لم يكن ليو تولستوي مجرد كاتب ومثقف خلق أدبه منارة عصره وحسب، بل كان إلى جانب ذلك مثقفا كبيرا جمع بين حب الجمال وقداسة الإنسان، وحوّل إبداعه إلى منارة للإنسان·· لقد ارتقى من مكانة كاتب عملاق إلى نبي جديد، مدافعا عن الكرامة والحرية والقيم السامية·· ونحن في هذا الملف حاولنا الكشف عن هذا المسار لرجل جمع بين الأدب والحياة، وبين لحظتي الزوال والخلود وعن تلك المكانة التي حظي بها خارج بلاده، بحيث وصل سموه كرسالة روحية إلى قلوب العديد من المبدعين والمثقفين في العالم، ومن بينهم عرب ومسلمين مثل الشيخ محمد عبده وأمين الريحاني ومصطفى المنفلوطي··· تابعوا··· ليو تولستوي من العباقرة الذين عرفوا المجد في أوطانهم، أولا، فهو بذلك فريد بين عباقرة كثيرين عبر التاريخ، يكدون ويجتهدون ويبدعون العجائب في الفن والأدب ومختلف العلوم، ولكنهم يموتون في صمت تام لا يأبه لهم أحد· حتى إذا مرّ على الزمن وقت طويل أو قصير انتشر ذكرهم في الآفاق وأقيمت لهم المتاحف والتماثيل· أما صاحبنا، فقد عرف في وقته، نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، شهرة واسعة في روسيا، إلى درجة أنه كان على طرفي رهان -كما يقال- مع القيصر نفسه· وكان من معاصريه من يقول: ''في روسيا قيصران: القيصر وليو تولستوي''· كان ذائع الصيت على الرغم من أنه يقف على طرفي نقيض من كل ما يمثله النظام القيصري، وما تمثله البرجوازية الروسية في ذلك القوت·· في كل شيء· ومع مرور الوقت بدأت تلك الشهرة تمحى، أو تكاد بعد، مرور قرن من الزمان على وفاته سنة 1910 (ولد سنة 1828)· والحقيقة أن الشخصية التي كان يمثلها، وسط الأوليغارشيا السياسية، هي السبب في ذلك، فلم يمض على وفاته ثلاث سنوات حتى عمدت السلطة إلى حرق مخطوطاته ومارست رقابة بُعدية على كتبه·· ولكن ذاكرة الرجل بقيت حية، بل وازدادت حياة، خارج حدود روسيا، وبخاصة في أوروبا ومن ورائها في سائر البلدان· أما الروس أنفسهم فهم يحتفلون بمن هبّ ودبّ من الكتّاب والمؤلفين بطريقة أكثر بهرجة بكثير من احتفائهم بصاحب إثنتين من أشهر روايات تاريخ الإبداع الأدبي على الإطلاق، هما: أنا كارنين والحرب والسلم· ويرى بافيل بازنسكي أن ''أفكاره عن الزهد تبدو غريبة في روسيا اليوم، حيث تزدهر الرأسمالية البدائية''· وليلاحظ القارئ أننا نحاول رسم صورة تولستوي في روسيا اليوم من خلال ما استطعنا الإطلاع عليه عن طريق ما تبثه شبكة الأنترنت· ويقول عبد السلام غوساينوف، من معهد موسكو للفلسفة: ''إن مجتمعنا لا يزال يتوهم أن باستطاعته أن يحل جميع النزاعات عن طريق العنف··''· وهاتان الفكرتان: الزهد ونبذ العنف، يفسران لنا، إلى حد بعيد، غربة تولستوي في بلده· وفي حدود ما نعلمه عن المجتمع الروسي في أيامنا، فإن كل ما كتبه عن روسيا القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، لا يزال صالحا بحذافيره عن الحالة الراهنة لبلاد القياصرة· أولغرشيا ما بعد البروسترويكا ترفضه مثلما كانت ترفضه البرجوازية القيصرية· والكنيسة الأرثوذكسية ترفضه اليوم كما رفضته على الإطلاق· فعن الزهد يمكن أن نقارنه، بلا تردد بالصوفيين الإسلاميين، وكان أديب الزهد في روسيا مثلما كان أبو العتاهية شاعر الزهد في الحضارة الإسلامية· اشتهر تولستوي بمقولته الشهيرة: ''إذا امتلك شخص أكثر مما يستحق من متاع، فمعنى ذلك أن آخرين يعانون الفاقة والاحتياج''· ولعل الفرق بينه وبين أدب الزهد عند العرب، أن رجلا مثل تولستوي لا يكتفي بتطبيقه على نفسه بل يدعو المجتمع، بكل ما أوتي من قوة، أن يسير على خطاه· وما يحكى اليوم عن بيته، وقد تحوّل إلى متحف بعد وفاة زوجته في عهد الثورة البلشفية، يكاد يثير شفقتنا على رجل في مثل قيمته بل وفي مثل: بيت كبير وسط عشرات الهكتارات من الأراضي الخصبة، ورثه من عائلته الثرية من جهة أمه·· كان من النبلاء ولكنه يعيش عيشة الفقراء· وعن اللاعنف، لا يتردد الكثيرون في مقارنته بغاندي، المشهور ب ''نظرية اللاعنف''، وهذا وحده يكفي في التعرف على هذا الجانب من شخصيته· الفرق الوحيد بينه وبين غاندي أن هذا الأخير لم يمارس العنف قط· أما تولستوي، فقد خاض حرب القوقاز، وكان من الذين شاركوا في دفاع عن سيباستوبول· تبقى مسألة الدين: فالرجل لم يكن من الملاحدة ولكنه كان ينظر إلى وجود الله كما ينظر إليه كل الأدباء والفنانين، (لعله يذكرنا في بعض الجوانب بأبي العلاء المعري القائل: احترت بين أحمد والمسيح)· ومما اشتهر من أقواله: ''فكرة الله هي ما أستطيع أن أوقظه أولا أوقظه في نفسي''· وأكثر من ذلك فقد كان له آراؤه الخاصة عن الكنيسة في ممارساتها الدينية الخالصة وفي علاقتها بالسياسة· ففي رواية ''أنا كارنين'' يقول، على لسان ستيفان أوبلنسكي، شقيق أنا، وهو يتساءل ''عن القلق الذي ينتابنا وبشكل مفزع ونحن نفكر في العالم الآخر، بينما تحلو الحياة، هنا، في عالمنا الحاضر''، مع العلم أن أوبلنسكي يمثل شخصية الليبرالي الحريص على انتمائه إلى الكنيسة· ولكن الكنيسة لم تفهم من آرائه فيها سوى مروقه، فأصدرت حكما بردته سنة 1901 ولا يزال ساري المفعول إلى اليوم· كان لليو تولستوي اهتمام بكل شيء في حياة المجتمع الروسي في ذلك الوقت، كما كان له اهتمام بالحياة على إطلاقها: اهتمام بالحب والزواج والوفاء والخيانة والدين والتعاسة والحزن والفرح والدين وعلاقته بالسياسة، وباختصار كل الصفات التي يمكن أن نسبغها في لحظة من لحظات الحياة أو على موقف معين أو على العلاقة بين كائن وكائن: من العلاقة بين الرجل والمرأة إلى العلاقة بين الإنسان وأضعف الكائنات، كالذبابة مثلا· ولا تعدو رواية ''أنا كارنين'' أن تكون وصفا دقيقا لشبكة من علاقات الحب والكره والزاج والخيانات بين رجال ونساء المجتمع الروسي·· فالحب والشعور بالذنب هو الذي دفع ب ''أنّا'' إلى الانتحار، والحب هو الذي دفع بكيتي أن ترتمي في أحضان ليفي لتعرف السعادة الزوجية إلى جانبه، في نهاية مطافها، بعد خيبة أملها في حب الكونت فرو نسي، الذي أوقع ''أنّا'' في شباكه· هذا الكونت المختص في تدمير البيوت وسحق القلوب· ومن العبقرية الفذة أن يناقش تولستوي هذه المسائل، الحب والكره وما يدور في بيوت البورجوازية وقصور النبلاء، إلى جانب تفاصيل دقيقة عن الحرب في روايته العظيمة ''السلم والحرب''· كما كان لتولستوي أفكار طريفة عن الطفولة والمراهقة والشباب في مجموعة كتب تحمل عناوين مواضيعها (الطفل، المراهق والشباب كانت من أوائل ما كتب)· ومع ذلك فلا يكتمل هذا الحديث عن شخصية هذا الرجل دون ملاحظة أن ما يثيره من مواقف وما يبثه من أفكار لا يقصد بها الفن من أجل الفن· فمن الظلم أن نقول إن الشخصيات التي كانت تسبح في محيط رواياته من نسج خياله، وأنه يحركها كما يفعل الأدباء· لا·· فقد كان له في كل ما يفعل مقاصد أخلاقية أولا: فهو يريد أن يحمل الناس على ما يؤمن به من قيم، وهو، من ناحية أخرى، ينشد طرقا بيداغوجية معينة لتوصيل تلك القيم· وليس غريبا عليه، والحالة هذه، أن يكون أحد كبار المهتمين بالتربية والتعليم في زمنه· وكان من بين أهداف سفره إلى أوروبا سنة ,1856 متجولا بين ألمانيا وسويسرا وفرنسا، الإطلاع على الفكر والأدب هناك، مثل قراءته لروسو ومونتسكيو وغيرهما، ولكن أيضا بحثا عن أحدث الطرق البيداغوجية للتربية والتعليم، ليطبقها في روسيا· وقد فعل ذلك من خلال تأسيسه مدرسة خاصة، ولكن مجانية، في مسقط رأسه ببوليانا، على بُعد حوالي 150 كلم من موسكو· وهي مدرسة عرفت شهرة واسعة في ذلك الوقت، حرص من خلالها على تعليم أكبر قدر ممكن من أبناء الفلاحين· وكانت طرائقه في التلقين ثورية حقا، وجد لها التربويون المعاصرون، وبخاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أهمية كبيرة· كان يحرص أن تكون المدرسة هي المؤسسة التي يتعلم فيها الطفل الحب والسعادة والأخلاق، وأن تبحث في الحياة ما لا تعرفها في واقعها اليومي وما لا تقدمه السياسة والكنيسة من حق وعدل، مثلما كان حريصا على أن تتحوّل مدارك الحياة اليومية إلى معارف منهجية· وعندما رفضت السلطات مشروعه لتأسيسة جمعية تربوية قال: ''سأبذل كل ما أملك وكل قوتي لإنجاز هذا البرنامج، أحبوا أم كرهوا، وسأعمل على تأسيس جمعية سرية لتعليم الشعب بمفردي إن اقتضى الأمر''·· وبعد كل هذه الجولات والصولات وبعد كل هذه الحياة الطافحة بالنشاط والإبداع، لا نكاد نفهم ما الذي حدا به وهو يغادر بيته وعائلته (وهو الذي أنجب ثلاثة عشر طفلا)، ذات يوم حاملا عصا الترحال ليعثر عليه ميتا في إحدى محطات القطار بموسكو·