تشير الساعة، الآن، وأنا أكتب هذه السطور، إلى التاسعة والنصف صباحا، أجلس على الشرفة المطلة على البحر الممتد كقطعة من الصفيح ذي اللون الرصاصي الداكن، يتراءى أمامي، هناك في الأفق، نصف جبل ذو شكل ضريحي يصعد من حوله وتحته كوم من البخار الكثيف بحيث يحجب عن الناظر تلك الرؤية الهادئة والرائعة، لكن ذلك لا يمنع الناظر من تأمل رونق تلك السلسلة الجبلية المنبطحة وكأنها ضريح يخفي في باطنه وتحت سراديبه جثة مارد عملاق·· وهذا الصوت المدمدم والمزمجر العميق، يندلق من أعماق البحر المتماوج الساكن كأنه سمفونية بدائية متوحشة بحيث تأخذك إلى الغور والتيه في أعماقك، علّك تكتشف، من جديد، نفسك المشوبة بالخواطر المبهمة، والمشاعر الغامضة والمخاوف الدفينة في متاهات اللا وعي الصامت في الظاهر والمتلاطم كما هذا البحر الممتد أمامي من حيث الباطن·· جبلان صخريان وكأنهما طرفا بوابة مشرعة على المدى المحشو بالمجهول والملفع بالفضاء السرمدي اللا نهائي·· ألتفت نحو اليسار فيبدو لي الشاطئ هادئا ساكنا، فقط أطفال شبه عرايا، مجرد أجساد متحركة، كأنها خيوط شمس تركض على الرمل الأسود حينا، وتغطس في البحر حينا آخر، ثم ألتفت باتجاه الأعلى، دائما نحو اليسار، فأرى القمة، قمة الجبل بكل ما تحمله القمة من معاني الشموخ والهدوء المتعالي والحكمة والإعتزاز، قمة عميقة العلو كأنها تلتصق بالأفق، كأنها تعانق السماء، ذلك العناق الأبدي الذي طالما أردناه ونحن ضائعون في متاهات لجة الحلم الطفولي، وعند منحدر القمة تبدو الهضاب مروجا خضراء ضاحكة، لتمتلئ بها الروح وتكتحل، بمناظرها الخلابة، العين الملهوفة بالحسن والجمال· وتزدان بها البيوت والفيلات المزدحمة والمتراصة، وكأنها تبحث في تلاصقها عن حميمية مفقودة وفيض دفء ضائع· أجلس، وحيدا، على شاطئ فرعون بتفزرت وأمامي قصة ''جميلة'' لجنكيز إيتماتوف، وفنجان قهوة متدثر بما تبقى من أوراق العطلة، التي حاولت عبثا سرقة زمنها من ذلك الزمن الذي ينهشنا كوحش خفي كل لحظة، ونحن في غفوة منه ومنا·