مقهاي الأول، مكاني الإبداعي، عطر الشاي إذ يتعالى، إذ يعبق، إذ يختلطان معا بدخان السجائر، الأصوات، الضجيج وأنا وحدي مع هذه الذات، إذ تتماوج الانفعالات والأحاسيس والمشاعر يعتلي بعضها بعضا، هذي شخوص قصصي، إذ أستدرجها فتتأبى ثم تجيء الهوينى ثم تتشكل، إذ أحادثها فتحادثني حتى تستوي اسودادا على بياض، أين مني ذلك الزمن، تلك المقهى، إذ لا أتذكر الآن غير قصة ''الصّرع'' من مجموعتي ''أحلام أزمنة الدم'' وقد نشرتها لي الجاحظية وسيدي الطاهر وطار يثني عليها وقد قدمتها له، وأحداث القصة تدور في مقهى اسمه مقهى المسافرين، وكنت مقيما في الحجار، إذ أنزوي في آخر المقهى الذي يتوسط الشارع الرئيس، إما قارئا أو كاتبا، ليس معي غيري، هذا الحوار الذي لا يني يتوقف حتى الآن، أتذكر كما الآن صديقي الحميم الناقد الأستاذ عاشق الأدب الجزائري شريبط أحمد شريبط، إذ نجلس معا، إذ أقرأ على مسامعه قصة ''الجرافة'' فينصحني بعدم نشرها الآن، وأرسلها فتنشرها جريدة النصر، ثم تثير كثيرا من ردود الفعل نقديا، كل ذلك ونحن بالمقهى، وينبغي ألا أنسى، وكيف لي أن أنسى، وللتاريخ، أن كل الفعاليات الثقافية التي أشرف عليها فرع اتحاد الكتاب الجزائريين بعنابة منذ ثمانينيات القرن الماضي، كان المقهى مكانها المفضل، نختاره بدقة، والدقة تعني هنا الانزواء والبعد عن كل الفضوليين، وكان يرأس الجلسات الأستاذ شريبط أحمد شريبط ومعنا الشاعر عبد الحميد شكيل ويوسف شقرة وجمال فوغالي، حتى إذا استوى البرنامج أعلنا ذلك في الناس عبر الصحافة ودعونا الوفود كيما تجيء من كل اتجاه· آه، أين مني تلك اللقاءات الحميمة وقد فرّت فرارها باتجاه لا أدريه· لعلني أتذكر المقهى المفتوح على السماء، عند عمي بالرابح، إذ أجلس تحت الظل الظليل لشجر الفيكوس دائم الخضرة عند الكور، المصب البيضوي، ساحة الله الواسعة، وقد أشع تحت شمس فولاذية في صيف بونة الآبق، إذ أتملى الحياة، هؤلاء الجميلات اللواتي يفضن بالجمال، وقد لوحتهن الشمس فغدون ذهبا خالصا مشعا، فيقفز القلب باتجاههن مخطوفا قطا محناة بدم العشق وهذا الوجد الذي يملأ الآن هذه الذاكرة، إذ تستعيد مقهى الطفولة ''السيلاكت'' التي أصبحت الآن مقرا للخطوط الجوية الجزائرية عند أقصى الكور عند الصعود يسارا، وقد كانت ملاذا لنا في تلك الطفولة البائدة· آه، يا طفولتي الذبيحة، وكانت أيضا المكان الأثير للروائي السوري حيدر حيدر في سبعينيات القرن الماضي، وبها خطط لروايته الذائعة الصيت ''اوليمة لأعشاب البحر، نشيد الموت'' التي أرخت فنيا لجزائر التحولات في سبعينيات ذلك القرن الذي انتهى، وبالتأكيد كان إلى جواره صديقه العراقي الشاعر ذو النون الأطرقجي، وقد حدثني عنهما معا الشاعر عبد الحميد شكيل· هكذا عشت المقهى، بأسمائها المختلفة: مقهى المسافرين، مقهى بيروت، مقهى الرحيل، وقد رحل كل ذلك إلى غير رجعة، فمنذ عهد بعيد لم أعد أعتاد المقاهي وحيدا، ولا أدخلها إلا ومعي صديق حميم، نرتشف فنجان القهوة سريعا ونغادر سريعا، فلم يعد بي هوى للمقاهي وقد اندثرت حتى لكأني لا أراها، إني أقرأ في البيت بعد منتصف الليل، وقد أكتب أيضا، وأنهض باكرا كيما أتوجه إلى مقر عملي، فالأنشطة كثيرة والمشاريع أيضا ولابد أن أعمل على استكمال كل ذلك· وعندما أعود إلى بونة الفاتنة سيدة المدائن، أستعيد مقهاي الأثيرة، إذ أدخلها فتنهض طفولتي فرخا مزغبا··· فأطير···