من خلال هذه الدراسة الأنثربولوجية التي تناولت ''الأهزوجة الجماعية'' عموما والنسائية منها المرتبطة بالثورة التحريرية على وجه الخصوص، يرى الباحث عمار يزلي أن هذا النوع الفني هو أمازيغي بامتياز. يخلص المؤلف إلى نتيجة مفادها أن منطقة ''ترارا'' بأقصى الغرب الجزائري التي طبّق عليها هذه الدراسة هي أمازيغية تعربت بالكامل، إلى درجة اعتقاد أهلها أنهم عرب ويرفضون بشكل قاطع لقب ''القبايلي'' الذي يطلقه عليهم سكان الضفة الأخرى من وادي تافنة، ويؤكد من خلال أسماء بعض الأماكن وحتى بقايا اللغة المعربة وطريقة اللباس والحكايات الشعبية الشفوية على الانتماء الأمازيغي للمنطقة، ويقول إن الأهازيج الجماعية بما فيها النسائية هي من الخصائص الأنثربولوجية للمجتمع الأمازيغي. ولئن كانت أهازيج النساء في تلك المنطقة مصنفة على أنواع محددة، منها المرتبط بالدين التي تؤدى عادة في الزوايا ذات العلاقة بالطرق الدينية وفي مناسبات دينية محددة، ومنها المرتبط بالعمل مع مناسبة التطوع الجماعي (التويزة) التي لا تخلو من الألفاظ الدينية كالدعوة للأولياء الصالحين للمساعدة، أو في حالات أخرى كلعبة ''التاغنجة'' أو ''البوغنجة'' المعروفة بالشرق الجزائري، التي تدعو من خلالها الجماعة الأولياء الصالحين ''الذين يتحكموا في المطر'' أن يسقوا الأرض العطشى، فإنه في المقابل ظهر نوع آخر من الأهازيج في لحظة تاريخية معينة وهي لحظة الثورة التحريرية الجزائرية التي أنتجت من خلالها جموع النساء في تلك المنطقة أهازيج مدهشة تؤرخ لتلك المرحلة بطريقتها الخاصة، وهي الأهزوجة الثورية التي قال بشأنها المؤلف أنها كانت تصيب النسوة بحالات إغماء أثناء تأديتها. وتكون الثورة التحريرية من خلالها قد ابتدعت نماذج مختلفة من النضال. إنها ''المقاومة السيكولوجية'' كما سماها الباحث التي اعتبرها ''خرسانة الثورة أمام ترسانة الحرب الاستعمارية''. ولم يكن الغوص في ذلك الحقل الرمزي بالعمل اليسير، خصوصا في تلك الأرض البكر التي ظلت بمنأى عن أي بحث حقيقي وبقيت تصارع الشفوي المهدد بالنسيان في أي لحظة، خاصة مع تقادم العهد شيئا فشيئا وزوال الأسباب الموضوعية التي تجعله حاضرا في الوجدان الشعبي، الذي انتقل إلى سياق تاريخي مختلف، وكان على الباحث أن يغوص عميقا في ''المرجعية الفكرية الأسطورية منها والأنطولوجية '' التي يراها أنها تحدد ''عدة أبعاد في الرمز الشعري والصورة الشعرية''. والكتاب الذي جاء عنوانه كاملا ''ثورة النسا.. أهازيج عن الثورة الجزائرية''، غاص طويلا في الجانب النظري، المرتبط بالأهزوجة الجماعية، وظروف نشأتها، وارتباطها ب ''أنثربولوجية الانتماء''، وجوانبها الفنية الإيقاعية، ولم يخصص للجانب التطبيقي المرتبط بالأهزوجة النسوية خصوصا المرتبطة بالثورة التحريرية إلا الجزء الأخير من الكتاب، وكان يمكن أن يكون عدة دراسات مختصرة في كتاب واحد، لا يعبر العنوان العام عن مضمونه بدقة، وعذر الباحث أن ما قام به هو دراسة تأسيسية في موضوع غير مطروق بشكل شبه تام. ولئن تناول منطقة محددة جغرافيا (ترارا، قرب تلمسان) بحكم أنه ابن المنطقة ويعرفها جيدا مما يسهل عليه العمل في هذا الحقل غير المدروس، إلا أن ما قدمه، في الجزء الأول على وجه الخصوص ينطبق على الكثير من المناطق من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق الجزائري، الأمازيغية التي تعربت، فالكثير من العادات والتقاليد والمصطلحات تكاد تكون واحدة مع اختلافات طفيفة جدا، ومن هنا تكمن أهمية هذه الدراسة التي وإن جاءت محددة فهي تناولت جوانب سوسيولوجية وأنثروبولوجية مهمة جدا في المجتمع الجزائري على وجه العموم، نحن في حاجة إلى الإطلاع عليها، لأن النسيان يهددها في كل حين مع سيطرة الشفوية على الوضع. العنوان: ثورة النْسا.. أهازيج عن الثورة الجزائرية المؤلف: د. عمار يزلي نوع الكتاب: دراسة أنثربولوجية عدد الصفحات: 204 الناشر: منشورات البيت