في هذا العدد من المساهمات الجامعية نقدم لكم نظرة عن الأحداث الاجتماعية الأخيرة التي عرفتها مختلف المدن الجزائرية وثار حولها الكثير من الجدل·· هنا نقدم لكم وجهتي نظر لجامعيين· بغضّ النظر عن الطابع الآني للاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من خلال الأحداث الأخيرة التي هزت البلاد في جميع أرجائها، يبدو الظرف مواتيا للتساؤل حول البعد المؤسسي لأزمة النظام الريعي القائم ودور التمثيل والرمزية les représentations et le symbolique في تجمّد عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر· من منظور معيّن، يمكن اعتبار المؤسّسات، التي هي تدوين للعلاقات الاجتماعية، كتجسيد لطرق تصوّر العالم الخارجي، وهذه ''الطرق'' تشكل إحدى مصادر شرعية وفعالية المؤسسات· في ظل هذا التصوّر، يبدو التغيير المؤسسي كأنه تعويض لتمثيل قديم بتمثيل جديد· فالرؤى والتصورات تشكل محرّك للتغيير المؤسسي، كما أنها عنصر مكوّن للنظام المؤسسي.1 إن وضع تحليل التغيير المؤسسي في الجزائر في هذا المنظور لا يخلو من أهمية أو فائدة، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان الهوية الغامضة وغير المحددة للريع الخارجي الذي يقوم على أساسه إعادة الإنتاج المادي للمجموعة الوطنية· غموض الهوية الاقتصادية للريع يفتح المجال واسعا للاعتبارات الرمزية والأيديولوجية لتوسيع مجالات التعبير عن نفسها، إلى الحد الذي يجعلها قادرة على أن تتجسد في تكوينات مؤسسية محددة، لذلك يظهر أنه من المفيد جدا أن ننظر إلى الخطاب كوسيلة للتغيير، وكأداة لتحليل التحولات التي حدثت في الجزائر، خصوصا منذ نهاية الثمانينيات· إنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه· فالكثير من المفكرين تطرقوا إلى مسألة دور الرمزية والإيديولوجيا في التغيير الاجتماعي والاقتصادي· نكتفي في هذا الإطار الضيق بالعودة إلى الأعمال الرائدة لكل من المرحوم جيلالي اليابس والأستاذ لهواري عدي، لنذكر ببعض من استنتاجاتهما الرئيسة· ففي مقال يعود تاريخه إلى العام ,1986 يقرّ الدكتور جيلالي اليابس بوجود صلة بين الهوية الاقتصادية المبهمة للريع الخارجي والإيديولوجية التي تبرر استخداماته: الشعبوية· هذه الأخيرة، يكتب ج· اليابس، تبدو وكأنها تجميع لأفكار· وهذا التجميع assemblage يكوّن تحالف مع الريع، أو بعبارة أدق، يعبّر عن غموضه الإيديولوجي· فالشعبوية لا يمكن فصلها عن الريع· ولكن، يلاحظ الكاتب، إذا كان لا شك في أن الريع سمح بتحقيق منجزات إيجابية عدة (···)، فإنه من الواضح أيضا أنه تسبب في ''تحجّر'' الحركة التاريخية و''تجميد'' التناقضات الاجتماعية، تجميد منع هذه الأخيرة من أن تكون مصدرا لتحديث المجتمع· حول أزمة النظام الريعي، يكتب ج· اليابس، وهو يستعين بصيغة تذكرنا كثيرا بالمفاهيم المجندة عادة من قبل مدرسة الضبط الاقتصاديEcole de la Régulation : ''إن لأزمة الريع بُعد سياسي مؤسسي، لأن الأمر يرتبط، من خلال ضروريات التحكيم في عملية التوزيع، بإعادة رسم شكل العلاقات الاجتماعية الرئيسة، وبعبارة أخرى، بتحوّل عميق ومستمر لأنماط الضبط الاجتماعي''.2 وكخلاصة لما سبق، يختم المؤلف تحليله بالإشارة إلى أن أزمة النظام الريعي تثير قبل كل شيء معضلة الانتقال من نظام شرعية إلى آخر· من جهته، يشير الأستاذ لهواري عدي إلى أن طغيان الفكر الشعبوي ليس غريبا عن الجمود المؤسسي السائد· فالفكر الشعبوي، كما يؤكد عليه المفكر في علم الاجتماع السياسي، متجذّر في دواليب الدولة وفي المجتمع· في هذا السياق، فإن رصد سريع للأحداث السياسية التي توالت منذ بداية التسعينيات يبين دون عناء إلى أي مدى أصبحت الثقافة الشعبوية متجذرة في المجتمع الجزائري، خصوصا وأن المشروع السياسي الذي ترشح بعنف لخلافة النظام القائم لا يعدو في الواقع أن يكون إلا النسخة ''الخضراء'' للشعبوية· رفض التغيير في هذه الظروف ليس فقط من فعل الموالين والمدعمين للنظام السياسي القائم، أو من فعل النخب، بل هو أيضا موقف فئات واسعة من الشعب البسيط المكون من الموظفين والعمال والأجراء· إن رفض النخب للتغيير يمكن تفسيره بتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية، التي هي أقرب إلى الدولة من المجتمع· فالنخب ''مكونة في المدارس الحكومية، ولا تلج المساحات المستقلة، وتفضّل العودة إلى جهاز الدولة الذي تستمد منه القوت، الاعتراف والامتيازات'' .3 أما رفض الفئات الشعبية، فيعود أساسا لاعتبارات تتعلّق بالمصالح الطبقية· فالتغيير في اتجاه فرض منطق السوق أصبح موضوع رفض بالإجماع وتعبر عنه كل اتجاهات الرأي العام، بما فيها تلك الأطراف التي يتوقع منها مبدئيا مساندة التغيير بدون تحفظ، أي القطاع الخاص المحلّي· ويثير هذا الإجماع، بغض النظر عن طابعه العقلاني أم لا، مسألة دور العناصر الإيديولوجية والثقافية وحتى الدينية في ديناميكية التغيير المؤسسي· فالعقد الاجتماعي يبدو، في الوقت الراهن، وكأنه يستند إلى حد كبير إلى انضمام الدّولة والمجتمع، في أغلبيته الواسعة، إلى قيم محورية مشتركة (الإسلام، القومية، اللّغة···)· ففي أوقات الأزمة، غالبا ما تؤكد الدولة شرعيتها من خلال قدرتها على الدفاع عن هذه القيم المشتركة· في الختام، يمكننا أن نعتبر أن البُعد السياسي للإصلاح يقودنا، مجبرين، إلى طرح مسألة العقبات السياسية التي تعيق مسيرة التغيير، وهذه العقبات تأتي، في الجزائر، كنتيجة لغموض الهوية الاقتصادية للريع·