدث لنا عن المسرح والشعب·· تحدثنا كثيرا واستمع إلينا كثيرا·· في ذلك الوقت كنا نشرف على مجلة أدبية في ثانويتنا، سي الحواس·· وعرضنا عليه أن يأتي إلى الثانوية ليتحدث لنا عن نجمة، لكنه شجعنا على أن نأتي لنرى مسرحية ''فلسطين مخدوعة··''·· كان بسيطا، وتحدث إلينا بعفوية، ذهبنا إلى ناظر الثانوية، وقلنا له، إن كاتب ياسين، مستعد لأن يدعونا نحن تلاميذ الثانوية، إلى المسرح·· لكن المدير، وهو خريج مدرسة العلوم بالقاهرة، لم يكن متحمسا لذلك·· وقال لنا، ''إن فرعون شيوعي··'' فحاولنا أن نصحح·· ''لا· ليس فرعون·· فمولود فرعون مات·· إنه كاتب ياسين صاحب نجمة''·· وعندئذ قال لنا·· ''أعرف·· أعرف، أقصد كاتب ياسين·· إنه لا يحب العرب المسلمين··''·· شعرنا بالحزن·· لكن سرعان ما تراجع الناظر عن حكمه·· وسمح لكل الثانوية أن تتفرج عرض ''فلسطين مخدوعة'' في المسرح·· وكان ذلك اليوم مشهودا·· كان مسرحا جديدا بالنسبة إلينا·· مسرح مليء بالألوان والأصوات والحياة·· في ذلك اليوم سقطت في حب شيء، اسمه مسرح كاتب ياسين·· أنظر إلى مقهى الإتحاد·· لم يعد هناك مقهى·· لقد حل محله بنك الخليج·· أنظر إلى حسان، هل يدري ما يجول بأعماقي؟! كان حسان يتحدث عن تحضيره لعرضه الجديد·· عرض ''الجثة المطوقة'' نص كاتب ياسين·· قال لي حسان وهو يجذب بعمق نفسا من سيجارته ''نكاد الآن ننتهي من ترجمة الجثة المطوقة'' التي يقوم بإعدادها يوسف ميلة، وهو شاعر وكاتب وأستاذ جامعي بسيدي بلعباس ومترجم·· وأضاف حسان الذي سيقوم بإخراج ''الجثة المطوقة'' سأقدم كاتب بنظرة جديدة·· نظرة منفتحة على كل ماهو عميق فينا·· يبقى كاتب متجددا، ومثيرا للأسئلة المرتبطة بوضعنا التراجيدي·· تراجيديا غناءة، حية وخلاقة للحياة من جديد··''·
يدير حسان عسوس اليوم المسرح الجهوي لسيدي بلعباس·· منذ سنوات، قام بإخراج ''غبرة الفهامة''·· وهو الآن منكب على ''الجثة''·· هل هو الوفاء؟ بل هو أكثر من ذلك، يقول لي حسان·· ''نحن اليوم في أشد الحاجة إلى تقديم ياسين بنظرة جديدة··''·
تركت حسان لنلتقي في اليوم التالي·· ورحت أتجول وحيدا في شوارع سيدي بلعباس·· كنت كمن يريد استعادة الوجه الخفي الذي توارى خلف أقنعة المدينة الجديدة·· وقفت طويلا أمام باب ثانويتي القديمة، سي الحواس·· تبدو الثانوية صامتة وكأن أبوابها وقضبانها وشجر ونخيل رصيفها العريض تذكرني·· هم لم يتغيروا·· شجر الميموزا والصنوبر لم يتغير، شعرت بالفرحة كالطفل، كان الرصيف خاليا، والأضواء باهتة·· مررت بسينما الأولمبيا التي أصبحت مجرد أطلال·· كنت أنظر إلى المباني الكولونيالية القديمة، كانت صامتة وغريبة·· وعندها رحت أتذكر ذلك الشتات من الصور واللحظات التي كنت أحاول من خلالها استحضار كاتب في لحظة وحدتي وعودتي إلى سيدي بلعباس···
سيدي بلعباس، بن عكنون··بن عكنون، بلعباس··
كنت في السنة الأولى جامعي، ولم أمكث في حي رقوال سوى بضعة أشهر لأنتقل إلى الحي الجامعي بابن عكنون·· أخبرت كاتب بذلك عندما التقيته في سيدي لحسن، ضواحي سيدي بلعباس حيث كان يقيم مؤقتا·· كان أثناءها غارقا في إقامة علاقات مع شبان مسرح الهواة ومثقفي وفناني المدينة·· قال لي، ''لابد أن نلتقي في بن عكنون، بعد شهر··''·
عندما توجهت إلى المركز العائلي ببن عكنون، كان ياسين عائدا لتوه من بلعباس ليمكث حوالي أسبوع·· كان البيت عامرا بالأصدقاء، عرّفني على علي زعموم، وشاعرة شيلية كانت تقيم في نفس المركز، والمخرج السينمائي جان بيار ليدو وجاكلين آرنو التي كانت تشتغل على نصوصه الأدبية والمسرحية والسيدة ليلى مكي التي لعبت دورا كبيرا في مساعدة كاتب في العلاقات العامة·· لأول مرة أكتشف هذا العالم العجيب·· لم أحبب جاكلين أرنو التي شعرت أن لها نزعة استحواذية على كاتب وكانت تنظر إلى من حوله بنظرة استعلائية·· كانت عكس علي زعموم، مناضل جيش التحرير منذ الساعات الأولى، دائم الابتسام، كان المشرف على طباعة العدد الأول من جريدة المجاهد في مكان سري على مستوى تيزي وزو، وكان هو صاحب مبادرة انتقال كاتب ياسين من فرنسا إلى الجزائر·· لقد كان علي زعموم إطارا في وزارة العمل والتكوين المهني، وكان هو من أقنع وزير العمل آنذاك معزوزي ليدعم فرقة كاتب بالمال والمقر في القبة ثم في باب الوادي·· وعندما انتقل معزوزي من وزارة العمل وحل محله محمد بن عيسى أمين جرد كاتب من مقر باب الوادي وتوقف الدعم المالي للفرقة، فوجد من جديد معزوزي الذي أصبح وزيرا للمجاهدين مساندا له، وهذا إلى غاية اللقاء الذي جمع ياسين برضا مالك والذي كان وزيرا للثقافة والإعلام، فاقترح عليه ليكون على رأس مسرح سيدي بلعباس الجهوي·· كانت العلاقة التي تجمع بين علي زعموم وكاتب أكثر من علاقة صداقة، كانت أخوة لا توصف فيها الكثير من الحب والتقدير والتضحية، ولا أظن أن كاتب أحب شخصا بهذه القوة مثلما أحب علي زعموم إذا ما استثنينا محمد اسياخم وزينات·· شقة كاتب لازلت أتذكرها بكل تفاصيلها، كانت صغيرة وكل ما فيها يعكس حياة التقشف والزهد الذي كان يعيشه كاتب·· الغرفة الكبيرة كان فيها سرير كبير وخزانة صغيرة فيها كل ألبسته وأوراقه وآلة كاتبة·· أما الغرفة الثانية، إن جاز التعبير، فكانت عبارة عن صالة صغيرة موصلة بالمطبخ والحمام، فيها سرير حديدي من درجتين وطاولة، ومكتبة جدارية·· كان لون الشقة أزرقا باهتا، وعلى أحد جدرانها لوحة أقرب إلى عالم وإلى صورة لنجمة رسمها ابن أخته يزيد·· وفي إحدى الزوايا تمثال صغير للأمير عبد القادر·· وعلى أحد الجدران كانت هناك كتابات تذكرك بالكتابات الجدرانية تشيد بستالين··
سألت كاتب مرة كيف يجمع في نفس الوقت بين الأمير عبد القادر وجوزيف ستالين، فأجابني ''أن ستالين برغم ما يقال عن ديكتاتوريته إلا أنه ساهم في إلحاق الهزيمة بالنازية، واستمر حليفا لشعوب العالم الثالث أمام الأمبريالية الأمريكية، أما عبد القادر فهو ليس فقط مؤسس الأمة الجزائرية العصرية، بل إنه شاعر إنساني لم يعرف العرب واحدا في مثل إنسانيته في زمانه··'' ثم اكتشفت في جلسة أخرى مع كاتب أن ما كان يجذبه إلى عبد القادر هو تصوفه وزهده وحدثني لأول مرة، أن عبد القادر كان تلميذا روحيا لابن عربي·· في ذلك الوقت لم أكن أعلم عن ابن عربي شيئا·· وقد أهداني كتاب ''المواقف'' المترجم إلى الفرنسية في دارساي، وقال لي احتفظ بهذا الكتاب، وفيما بعد حاول أن تقرأه·· وفي العام ,1996 عندما رحت أشتغل على الحقل الديني، تذكرت نصيحة كاتب عندما اكتشفت فتوحات ابن عربي وتلك العلاقة الفكرية والروحية بين الأمير وابن عربي·· في 2 نوفمبر ,1982 عندما اغتيل الطالب كمال أمزال في حي ابن عكنون الجامعي، من طرف الإخوان المسلمين كنت من بين الجرحى·· في اليوم التالي اتجهت إلى شقة كاتب بالمركز العائلي، كنت حزينا وجريحا، قلت له ''لقد قتلوا كمال أمزال أمام عيني'' ورحت أبكي·· رويت له تفاصيل ما حدث·· قتل كمال على الساعة الثامنة والربع في نادي الحي الجامعي بابن عكنون·· في ذلك المساء كان الحي مليئا بالغرباء·· لم تتدخل الشرطة إلا عند منتصف الليل بعد أن جاء وزير التعليم آنذاك عبد الحق برارحي·· كنت شبه منهار وأنا أتحدث إلى كاتب حول ما قامت به قوات التدخل السريع·· عندئذ قال لي كاتب، لابد أن لا نصمت، علينا أن نروي ما عشناه·· وكانت تلك النصيحة وراء تأسيسي لفرقة كمال أمزال وعودتي من جديد إلى المسرح·· بعد مقتل كمال آمزال، انتقلت من الحي الجامعي بابن عكنون إلى شقة كاتب، حيث أصبحنا نقيم فيها، كاتب، ابنه أمازيغ ومرزوق وأنا·· وفي تلك الفترة التي استمرت إلى يوم رحيله رحت أكتشف كاتب الإنسان·· كاتب الخجول، كاتب الشبيه بالعاصفة الهوجاء عندما يشرب ويتذكر أمه التي فقدت عقلها، كاتب الطفل، المتمرد، المشاكس عندما يسطل··
في العام ,1984 كنت أتجول وكاتب في غابة ابن عكنون، سألت كاتب كيف كتب ''نجمة''؟ صمت قليلا وكأنه يريد أن يحدثني عن شيء آخر، ثم قال ''·· كنت ضائعا في باريس·· أتنقل من فندق إلى آخر·· وكان لي صديق من بولونيا·· شعر أنني أبحث عن مكان أعتزل فيه·· سبق وأن قرأ لي بعض الأشعار·· وعندئذ اقترح عليّ أن أمكث في شقته لأربعة أشهر، لأنه ببساطة كان سيغيب عن باريس أربعة أشهر·· كل شيء كان متوفرا في الشقة·· الأكل والشراب·· لم أخرج من الشقة سوى مرة أو مرتين طيلة الأربعة أشهر·· كنت أدخن كثيرا، وأشرب كثيرا وأكتب كثيرا·· كتبت نصا·· كنت أشعر بنفسي وكأنني واد لا يريد التوقف·· كنت أعرق، وأرتجف·· كنت أكتب كالمحموم، كنت أكتب في كل الأوقات·· شعرت بنفسي وكأنني أنتقم من كل السنوات التي كنت أبحث فيها عن العزلة لأكتب·· وعندما انتهيت من الكتابة، وجدت نصا أمامي بحوالي 850 صفحة·· نقحته وبعثت به إلى دارساي·· قاموا بتنقيته وتحول من 850 إلى حوالي النصف·· وكان ذلك النصف هو نجمة التي اكتشفها القراء··''· ودائما ونحن في غابة ابن عكنون وهو يقود دراجته سألت كاتب عن تجربته مع الكتابة والمسرح، فقال ''·· أنا لست سوى شاعر·· لكن شاعر اخترق تلك المناطق الأخرى من الكتابة··'' لقد اكتشف فولكنر وجويس·· وكان هذان الكاتبان مصدر توجهه نحو الرواية وإن كان يحتفظ بتقديره الكبير لأونوريه دو بلزاك·· ثم حدثني عن حبه لشاعرين قلبا حياته رأسا على عقب، وهما شارل بودلير ورامبو·· أما عن المسرح فكاتب يعترف أنه ليس بكاتب مسرحي، لكن بفضل المسرح اليوناني غامر بالانتقال إلى هذا الميدان الذي كان بالنسبة إليه عبارة عن قارة مجهولة··
تشير الآن الساعة إلى منتصف الليل·· أقف أمام مسرح سيدي بلعباس·· هاهو أمامي شبح كاتب، يقف في ساحة كارنو·· أضع سيجارة المالبورو لايت بين شفتي·· انتظر حسان ليأخذني إلى منزلنا بفومبيطا·· أنا هنا في هذه اللحظة ضحية هذا الشبح الجميل الذي ينتظر مني أن أحكي الحكاية·· لكن كيف لي أن أحكي وأنا محاصر بكل هذا الصمت وهذه البنايات الشاحبة الحزينة التي تخفي من وراء سكونها كل تلك اللحظات المملوءة بالزمن الذي مضى؟!!
أصل أمام منزلنا·· أفتح الباب·· والدتي نائمة·· أتسلل إلى الفراش·· أفتح التلفزيون·· أتفرج على قناة الجزيرة·· أخبار الحروب والموت اليومي·· أريد أن أنام·· لكن كاتب لا يريد أن ينام وهو الذي رحل عن هذه الدنيا منذ 20 سنة بكاملها··
الجنازة·· اليوم الأخير··
كنت في بار البولميش عندما أخبرنا أحد الأصدقاء أن كاتب مات·· لم أفاجأ فلقد رأيته منذ شهر·· كان حزينا، صامتا وكئيبا·· علمت أنه مريض بالسرطان·· سألني إن كنت قد تقدمت في ترجمة نصوصه الأخيرة المسرحية المتعلقة بمانديلا والثورة الفرنسية·· قرأت له الترجمة·· وجدها جيدة·· لكنه قال لي، إن نصه حول مانديلا غير مكتمل ووعدني أن يعطيني الباقي·· ثم قال لي، إنه سيذهب ليستلم الجائزة الأدبية التي سلمت له في فرنسا، لنلتقي بعد ذلك·· ثم حدثني في تلك الأيام عن رغبته في العودة إلى الكتابة الأدبية، وكتابة سيرته الذاتية··
ذهب إلى فرنسا·· تحدثنا مرة في التلفون عندما اتصل بي من غرونوبل في بن عكنون، في بيته حيث كنت أقيم رفقة مرزوق·· كانت المكالمة، الاتصال الأخير·· ويوم عاد إلى ابن عكنون كان في تابوت··
مات كاتب، من يصدق؟!
في المطار وضعوا له TAPIS rouge·· اعترفت به بعد موته الجزائر الرسمية لكن خارج المطار، كلهم كانوا مختفين·· كنا نحن أبناءه الصعاليك·· نحن الأيتام في انتظاره··· نحن الأيتام الذين جلسنا إلى جانب التابوت العاري·· نحن الأيتام وكنا في ذلك الوقت مجرد نكرة·· كنا مجرد فنانين، ومتمردين وحالمين بالثورة·· حملناه على أكتافنا يوم الجنازة·· وضعنا التابوت في 404 باشي·· غنينا باب الواد الشهدا·· غنينا لانتار ناسيونا، في المقبرة·· كنا كالمجانين ونحن نرفع التابوت على أكتفانا في مقبرة العالية·· هل كان كل ذلك الزمن، هو زمن جنون؟!!
ربما·· على أية حال، كان اليوم الأخير من زمن اسمه زمن كاتب ياسين··


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.