عندما شاركت لأوّل مرّة في حياتي في أمسية شعرية بجامعة قسنطينة عام ,1987 حيث كنت طالبا جديدا بمعهد الآداب واللغة العربية، كان فاروق اسميرة من ضمن المشاركين، ومن بين أهمّ الأصوات الشعرية في الجزائر آنذاك. وباختتام الأمسية، اقترب منّي وأخبرني أنّه تابع بعض ما نشر لي الأستاذ المبدع مصطفى نطور بجريدة النصر، واحتضنني بحبّ ورعاية طيلة العامين اللّذين قضيتهما بقسنطينة. كان يحدّثني عن آرتير ريمبو وجلواح، ويحفّزني على قراءة كتب الفكر والفلسفة.. كان مهوسا بجاك دريدا ورولان بارط وجورج باطاي ونيتشة وأدونيس، ونقل لي هوسه ذاك، كما لو كان يفتح أمامي أبواب الأسئلة الأكثر حرجا في حياتي، ويدفعني من حيث لا أدري إلى طرح سؤالي. ''ليس مطلوبا منك أن تتلذّذ بطرح أسئلة هؤلاء العظماء.. عليك بطرح سؤالك، والبحث عنه مهما كلّفك الأمر''، وأضاف يقول: ''إذا لم يكن الشعر سؤالا، فإنّه لن يكون أبدا إجابة''. سألته كيف ذلك؟ قال: ''الشعراء الإسلاميون من أنصار الأدب الإسلامي يقدّمون أجوبة دينية جاهزة عن قضايا أدبية وفكرية لا علاقة لها بالدّين أصلا، وكذلك يفعل الإيديولوجيون بمختلف مشاربهم. الإبداع يخترق الأيديولوجيات ولا يستسلم أو يستأنس إليها''. فغادرت إلى العاصمة، وبقي هو في قسنطينة، إلى أن التقينا مجدّدا بجامعة الجزائر المركزية، مطلع تسعينيات القرن الماضي، كما لو أنّنا لم نفترق أصلا، فتعرّف عن طريقي بالشاعر الفذّ نجيب أنزار وآخرين، وتقاسمنا لحظات نوعية لا يمكن نسيان حرارتها إلى يوم الدّين. آخر مرّة التقيته، وقد كان شخصا محبّا للعزلة، كنت برفقة صديقي نجيب أنزار يوم 29 جوان ,1992 متوجّهين إلى جمعية الجاحظية للقاء المرحوم الطاهر وطار.. وفي الطريق سقط خبر اغتيال المجاهد الكبير الرئيس محمد بوضياف؛ لم يتحمّل فاروق وقع الصّدمة، وأخبرنا بأنّه سيحزم أمتعته ويعود إلى قسنطينة. ومن يومها اختفى عن الأنظار، إلى أن قرّر الإلقاء بنفسه من أحد جسور قسنطينة المعلّقة، حوالي سنتين بعد ذلك. لم أستغرب للأمر، لأنّه تحدّث عن موته في قصيدته ''البرتقال''، وكان يعتبر الموت سؤالا جديرا بالطّرح حتى لو تكفّل الجسد بطرحه، مثمّنا ما أقدم عليه صديقه الحميم عبد الله بوخالفة، الذي واجه قطار قسنطينة ودهسه بجسده النّحيل في الرابع أكتوبر من العام .1988 كان أصوليو الأدب في قسنطينة يعتبرونه زنديقا كافرا وخارجا عن الملّة، ولم يكن يحظى لديهم، بما كان يجب أن يحظى به شاعر حداثيّ ومثقّف رفيع بحجم فاروق اسميرة، وقد أثّر ذلك الأمر في نفسيته الهشّة أيّما تأثير. وكشف لي ذات يوم أنّ هؤلاء ضحايا فكر وهّابي متطرّف، وأنّ عليهم بالأساس أن يكتشفوا حداثة الشيخ عبد الحميد بن باديس وأفكاره التنويرية، قبل أن يبيعوا أرواحهم بأبخس الأثمان إلى شياطين ''الدعوة المتطرّفة''.. للتاريخ أقول إنّ فاروق كان يجد متعة خارقة للعادة وهو يعيد قراءة آثار ابن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي ومحمّد الميلي والعربي التبسي، ويعتبرهم فخرا للجزائر، وينبوع معرفة قلّ نظيره. وكم كان معجبا بفكرة الإسلام الوراثي والإسلام الذّاتي وفق الطرح الباديسي، الذي يقول بشأنه إنه تجاوز بعصور من السنوات الضوئية طروحات معاصريه من المفكرين الإسلاميين. لست أدري ماذا كان يقول صديقي فاروق وهو يهوي بجسده من الجسر المعلّق في الخواء. بالتأّكيد لم يكن ينوي الانتحار.. كان يرغب في اختراق القشرة الأرضية، والنفاذ منها إلى الفراغ الفسيح، والتحليق في أرجائه تحليقا أبديا،يليق بجناحيه وقدرته على الطيران. إنّك لا تزال محلّقا في هوائي وفي امتلائي وخوائي كما كنت دوما تحلّق.