نجحت الروائية مايسة باي من أن تجد لنفسها مكانة محترمة في عالم الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية، بعيدا عن الجدل الساعي لجعل من اللغة عنصر تفرقة بدلا من عنصر ثراء، حيث ترى الروائية أن التصنيفات في عالم الأدب لا معنى لها سواء تعلق الأمر باللغة أو بهوية الكاتب بقدر ما تهم الرسالة التي يتضمنها الإبداع الأدبي في حد ذاته. شاركت مؤخرا في فعاليات الملتقى الذي نظمته وزارة الثقافة حول التجربة النسائية المغاربية في الكتابة، ما الذي يمكن أن تضيفه مثل هذه اللقاءات؟ بالرغم من أنني ضد التصنيفات التي تميز الكتابة النسوية عن الكتابة الذكورية، إلا أنني أعتقد أن مثل هذه اللقاءات التي تجمع بين الكاتبات الجزائريات والعربيات وحتى الأجنبيات، بالرغم قلتها، تشكل فرصة لإيجاد فضاء للتعبير عن نفسها وعن أدائها وأفكارها، فمثل هذه النشاطات تخلق الفرصة للنساء المبدعات ليتعارفن ويتبادلن الأفكار والخبرات، وهي فرص تشكل منبرا للمرأة من أجل الحديث عن أهدافها من خلال صوت واحد يجمع مختلف النساء اللواتي يشاركن في مثل هذه اللقاءات. هناك من يرى بأنه من الضروري التمييز بين الأدب النسوي والأدب الذكوري، هل أنت مع أو ضد هذا التصنيف؟ أنا شخصيا لا أميل إلى مثل هذه التصنيفات لأن الكتابة لا تصنف حسب جنس الكاتب ولا يجب أن نقول أن هناك كتابة نسوية أو ذكورية، وأعتقد أن التصنيف الصحيح لهذه الأعمال الأدبية يكون أفضل إذا كان على أساس الإبداع بالقول أن هناك عملا أدبيا جيدا أو رديئا، وأرى في تصنيف الكتابة حسب الجنس حجة لتغطية بعض العيوب في الكتابة لأن المبدع الحقيقي خارج كل تصنيف، كما أن مثل هذه التصنيفات تكون في أوساط الطلبة والمكتبيين حتى يتمكنوا من تسهيل مهامهم في البحث عن اسم الكاتب مثلا، ويبقى التصنيف الذي أؤمن به هو التصنيف الذي يكون حسب نوعية المنتوج الأدبي. هناك من الكتاب من يرفض الكتابة باللغة الفرنسية بحجة أنها لغة المستعمر، ما رأيك في ذلك؟ وما الذي يجعل الكثير من الكتاب يلجأون إلى الكتابة بلغات غير اللغة العربية؟ كتابتي باللغة الفرنسية لم تكن اختيارية، فأنا أكتب باللغة التي تعلمتها جيدا وأتقنها، فقد عايشت مرحلة الثورة التحريرية، فقد تعلمت في بداياتي الأولى في المدرسة باللغة الفرنسية، ولذلك واصلت في الكتابة بهذه اللغة التي أتقنها وأعبر بها وأرتاح فيها، وأنا أتأسف لأنني ولدت في تلك الفترة وتعلمت بتلك الطريقة، وحقيقة الفرنسية هي التي اختارتني ولست أنا من اخترتها. وأحيطكم علما أن والدي رحمه الله كان من بين رجال جبهة التحرير الوطني وتعرض هو الآخر إلى بطش المستعمر، وكان دائم الحرص على تعليمنا اللغة الفرنسية فكان يقول دائما: ''تعلموا لغة العدو'' فمن تعلم لغة قوم سلم شرهم. لكن هناك من يفضل أن يكتب باللغة الفرنسية بالرغم من اتقانه للغة العربية، لأسباب تجارية بالدرجة الأولى، لأن الرواية باللغة الفرنسية هي التي تلقى الرواج أكثر من تلك التي كتبت باللغة العربية؟ لا أحد يمكنه أن ينكر ذلك، فهناك الكثير من الكتاب ممن اتخذوا لأنفسهم الكتابة بلغة أجنبية من أجل ترويج أعمالهم في الخارج، فبدلا من الكتابة باللغة العربية يكتبون باللغة الفرنسية كي تلقى أعمالهم صدى خارج بلادهم، ولا أعتقد أن المهم في كل هذا هو اللغة التي نكتب بها، بل الأهم من ذلك هي الثقافة والرسالة التي يمكن أن نوصلها من خلال أعمالنا، وأنا شخصيا لو توفرت لدي الإمكانيات من أجل الكتابة باللغة العربية لفعلت، ولو كان بإمكاني الكتابة باللغة العربية، لكتبت نفس الشيء الذي أكتبه باللغة الفرنسية. تتناولين في معظم أعمالك مواضيع مرتبطة بالتاريخ الجزائري والفترة الاستعمارية، ما هدفك من اختيار هذه المواضيع بالتحديد؟ أتناول في معظم رواياتي المواضيع التي لها علاقة بتاريخنا وعلاقتنا بفرنسا، ولا أخاف أبدا من أن أقول الحقيقة لأنني في النهاية صاحبة حق وأدرك ذلك حق الإدراك، فقد عايشت الفترة الاستعمارية وبهذا أكتب أن واقع عشته وعاشه الشعب الجزائري، وهنا تخدمني لغتي الفرنسية التي أكتب بها في إيصال رسالتي حول الثورة الجزائرية إلى الآخر، فأنا أكتب باللغة الفرنسية لإيصال رسالة الاضطهاد والظلم والتعذيب والقتل وغيرها من المعاملات غير الإنسانية التي تعرض لها الجزائريون إبان الفترة الاستعمارية، والكثير من الفرنسيين يتعجبون من ماضيهم وتاريخهم الذي يجهلونه، فالكثير منهم يسألني إن كان هذا حقا ما حدث، والكثير منهم يجهل حقيقة بطش وظلم بلدهم، الذي كان في حقيقة الأمر ظالما وليس مظلوما كما يعتقد البعض منهم، والكثير من الفرنسيين يتعجبون من اتقاني للغة الفرنسية وكتابتي تاريخ الجزائر والاستعمار بلغتهم، فكتابتي باللغة الفرنسية مرتبطة بالتاريخ، فالحديث عن تاريخنا مرتبط بفرنسا، كما أنني أهتم في كتاباتي بالمرأة أيضا، ولم يكن ذلك دفاعا عن حقوق المرأة، بل إن اهتمامي بالكتابة حولها هو لإيصال حقيقة الواقع الذي تعيشه المرأة الجزائرية بدون رفع شعار ''الدفاع عن المرأة''، بل أسرد في أعمالي واقعا وقصصا من الحياة اليومية للمرأة الجزائرية، التي أصبحت تقتحم كل المجالات التي دخلها الرجل، والفرق هنا بينهما الآن يبرز فقط في الإبداع. لقد ترجمت بعض أعمالك مؤخرا إلى اللغة العربية، ومن بينها رواية ''هل تسمع من الجبال''، هل يمكن أن تحدثينا عنها؟ ''هل تسمع من الجبال'' هي الرواية التي ترجمها الأستاذ محمد ساري من الفرنسية إلى اللغة العربية، وهي رواية أخذت عنوانها من الأنشودة الوطنية ''من جبالنا'' وهي تعبر من عنوانها عن نفسها، فهي رواية تتطرق في مضمونها إلى موضوع الثورة الجزائرية والقصة يمكن أن أقول بأنها السيرة الذاتية لوالدي، حيث كتبت فيها عن البطل الذي توفي جراء العذاب في سجون المحتل، وأنا جد فخورة بهذا العمل الروائي لأنني قلت فيه كل ما أريد وسردت فيه الحقائق بلغة المستعمر لكي يعلم الفرنسيون ما يجهلونه عن أجدادهم الذين جعلوا مني فتاة يتيمة بعدما زهقوا روح والدي، وقد تم تحويل هذا العمل الروائي إلى عمل مسرحي تم تقديمه سنة 2003 على خشبة المسرح، كما تم عرض مسرحية ''السيدة فرنسا'' بالمركز الثقافي الفرنسي بالجزائر، بمبادرة من المركز نفسه، وهو العرض الذي اقتبس من إحدى رواياتي كذلك. كيف كان رد فعل الفرنسيين الذين شاهدوا هذه المسرحية في فرنسا؟ لقد أسفر عرض هذه المسرحية في فرنسا عن ردود أفعال مختلفة مثل التي تعودنا عليها في مختلف الأعمال التي تكشف النقاب عن الحقائق التاريخية، لكن هذا لم ينقص من عزيمتي، مازلت أكتب عن التاريخ الجزائري المرتبط بالماضي الفرنسي الاستعماري، كما أن الكثير من رواياتي إن لم أقل معظمها قد تم تحويلها إلى مسرحيات تعرض بالمسارح الفرنسية، بالرغم من أن هذه الروايات تخلو من الحوارات إلا أن تحويلها إلى مسرحيات لم يكن بالشيء الصعب وعلى أي حال فهناك من الفرنسيين من يقدرون ما أقوم به، كما أنه ليست لي مشاكل لا مع فرنسا ولا مع الفرنسيين بالرغم من أنني أقول لهم في الكثير من الأحيان بأنني تربيت يتيمة بسببهم. هل تعتقدين أن تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال درامية أو مسرحية يمكن أن يكون ناجحا دائما؟ على حسب اعتقادي، فإن تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال درامية ليس بالشيء المستحيل، فالكثير من الروايات المعروفة حولت إلى أعمال درامية أو الى عروض مسرحية ناجحة، وبالنسبة لي فإن تحويل بعض نصوصي الى أعمال مسرحية لم يغير من قيمة الرواية، بل يساهم تحويلها الى مسرحية في الزيادة من قيمتها ورسالتها الانسانية، فقد تم مؤخرا تحويل روايتي ''أبيض، أزرق، أحمر'' الى عمل مسرحي يحمل نفس العنوان، وقد أعجبتني كثيرا طريقة اخراجها مسرحيا من طرف خير الدين لرجام من مسرح وهران، وقد شارك في التمثيل على خشبة المسرح كل من الممثلة مليكة بلباي والممثل سمير الحكيم وغيرهم. وهل من عمل روائي جديد تحضرين له في المستقبل القريب؟ أنا بصدد التحضير حاليا لعمل روائي جديد يخلد الذكرى ال50 لاستقلال الجزائر، ولكن هذا لا يعني أنه سيصدر قريبا جدا، ربما لن يكون ذلك قبل سنتين كي أتمعن جيدا في تفاصيل كتابته وأنا أتأنى فيه صراحة ولا أريد إصداره قبل سنتين، وأهدف من خلال هذا العمل الروائي التاريخي الجديد إلى تغيير النظرة التي يحملها الآخرون حول الجزائر والجزائريين، بحيث سأحاول أن أعرف بجيل الشباب الجزائري اليوم والواقع الذي يعيشه، من أجل تغيير تلك الصورة المشوهة التي يحملها غيرنا عن وطننا وشعبنا. في الحديث عن الكتابات التاريخية، برزت مؤخرا ظاهرة كتابة المذكرات الثورية، ما رأيك فيما يمكن أن تضيفه مثل هذه الكتابات؟ التاريخ لا يجب أن نقول بأنه يسرد بل يجب على كتاب التاريخ أن يحللوا الأحداث التاريخية ويتعمقوا فيها، فالتاريخ ليس حقيقة شخص ما بل هو حقيقة شعب بأكمله، وكتابة المذكرات هو تحرير للكلام والحقائق، ويجب أن يخضع هذا النوع من الكتابة الى قوانين تضبطه، فالكتابة التاريخية مرتبطة بأهداف للكتابة ولا تتلخص هذه الأهداف في سرد الأحداث، فالكثير ممن يكتبون عن مذكراتهم التي تخلو في الكثير من الأحيان من الموضوعية، لا يتحدثون عن أخطائهم بل يكتبون من أجل انتقاد غيرهم فقط.