يعد مصطفى الأشرف في الجزائر المعاصرة أكثر من علم من أعلامها البارزين, فهو أحد قادتها الثوريين الذين تنقلوا بين تيارات الحركة الوطنية؛ إذ أنه كان في مرحلة من المراحل مناضلا في حزب الشعب الجزائري, كما انضم فيما بعد إلى حركة انتصار الحريات الديموقراطية. وما إن اندلعت ثورة نوفمبر حتى كان من رجالاتها الأوائل، بل انه كان من الزعماء الخمسة الذين اختطفتهم السلطات الفرنسية في حادثة الطائرة المشهورة؛ ولما جاء الاستقلال أصبح من قادتها السياسيين ورجال دولتها فتولى العديد من المناصب سواء كسفير للجزائر أو كوزير لأحد أهم وزارتها, ونقصد بذلك وزارة التربية. إلا أن مكانة الأشرف تدعمت أكثر باعتباره علاوة على ما سبق ذكره احد منظري الجزائر الثائرة والمستقلة على حد سواء. ودفعت المكانة السياسية والنضالية من جهة؛ والمكانة العلمية من جهة أخرى إلى أن تكون له مساهمات تنظيرية كبرى في مواثيق الجزائر الكبرى سواء في مؤتمر طرابلس أوفي ميثاق 1976 م التي حملت الكثير من أرائه حول العديد من القضايا, وخصوصا نظرته لمفهوم وطبيعة الأمة وهو ما أثار الكثير من الجدل والنقاش حول حقيقة نظرة الأشرف ومبرراتها وفي بعض الأحيان خلفياتها. 1-الأشرف المفكر ورجل الدولة رغم المكانة الهامة العلمية والتاريخية والسياسية التي يتمتع بها مصطفي الأشرف علي جميع المستويات إلا انه يظل مجهولا لدى الكثير من المثقفين فضلا عن الطلاب وعامة أبناء الجزائر من الجيل الذي عمل الأشرف الإعداد له وقضي معظم حياته في سبيله, شأنه شأن كثير من أبناء الجزائر الآخرين الذين أعطوها عصارة فكرهم وزهرة شبابهم , ونستهم بل وتناستهم وأهملتهم, وكأن البلد ليست واسعة ولا تتسع لجميع أبنائها الذين أحبوها ويحبونها. ومن هنا تكمن أهمية التعريف بهذا الرجل الإنسان والمثقف المناضل ورجل الدولة الملتزم.فمن هو الأشرف وماهي أعماله الفكرية وفيما تجلت نشاطاته السياسية؟ في مدينة سيدي عيسى جنوب شرق ولاية مسيلة بمنطقة الحضنة التاريخية والأصيلة ولد مصطفى الأشرف في السابع من شهر مارس في العشرية الثانية من القرن العشرين؛ أما عن سنة ميلاده بدقة فهناك خلاف حولها إذ يذهب معجم أعلام الجزائر مثلا إلى القول أنها كانت سنة 1919م(1) ؛ في حين جاء في دراسة محمد غالم الموسومة مصطفى الأشرف وثورة الجزائر انه ولد سنة1917م.ولست ادري سبب هذا الاختلاف , خاصة أن الدراستين السالف ذكرها صادرتان عن مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية بجامعة منتورى قسنطينة (2). أما عن والده فيبدو انه ينتمي إلى احد أهم أعراش المنطقة , وإذا كان للألقاب دلالات أحيانا, فان لقب الأشرف يبدو انه يعود إلى احد القبائل العربية الشريفة؛ وخصوصا إذا ما ارتبط اللقب بالاسم الذي هو احد أسماء النبي ؛كما أن المكانة التي كان يتبوؤها والده تدل على ما نقول خصوصا وانه كان قاضيا في محكمة عين بوسيف ؛ و نكاد نجزم فيما ذهبنا إليه خاصة أن خزانة والده كانت زاخرة بالكتب الإسلامية والعربية التي نهل منه الطفل الأشرف قبل أن ينال الشهادة الابتدائية حيث كان قد قرأ المعلقات؛ كتاب العبر لابن خلدون؛ بعض أعمال أدباء المهجر أمثال جبران خليل جبران , وبعض أعمال و روايات جورجي زيدان. وقد كانت البيئة الريفية هذه عاملا بارزا في ربطه بثقافته العربية والإسلامية, التي تبرز في كتاباته المختلفة فيما بعد وخاصة في كتابه المشهور الجزائر الأمة والمجتمع وهذا رغم كثير من الانتقادات التي حاولت أن تنفي عنه ارتباطه العربي و الاسلامى؛ بحكم بعض مواقفه السياسية والإيديولوجية. أما من ناحية أمه فقد كانت عاصمية؛جاءت من بيئة أكثر تحضرا من سيدي عيسى؛ودون شك فلم ترضعه حليبا فقط بل وإنما أرضعته تربية وثقافة خاصة وافدة على البيئة التي ولد فيها.وقد تجلى في مطالعاته المختلفة الأولية حيث يقال انه قرأ كلاسيكيات الأدب الفرنسي في مرحلة مبكرة من دراسته, ومن هنا يمكننا الحديث عن مصطفى الأشرف الجامع بين الثقافة العربية والفرنسية (3) ؛ والجامع بين البيئة الحضرية والبدوية من ناحية الأسرة. وقد مارست هذه الثنائية دورا بارزا وأساسيا في تكوين شخصيته؛ وهذا ما جعل إحدى الثقافتين تنازعانه يميل تارة هناك وأخرى هنالك ولكن في كل الأحيان كانت الأصالة تشده والمعاصرة تقوده؛ وهو ينتقد مرة هذه وأخرى تلك. وقد حاول مواصلة دراسته الثانوية بالجزائر العاصمة مابين سنة 1930 و 1934م حيث كان من المتفوقين كما يقول محمد غالم:" التحق بثانوية ابن عكنون بالجزائر العاصمة, فكان من الطلبة المتفوقين, فكان دائما ضمن الخمسة الأوائل غير أن مشاكل الإقامة ألزمته ...مغادرة الثانوية والالتحاق بمسقط رأسه فنصحه أبوه بالتسجيل في المدرسة الثعالبية - المعهد العربي الفرنسي - حيث زاول دراسته إلى غاية سنة 1940"(4)؛ ويقول معجم أعلام الجزائر أنه تابع دراسته الثانوية و العليا بباريس حيث تحصل من جامعة السر بون على شهادة الليسانس في الأدب. بعد ذلك عاد إلى الجزائر والتحق بالتدريس ببعض ثانويات الغرب الجزائري فشغل أستاذا للأدب العربي بثانوية مستغانم ثم بثانوية لويس الكبير بمعسكر (5). أما مصطفى الأشرف المناضل السياسي فقد بدأ مبكرا حيث انضم إلى حزب الشعب الجزائري سنة 1939 ليكلف بمهام النوعية، فكتب في هذا الإطار العديد من المقالات التي أعطته شهرة واسعة وعرفه المثقفون الجزائريين بالأخص أما الموضوعات التي عالجها فمتنوعة سياسية واقتصادية وتاريخية وقد نشر معظمها في جريدتي البرلمان الجزائري والنجم الجزائري. استقال من التدريس فيما بعد لينظم لحركة الانتصار ليعين سكرتيرا لكتلة حركة الانتصار البرلمانية وقد التحق بجبهة التحرير الوطني مبكرا حيث كلف بكتابة مقالات تدعو إلى الانضمام للجبهة والدفاع عن القضية الجزائرية وقد كان ضمن الجماعة التي اختطفتهم فرنسا في حادثة الطائرة ليطلق سراحه سنة 1961 لأسباب صحية كما قيل . أما بعد الاستقلال فكان رجل الدولة الكبير الذي تولى مناصب عدة أهمها: 1-سفير الجزائر في الأرجنتين سنة 1965. 2-ممثلا للجزائر في اليونسكو. 3- وزيرا سنة1977. 4-أحيل على التقاعد سنة 1986. 5-عضوا بالمجلس الاستشاري سنة 1992. دون أن ننسى توليه إدارة مجلة المجاهد سنة 1962 بعيد الاستقلال مباشرة. توفى بالجزائر العاصمة في13جانفي 2007م. أما عن أعماله العلمية فهي على النحو التالي كما جاء في معجم أعلام الجزائر: 1- الأزمنة المعاصرة في أكتوبر 1956. 2-أغاني فتيات العرب عام1953 م . 3- الجزائر الآمة والمجتمع عام 1956 م وهو مجموعة مقالات كتبت في مراحل متباعدة، كتب بعضها في الفترة الاستعمارية بينما كتب البعض الآخر منها بعد الاستقلال منها: الفصل الثاني: المعنون بالوطنية في البوادي والأرياف و الذي كتب في مارس 1955 م . الفصل الثالث: المعنون: الجوانب النفسية في الغزو الاستعماري وقد كتبه في جانفي 1976م. الفصل الرابع : وقد كتبه في شهر فيفري ومارس سنة 1956 م ، وكان بعنوان مسيرة الجزائر نحو الحرية . الفصل الخامس : وقد كتب في جوان 1955 م بعنوان مسيرة القومية التحريرية إلى الوحدة . الفصل السادس : الاتجاه الثوري في المدن منذ 1830 م وتنظيم المقاومة والكفاح وقد كتب في سبتمبر ، أكتوبر سنة 1956 م . الفصل السابع : الخط الثابت في سلوك الاستعمار سياسيا و عسكريا وقد كتب في ديسمبر سنة 1960 وجانفي سنة 1961 م . الفصل الثامن : الجوانب المجهولة من الثورة الجزائرية وقد كتب في جويلية من عام 1961 م . الفصل التاسع: الجزائر المستقلة من النكسة إلى الوحدة وقد كتبه في 7 أوت من عام 1962 م . الفصل العاشر: وقائع و أفاق ثورية وقد كتبه في 24 أوت 1962 م . أما الفصل الأخير فكان بعنوان نظرات اجتماعية حول الحركة القومية وحول الثقافة في الجزائر. في حين أن الفصل الأول عنون ببين الاستعمار والإقطاعية فقد صدر في شهر أفريل سنة 1954 م ، أما المقدمة فقد جاءت في ما يقارب الأربعين صفحة تشكل ملخص عام لمجمل الآراء التي نادى بها الأشرف وقد أنهى كتابتها في 22 جانفي 1965 م ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل مقالات الكتاب كتبت قبل هذا التاريخ ماعدا الفصل الثالث الذي كتب في جانفي 1976 كما أشرنا سابقا وأضيف إلى الطبعة التي بين أيدينا و الصادرة عن المؤسسة الوطنية للكتاب عام 1981 م . وتوفي بعد مرض عضال سنة 2005م بالجزائر العاصمة.. ****** 2-منهج الأشرف: يمتاز مصطفى الأشرف بقدرة كبيرة على فهم الوقائع وتحليلها وقد تجلى ذلك في قراءاته المختلفة لطبيعة المجتمع الجزائري أثناء الاستعمار فمن خلال مثلا حديثه عن الصراعات المختلفة بين ما يسميه بالحركات الشعبية والإقطاعية المحلية نجده لا يكتفي بعرض المسألة وإنما يتعدى ذلك إلى تقديم مواقفه الشخصية التي تحاول أن تقدم قراءات ملتزمة وفي الوقت نفسه منتقدة التفسيرات المعارضة حيث نجده يقول: "لئن كنا قد استطردنا في القول بعض الشيء، فما كان قصدنا سوى أن نلقي بعض الأضواء على الجو السياسي و الفكري الذي كان سائدا في الجزائر قبيل الاحتلال الفرنسي بمدة قصيرة، وأثناء المقاومة الوطنية. من جهة أخرى، فقد عقدنا العزم بكل تواضع على أن نعيد النظر إلى القضية الجزائرية في القرن التاسع عشر من زاوية موضوعية، اجتماعية بالدرجة الأولى، مع تنبيه القارئ إلى النظريات السطحية المغرضة التي يروجها بعض المؤرخين. ونحن نرمي من وراء هذا، إلى شرح قضية الحركات الشعبية في البلدان غير المستقلة، في صراعها مع الإقطاعية المحلية التي تخدم الاستعمار، وتعمل جاهدة لتصد الشعب عن تيار التحرر الاجتماعي، ذلك التحرر الذي لا يتم الاستقلال إلا به " (6). كما يلاحظ عليه عدم تصريحه مباشرة بخصومه الذين يختلف معهم في منطلقا تهم وتفسيراتهم, وهنا نجده يشير إلى النظرية التي يقول بها هؤلاء وينتقدها كما هو الأمر في قوله:"باعتبار أن بعض الجزائريين أنفسهم أدى بهم الأمر-من حيث لا يشعرون- إلى تعزيز النظريات الاستعمارية من الوجهة القانونية, حينما قالوا بأن الاستعمار أمر حتمي قد تفرضه الخطة السياسية أو الحكمة الإلهية, وان هناك تفاوتا بين الشعوب في درجة الحضارة, وأنه توجد عوامل تحدد"القابلية للاستعمار"، وهذه القابلية هي نوع من أنواع الاستعداد.وإذا وجد لدى شعب من الشعوب في فترة ما من تاريخه، فإنه يصبح بصورة حتمية خاضعا لسلطة الأجنبي... وهذه الحجة تذكرنا بالحجة الانهزامية الباطلة التي كانت حكومة فيشي الفرنسية تحاول أن تبرر بها خضوعها، بعد انتصار النازية عليها" (7). مع ما في هذا المنهج من أسلوب حكيم في الرد على الخصوم دون تجريح إلا أن المنطق في بعض الأحيان يقتضي الاعتراف بالأمر الواقع والعوامل التي أوصلت إليه, ويبدوأن الأشرف يقصد مالك بن نبي صاحب نظرية القابلية للاستعمار, إلا أن الذي نتفق فيه هنا مع الأشرف ضرورة مقاومة الواقع والانتصار عليه, وليس تجاهله. بخصوص دور الزمن في تطوير الكثير من الآراء وتجاوز بعضها الآخر يعترف صراحة من انه خضع لهذا القانون؛ وهذا ما جعل الكثير من مقالاته الأولى تحوى بعض الآراء التي تراجع عنها فيما بعد؛ وتماشيا مع موقف الأشرف هذا يمكننا القول إنه لو أعاد النظر حاليا فيما كتبه وبعد التغيرات الداخلية في الجزائر والخارجية في العالم؛ وزوال كتلة وانفراد الولاياتالمتحدة بالعالم لربما أعاد كتابة العديد من النصوص ولطور الكثير من الآراء؛ وقديما قال الفيلسوف اليوناني الشهير هروقليطس:" انك لا تنزل في النهر الواحد مرتين فهناك مياه تجرى من حولك ابدأ". هذا ما يذهب إليه الأشرف في قوله:" إن هذه النصوص التي جمعناها بين دفتي هذا الكتاب؛ قد تبدو متناقضة من حيث الاتجاه العام؛ ومن حيث الأفكار والنظريات؛ وهذا التناقض أوضح ما يكون بين النصوص الأولى والنصوص الأخيرة؛ بسبب المدة الزمنية التي تفصل بينها؛ وهي عشر سنوات؛ ولكن هذا التناقض ليس إلا من حيث الظاهر؛ أو ربما ناتج عن تطور الأمور, وعن النظرة الجديدة التي أصبحنا نتلمح بها الأحداث بعد استقلال الجزائر "(8). كما تمتاز كتابات بالجدل القوي والقدرة على مقارعة الحجة وهو ما يوضحه بقوله:" كل ما في الأمر أن حرصنا على دحض الحجج الباطلة؛ وكشف الحقائق الناصعة؛ وإعادة الحق إلى نصابه من الداخل؛ بعدما رأينا المؤرخين الفرنسيين يشوهونه من الخارج؛ أو يتنكرون له تماما9(" ). ولا يخفي الأشرف في كتاباته حرصه الشديد على الالتزام بما يكتب وفيما يكتب لأنه يعتقد انه يحمل لواء ورسالة تكمن في الدفاع عن الجزائر وتاريخها وقراءته بعين المناضل الملتزم, رغم انه يصرح أحيانا بأنه يلتزم الموضوعية. وفي أحيان كثيرة يصطدم هذا بذاك؛وفي هذا يقول :" أقول إن هذا الحرص ربما أضفي على هذه الدراسات طابع الالتزام"(10). أما عن الموضوعية في كتاباته فيقول:"أن هذا العمل التحليلي الذي ركزنا فيه على التاريخ السياسي للجزائر, كأمة وكمجتمع, هذا العمل لم يخضع في اعتقادنا لأي اعتبار, ماعدا الاعتبارات الموضوعية التي يتقيد بها كل باحث. ولئن كان حكمنا قاسيا أحيانا... ولم يكن قصدنا من إيراده سوى خدمة الحقيقة التي اتخذناها رائدا في الإدلاء بالشهادة النزيهة؛ وتسجيل الظاهرة الملحوظة النزيهة؛ واستخلاص العبرة من هذه الأحداث التي دخلت في سجل تاريخنا القومي"(11). من هنا يمكننا القول إن كتابات الأشرف كانت تعتمد رؤية واضحة المعالم؛ هدفها الأساسي إبراز الطابع المميز للجزائر كأمة ومجتمع مميزين عن الأمة والمجتمع الفرنسي وهو في هذا سلك منهجا ملتزما بما يكتب؛ محاولا فيه إتباع الموضوعية قدر بالإمكان؛ مع العمل على تحليل الأحداث وتوجيهها. ****** 3-الأمة ومقوماتها: تكاد القضية التي تشغل مصطفى الأشرف في كتابه الجزائر:أمة ومجتمع إبراز الطابع المميز للجزائر؛ كأمة تامة التكوين؛ وإذا كانت هذه الفكرة تندرج ضمن السياق العام الذي يدور فيه فكره؛ فانه يثير كثير من التساؤلات؛ أهمها يدور حول الكيفية التي تكونت بها الأمة الجزائرية في نظره؛والعناصر المكونة لها. فما يقصد الأشرف بذلك؟. يبدو أن مصطلح الأمة في الفكر السياسي ومدلولاته حديث, حيث لم يظهر بهذا المفهوم إلا بعد الوحدتين الألمانية والإيطالية؛ إلا أن المصطلح من الجانب الغوي قديم وهو ليس موضوع بحثنا في هذا الموضع. وقد عرف عبد المعز نصر في كتابه في النظريات والنظم السياسية الأمة بقوله:"ولقد تعدد تفسير مصطلح أمة واستعماله عند المفكرين السياسيين والاجتماعيين؛ ولكننا نأخذ بوجهة النظر التي أكدها رينان في مقاله عن ماهية الأمة من أن الصفة الروحية هي الصفة المميزة للأمة. فالآمة أساسا مجموعة من البشر يجمعهم وعي خاص وشعور بانتماء أعضائها بعضهم إلى بعض، وينمو بينهم كما يقول لا سكي إحساس بالقرابة يربطهم جميعا في وحدة متفردة لها طابعها الخاص و تراثها الاجتماعي الذي يميزها وتتميز به في مجال الخلق و البناء الحضاري. ومن ثم فإن انجلترا تستطيع فقط أن تنتج شكسبير ود كنز على حين أن هناك صفات في فولتير وأخرى في كانط تمثل القومية في فرنسا وفي ألمانيا."(12). أما الأشرف فينطلق من الموقف الذي يجعل من الجزائر أمة مميزة يجمع بين أفرادها رابطة روحية تكونت عبر كفاح هؤلاء الطويل جعلها تصمد في وجه الاحتلال الفرنسي وتنتصر عليه أخيرا حيث يقول:" ومهما تصورنا الكيان الجزائري؛ كأمة متمثلة في دولة؛ أو أمة متمثلة في شعب؛ أو مجرد وطن قومي موحد الكلمة, فان الجزائر قد توفر فيها عامل أساسي جعلها تصمد طيلة130سنة,أمام دولة إمبريالية قوية , وترغمها على الرجوع إلي الحق"(13). يستمد الأشرف كثير من مفاهيمه عن الأمة من الفكر الغربي الحديث المتأثر بالفكر الماركسي رغم أن الشيوعيين في الجزائر كانوا يرون مع موريس طواريز بان الجزائر لا تكون امة؛ إلا انه مع هذا يستند إلى مواقف اقرب إلى تصوره عندما يقول:" مما جعل بعض منظريها المتنورين؛ والمتأثرين بالفكر الماركسي, ينظرون إلي تاريخ الجزائر الحديثة نظرة لا تخلو من العنصر العاطفي؛ وخاصة فيما يتعلق بمفهوم الأمة و واقعها قبيل عام1830 وبعده... ولنا في التاريخ المعاصرة أمثلة عن حروب وطنية خاضتها بعض البلدان الكبرى التي اتخذت الثورة كمنطلق عقائدي"(14). كما يستعير تصور المفكر الفرنسي لوسيان فيبر الذي يبرز في كتاباته الكيفية التي نشأت بها الأمة الفرنسية ويرى أن هذا التصور ينطبق تماما عن تكوين على الجزائر بدقة حيث يقول في هذا السياق:" ولا يسعنا عندما نسمع لوسيان فيبر يشرح كيف نشأت فكرة الأمة في فرنسا في القرن الثامن عشر, لا يسعنا إلا أن نشاطره الرأي, ونقول بكل تواضع بأن هذا الأمر ينطبق على الجزائر بالذات"(15). وعن مقومات الأمة يستفيض الأشرف في الحديث؛ منتقدا تارة مبرزا دور كل مقوم من مقوماتها تارة أخرى؛ و ماهي هذه المقومات ومادو رها في تكوين الأمة عنده؟. في عام 1958 نظمت المجلة الفرنسية la Revue Française مسابقة للقصص التي تبدع في البيرو حيث شارك فارقاس ليوصا بقصّته "التّحدّي" el Desafio فنال بها الجائزة التي كان مقدارها زيارة قصيرة وخاطفة إلى فرنسا ؛ وهي الزّيارة التي مكّنته من الانتقال إلى إسبانيا وتسجيل موضوع للدكتوراه في الجامعة المركزية بمدريد وكان موضوعها " قواعد من أجل تأويل روبان داريو " Bases para una interpretacion de Ruben Dario فيذكر فارقاس ليوصا أنه تمكن من إنهاء أطروحته في نصف سنة ونجح بامتياز مع توصية لجنة المناقشة بطبع الأطروحة في مجلّة الجامعة . في السنة الموالية عاد إلى فرنسا ليشتغل في انتظار حصوله على منحة لكنها لم تصل أبدا . ومن بين الوظائف التي مارسها هناك محرر أخبار في دائرة الأخبار الإسبانية في وكالة فرانس براس France presse وكذلك مذيع ومنظم لبرامج يبث إلى أمريكا اللاتينية وفي الوقت ذاته كان منهمكا في تحضير روايته "مدينة الكلاب" la Ciudad de los perros والتي ستكون أول رواية ضخمة في مسار فارقاس ليوصا الإبداعي وتنال شهرة عالمية وتترجم إلى العديد من لغات العالم فنال بها عام 1962 جائزة " المكتبة الصغيرة " La Biblioteca Breve " بإجماع هيئة التحرير ضمن عدد من المشاركين بلغ مجموع نتاجهم المقدّم للجائزة 81 رواية ، وكانت هيئة التحكيم مشكّلة من خمسة روائيين كبار ونقّاد ، و قدّمت رواية فارقاس ليوصا بهذه المناسبة مخطوطة ثمّ نشرت على إثر الفوز في عام 1963 في دار النشر العالمية ببرشلونة " Sex Barral "، كما حصل على جائزة النّقد ، وكان على وشك الحصول على جائزة " Fermentor "حيث أُقصي بفارق صوت واحد نتيجة هجائه اللاذع والمذقع لهيئة إدارة معهد " ليونثيو برادو " Leoncio Prado " بحيث لمّا نشر عمله هذا بالبيرو أُحرقت منه ألف نسخة في ساحة المعهد المذكور. بعد هذا النّجاح الساحق انفصل الرّوائي عن زوجته وسافر لأوّل مرّة إلى كوبا " جزيرة الحرّية " ، كما كانت تسمّى آنذاك ، وذلك للمشاركة في هيئة التحكيم العليا لجائزة " بيت الأمريكيتين " Casa de las Americas " وذلك عام 1965 وفي السنة ذاتها استقرّ مدّة قصيرة بمدينة " ليما " وتزوّّج ثانية مع ابنة عمّه " باتريثيا ليوصا " وفي السنة الموالية سافر إلى الأرجنتين ليشارك في لجنة التحكيم لمسابقة " Sudamerica Primera Plana " ، بعدها سافر إلى باريس ، ثمّ قرّر الاستقرار بلندن ونشر في سنة 1966 ببرشلونة روايته الثانية " المنزل الأخضر " La Casa Verde " وبهذه الرواية تمكّن مرّة أخرى من حصد " جائزة النّقد الاسبانية " عام 1967 . وتعتبر هذه الرواية العمل القمّة في مسيرته الإبداعية بحيث كثيرا ما يُحال اسمه عليها كمؤلّف لرواية " المنزل الأخضر " ، كما نال على الرواية ذاتها " الجائزة الوطنية للرّواية بالبيرو " وفي ذات السنة نال جائزة " المعهد الوطني للفنون الجميلة " بفينزويلاّ تثمينا له كمبدع لأحسن رواية باللغة الاسبانية ، ويأتي مقدار هذه الجائزة المالي في المرتبة الثانية بعد جائزة نوبل وهو ما جعل الناقد لويس هارس " Luis Harss " يقول : " إنّ رواية " المنزل الأخضر " ورواية " Rayuela " للرّوائي كورطثار Cortazar " ورواية " El Gran Sertao Veredas " للروائي Guimarais Rosa " هي بمثابة الروايات الثلاث أو الأربع المتجذّرة في الأدب اللاّتينو- أمريكي . في السنة ذاتها من عام 1967 ينشر ببرشلونة روايته الجديدة " Los Cachorros " وهي الرواية التي جاءت بعد نيله لجائزة فينيزويلاّ والتي موقعته كأحد القمم السامقة في عالم الرواية والأدب ومن هناك عرفت شهرته انتشارا واسعا في أقطار العالم وهو ما جعله يشرع في جولة أدبية قادته إلى مختلف عواصم العالم سواء كمحاضر أو أستاذ زائر للجامعات أو المراكز الثقافية ، فزار خلال هذه الجولة كلّ من الولايات المتّحدة الأمريكية ، وبويرتورّيكو، وأوروبا ... وهو ما جعلنا نجده في عام 1969 أستاذا محاضرا في " King Colege de Londre" ويصدر في السنة ذاتها روايته " حوار في الكاتدرائية " Conversacion en la Catedral " وهي الرواية الأكثر عمقا وطول نفس وتعقيدا تجاوز عدد شخوصها 120 شخصية ؛ إنّها رواية غطّت أحداثا تمتدّ ما بين 1948 إلى 1956 التي هي مرحلة دكتاتورية الجنرال أودريا " Odria " قال عنها الناقد خوزي إيميليو باتشيكو " Jose Emilio Pacheco " : " إنّها العمل الأكثر تناهيا لفارقاس ليوصا ؛ فهي أحسن رواية سياسية كتبت في بلادنا " . إنّها الرواية الفارعة التي بلغ تعداد صفحاتها 1500 صفحة وشرع في إعدادها منذ 1966 إلى غاية 1969 . بعد هذا العمل الروائي الجبّار استقرّ فارقاس ليوصا ببرشلونة أين نشر عام 1970 دراسته النّقدية الجمالية الرّائعة والراّئدة حول الروائي الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز فجاء هذا العمل حاملا لعنوان " Garcia Marquez Historia de un Deicidio" وهي أطروحته للدكتوراه التي تناول خلالها بالدراسة التقنيات السردية التي تتميّز بها أعمال غارسيا ماركيز وفي الوقت ذاته أعماله الروائية الخاصّة ، ودون كلل أو تباطؤ أصدر عام 1973 روايته " Panteon de las Visitadoras " التي جاءت في حجم أقلّ من سابقتها لكنّها ظهرت بشكل مغاير بحيث تجلّى فيها الجهد التجديدي من حيث السرد الروائي والتقني ، فجاءت بمثابة حوار ثنائي تجاوز حدود الزمان والمكان واختفى من سطحها الروائي لأنّ مادّة الحكي فيها كانت بمثابة وثائق وقصاصات صحفية ومقاطع إذاعية وأشياء إدارية تتعلّق بالحياة العسكرية والمراسلات الخاصّة وقد ربط بين الكلّ خيط السرد الرّوائي الرّفيع المحكم مع نكهة هزلية حادّة الوقع على كلّ ما هو عسكريّ وديني محافظ ومتعصّب . قرّر الكاتب عام 1975 الاستقرار نهائيا ببلاده فأصدر دراسته الأدبية " La Orgia Perpetua: Flaubert y Madame Bovary " وفي دار النشر Sex Barral " ببرشلونة أصدر روايته " La Tia Julia y el Escribidor " وذلك عام 1977 ؛ وهي رواية من نوع السيرة الذّاتية رغم أنّ هذا النّوع من السّرد كان حاضرا في أعماله السابقة لأنّ الكاتب الذي ما فتئ يقول : " الواحد لا يستطيع أن يكتب بمعزل عن تجربته الذّاتية " . بعد هذا العمل الروائي نجده يصدر عام 1981 روايته الشهيرة " حرب نهاية العالم " La Guerra del fin del Mundo " التي رأى فيها ناقد الأوروغواي آنخيل رامو Angel Ramo " العمل الأكثر تناهيا ودقّة، وأحد الإضافات الرّائعة لعالم الرواية المعاصرة ، وكذلك الأكثر تألّقا وبريقا للرواية اللاّتينو- أمريكية " . في أحداث هذه الرواية تغيب مشاهد بلده البيرو وكذلك الحقبة التاريخية المعاصرة ليحلّ محلّها توغّل الكاتب في حقب أخرى ممعنة في تاريخ البرازيل أواخر القرن التاسع عشر لكن العالم الذي تعكسه هذه الرواية بإمكانه أن يقدّم ملامح سياسية واجتماعية كما لو تكون تحدث اليوم . فهذه الرواية متجذرة من حيث إبراز الخصوصية اللاتينو- أمريكية الممثّلة في التمزّق والآلام الدائمة فبقعة " كاكانودو " بإمكانها أن يستقرئ منها تاريخ أمريكا اللاتينية عبر زاوية مجهرية أين تتكرّر تلك المظاهر والممارسات الدّائمة كالتعصّب واللاّتسامح التي أفضت نتائجها الكارثية إلى حروب أهلية وقمع وتدمير ؛ إنّ رواية " حرب نهاية العالم " تعكس مسارا روائيا وتجربة سردية بلغت منتهاها لدى كاتب فيّاض وعاشق لجنس السرد ، وكذا مع قمّة إنسانية ذات ضمير نيّر ووقّاد تمكّن من خلالها من ترسّم خطوات الفنّ الجديد في كيفية ابتداع روايات كلاسيكية بالمعنى الصميمي للكلمة والمدلول ؛ أي كتابة روايات خالدة . في عام 1984 أصدر فارقاس ليوصا روايته " Historia de Mayta"هي رواية تعكس عودة الكاتب إلى الموضوع السياسي ، كما تعكس بحث الروائي عن مادّته الروائية وكذا البحث عن مخلّفات محاولات ثورية أجهضت والتي كان بطلها أليخاندرو مايتا " Alejandro Mayta " . إنّ مسار حياة هذا الثوري لا يمكن أن يكون بمعزل عن مسار الكاتب ؛ فالروائي حاضر من خلال تجاربه ولقاءاته وحواراته مع شخصيات كانت لها علاقات مع أبطال روايته ومن خلال دمج الجميع في بوتقة السرد يعرض الكاتب بعض ملامحه التأمّلية حول وضعية بلده البيرو، وكذا حول مسار الخلق الإبداعي والأدبي في قارة أمريكا اللاتينية . هذه الرواية تعكس طبوغرافية البيرو كبلد يعاني من التخلّف والتّهميش ، وهي في آخر المطاف تتشكّل أمام القارئ بمثابة يوميات كاتب متذمّر ومتأزّم نفسيا قبالة الرتابة والرّوتين التي تدار عليهما الحياة في بلد يجتاحه الإقصاء والتخلّف . وفي عام 1986 أصدر روايته " من قتل بالومينو موليرو " Quien mato a Palumino Molero " وهي رواية تدخل فيما يعرف بنوع " السيسبانس " حيث نجد شرطيين من البيرو يسعيان لاكتشاف من قتل بالومينو موليرو ، ولماذا ؟ فالجريمة وقعت عام 1954 لمّا كان البيرو يرزح تحت طائلة الحكم الاستبدادي للجنرال " أودريا " ومن خلال مسار الرّاوي نستشفّ أنّ من قام بعملية الاغتيال كانوا من بعض العناصر التي تلقّت الأوامر من القيادة العليا لهيئة الأركان الجوّية ، والذين كانوا يسعون جاهدين من أجل إخفاء الجريمة عن الرّأي العام الشعبي وتبرئة ساحة العقيد " مندراو "Mindreau" قائد القاعدة الجويّة ، فنجد الروائي يعمد بعبقريته السردية إلى مزج الواقع بالمتخيّل لتشكيل فضاء روائيّ غريب ومتأزّم ومكثّف وبعيد عن الواقع . من خلال هذا المزج يبرز لنا الكاتب عالما بشعا تهيمن على مجرياته قوى الشرّ المقيتة التي يمارسها النّظام السياسي الذي يتموقع خارج لعبة انتصار العدالة أو كشف الحقائق . في عام 1987 أصدر روايته " الثرثار " El Hablador "وهي رواية تدور أحداثها بالبيرو وبالتحديد في العاصمة " ليما " وكذلك بفلورنسا وبمنطقة " كوثكو " Cuzco "الأمازونية وسط قبيلة بدائية تعيش في الأدغال ، وهي قبيلة "Los Machiguengos " التي تنتظم في مجموعة بشرية لا تتوقّف عن الحركة اعتقادا منها أنّها بتوقّفها قد تسقط الشمس من عليائها ، ويعتقدون كذلك أنّ اليوم الذي يتوقّف فيه هذا الشعب عن الحركة سوف تتوقّف الشمس عن اللّمعان والإشراق وبالتّالي فالثرثار- الحكواتي - مهمّته تذكير قبيلة " لوس ماتشيقانقوس " بواجبهم الدائم وهو الحركة والمسير الدءوب ، وخلال هذا السير يظلّ الواقع محمّلا بالجديد من حكايات ونوادر وذكريات كلّها تصبّ في خانة تفسير مظاهر الكون الغريبة كأصل الشمس والقمر والآلهة والشياطين الملاعين ؛ إنّها قصّة يقول عنها الكاتب فارقاس ليوصا : " بمثابة شهادة ذاتية أو ما يشبه ذاكرة حميمية " وهذا رغم حديثه في معظم أجزاء الرواية بصيغة المتكلّم ، إنّه يقصّ جزءا كبيرا من سيرته الذاتية إلاّ أنّه يعمد أحيانا إلى إضافة المتخيّل الأسطوري ، وبالتالي نجد في أجواء هذه الرواية تتداخل حدود المتخيّل مع الواقعي والاستعانة بالمكوّنات الشيطانية للكثير من الطقوس. في عام 1988 نشر روايته " إطراء زوجة الأب " Elogio de la Madrdstra" هي رواية ممهورة بنكهة الإباحية المفرطة وحضور غريزة العري الجامحة ، وهي رواية من النّوع الذي احتوى فصولا من المشاهد الجنسية السافرة والتي تشكّل حيّزا من الأدب الحداثي اللاّتينو- أمريكي ، كما نجد الروائي ،لأوّل مرّة تقريبا ، يبتعد عن الموضوعات السياسية والاجتماعية التي تهيمن على معظم أعماله الروائية . لقد جاءت هذه الرواية معبّرة عن بعض مظاهر الحياة من خلال لوحات جنسية غاية في التوهّج والإثارة . في عام 1993 أصدر روايته "Lituma en los Andes " وهي رواية تناول فيها بامتياز ما يعرف بموضوع المسكوت عنه ؛ وهو موضوع القرابين البشرية التي تحفل بطقوسها ثقافة الهنود متوغّلا من خلالها إلى العالم الأسطوري لهذا الجنس البشري . أمّا في عام 1997 فيقدّم الروائي فارقاس ليوصا لأوّل مرّة في حياته على تغيير وكيل أعماله وهي دار النشر العالمية ببرشلونة " Sex Barral " بعد فسخ العقد معها بالتراضي وتتبنّى إصدار أعماله دار النّشر المشهورة " الفوّارة " بمدريد والتي أبرمت عقدا معه يخوّل إليها بموجبه إعادة نشر كلّ أعماله السابقة فتصدر له عام 1997 روايته الجديدة " دفاتر الدون ريقوبرتو " Los Cuadernos de Don Rigoberto " وهي بمثابة أيقونات للمرغوب فيه وإطراء حقيقي للجنس ، وإن شئت سيرة ذاتية للذّة . إنّها رواية رصد لها فارقاس ليوصا جملة من تفاصيل الرّسم الإباحي وروائع الأدب الجنسي في هذه الرواية كما يقول : " يتحدّث الجميع وفي كلّ بقعة من العالم ويعترف الروائي بأنّ في مسيرة هذا البطل تختفي العديد من نزواته الشخصية وشطحاته الوهمية . في عام 2000 أصدر روايته " حفلة التشيفو " وهي الرواية التي تعالج آخر أيّام الدكتاتور " تروخيو " الذي حكم الجمهورية الدومينيكية أزيد من ثلاثين سنة . لقد سخّر الروائي في هذا العمل كلّ قدراته الحرفية في فنّ السرد والحكي وبالرّغم من انطلاق مضمون الرواية من أحداث واقعية إلاّ أنّ قدرات الروائي الفائقة جعلته يغامر في مجاهل الأحداث إلى درجة تحويلها إلى ما يشبه الواقع السحري المتخيّل أين تتجلّى قدرة الإبداع على قهر الحقيقة المجرّدة والحادثة التاريخية المعلومة . في هذه الرواية يتداخل الجنس مع السياسة ويغلّف الإطار التاريخي الذي تغطيه الرواية من 1930 إلى 1961 بغلاف فنّي يجد فيه القارئ متعة السحر وعظمة الريشة المبدعة للمستحيل . إنّ جهود فارقاس ليوصا لا تتوقّف عند حدود الرواية بل كان له نصيب وافر من الإبداع المسرحي الذي يمثّل فيها حضورا يزيد عن عشرة أعمال درامية ، وإلى جانب هذا نجد قدراته الإبداعية تثري الساحة بدراسات جمالية ونقدية للفنّ والرواية والقصّة من مثل دراسته لغارسيا ماركيز ، ومقالاته حول "لغة الشهوة" و "رسالة إلى روائية ناشئة" و"الجنّة في الركن الآخر" و "الحوت في الماء " و " تحدّي الحرّيات" وأجزاؤه الثلاث"ضدّ الرّيح والأمواج" و "حقيقة الكذب" وغيرها من المؤلّفات في ميدان السيناريو السينيمائي والمقالات الصحفية والحوارات والمراسلات والمقدّمات التي أتحف بها بعض الأعمال الأدبية وغيرها ...وربّما آخر إنجازاته هو إقدامه على ترشيح نفسه كرئيس للبيرو في حدود عام 2000 ... 4- الدين: لا يخفي الأشرف في تصوره لتكوين الأمة الجزائرية الدور الذي لعبه الدين الإسلامي في ذلك, وفي الحفاظ علي كيان الأمة, كما لا ينكر أن الاحتلال الفرنسي في الجزائر كان صليبيا وتبشيريا أيضا؛ إلا أنه لا يرى انه العامل الوحيد للمحافظ على كيان الجزائر؛ أو الدافع لغزوها.وهو ما يفهم من قوله:" ما من شك أبدا أن العاطفة الدينية قامت في بداية الأمر بدور هام... غير أنها لم تكن هي وحدها التي دفعت الشعب إلى الكفاح(16). كما يؤكد أن الجزائريين في دفاعهم عن وطنهم لم يكن التعصب محركهم عندما أعلنوا الجهاد:"أما إعلان الجهاد وهو الأمر الذي يتذرع به البعض كلما أرادوا أن يطعنوا في الإسلام فلم يكن في الواقع ، ومن حيث المبدأ ، إلا حربا دفاعية . وما من أحد يستطيع أن ينكر بأن الحرب التي خاضها الأمير عبد القادر ، وكذلك الثورات التي اندلعت بقيادة الزعماء الجزائريين إلى غاية 1884 م ، ما قامت إلا من أجل تحرير التراب الوطني . وإذا كان بعض الزعماء قد أعلنوا الجهاد ، فما كان ذلك منهم إلا لكي يدفعوا الناس إلى خوض غمار حرب فرضها الأجنبي الدخيل . إن هذا النداء من أجل إنقاذ الأمة الإسلامية: " ليس إلا شعارا يضاهي الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية ، واعتبرته من أقدس مقدساتها ، ألا وهو الوطن في خطر "(17). أما عن التبشير المسيحي في الجزائر فيقول الأشرف:" وبعد أن تحدث بوجولا طويلا عن " رسالة فرنسا التبشيرية " مع المرشال بيجو الذي كان يصغي إليه بكل اهتمام ، أنهى كلامه قائلا : " إن الحرب التي تقوم بها في أفريقيا إنما هي حلقة من حلقات الحروب الصليبية " . ولقد حاول هذا المبشر المتحمس أن يبرر بمهارة ما تميزت به حملات إفريقيا من وحشية ،متذرعا بأن الله من أسمائه الحسنى أنه إله الجيوش وإله المعارك :" و أن المجتمعات لا تتقدم إلا بالدماء والدموع " غير أنه استدرك في صفحة أخرى من الكتاب مؤِكدا بأنه ليس ممن " يؤمن بالخرافات و الأباطيل " لأنه على يقين بأن" الهدف الذي نسعى لتحقيقه من حروبنا في افريقا لهو أسمى وأقدس من الهدف الذي نسعى لتحقيقه من حروبنا في أوروبا" ، وأن المسألة تتعلق " بقضية روحية هي قضية الحضارة، وقضية التعاليم المسيحية الخالدة التي الله لها النصر المؤزر في هذه الدنيا ، وقيض لها فرنسا لتكون لها سندا قويا ." (18). ****** 5- اللغة: آثار موقف الأشرف من اللغة الكثير من الجدل والنقاش ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن هذا الموقف كان نتيجة لعوامل تاريخية و سوسيولوجية وحتى ثقافية جعلت من صاحبه يعتبر اللغة الفرنسية أحد المقومات الأساسية للأمة الجزائريةالجديدة, نجد البعض الآخر يعتبر أن هذا كان نتيجة لاستلاب معرفي وغربة ثقافية لم يعان منها الأشرف فحسب و إنما شاركه في العديد من المثقفين باللغة الفرنسية. بحسب هذا الموقف دائما فان البعض من هؤلاء المثقفين عاد إلى لغته الأم وهي العربية بالخصوص وان لم يستطع الكتابة بها ؛ أو أنه كتب بها بعض أعماله المتأخرة كمالك بن نبي ومالك حداد، فان الأشرف أصر على موقفه هذا رغم ما فيه من تناقض عندما كان من الأوائل الذين حاربوا الاستعمار الفرنسي بكتاباته وبنضاله أيضا ومع هذا عمل على إبقاء هيمنته الثقافية بدعوته إلى المحافظة على اللغة الفرنسية بل وتقديمها على اللغة العربية من أستاذ الأدب العربي. الحقيقة أن هذا الموقف يبدوا في البداية مستغربا ومتناقضا بالنسبة لمناضل ومفكر مؤدلج؛ إلا أن المتمعن في تحليلات الأشرف وقراءته وحتى ثقافته لا يجده متناقضا مع نفسيته وطبيعته بل ويجده متجانسا ومتوافقا معهما سواء أتعلق ذلك في مجال الفكر أم في الممارسة السياسية؛ فهو يرى أن النخبة الجزائرية وجدت نفسها مضطرة لتعلم اللغة الفرنسية المفروضة عليها فرضا,خاصة وان العربية أصبحت محاصرة بل وممنوعة أحيانا. وفي هذا يقول الأشرف:" من الأسباب التي جعلت الاهالى يلازمون موقف الحذر من التعليم؛ رغم ندرته واقتصاره على الصفوة المختارة من أبناء الطبقة العليا...صمود الثقافة العربية نسبيا في بداية الاحتلال...اختطاف الشبان الصغار أبناء زعماء المقاومة المعروفين وإرسالهم إلى فرنسا للانخراط في المدارس الثانوية العسكرية...تعميد وتنصير الألوف من الأطفال الجزائريين اليتامى بالغصب والقوة"(19). كما يذهب إلي القول أن الجزائر احتفظت باللغة العربية المكتوبة وبلهجاتها الدارجة التي لا تعتبر حسب وجهة نظره مجرد لهجات،ودون شك فان الذين انتقدوا الأشرف ركزوا على موقفه هذا الذي يسوى بين اللغة العربية الجامعة للمجتمع الجزائري الذي يقر أنه أمة كاملة التكوين وبين لهجات محلية محدودة المكان ويقتصر استخدامها على جماعات صغيرة و في أماكن محددة. في الوقت الذي يجعل من اللغة الفرنسية تمثل مقوما أساسيا من مقومات المجتمع الجزائري؛ أصبحت اللغة العربية لا تعبر و لا تستخدم إلا في موضوعات متعلقة بالآخرة وتركت الاستخدامات الدنيوية للفرنسية. عندما استعادت الجزائر استقلالها اتخذ الأشرف موقفا حذرا من استخدام اللغة العربية وتعريب التعليم تارة باسم المنهجية وعدم التسرع وتارة أخرى نتيجة لتصورات اديولوجية وثقافية ، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن كتابات الأشرف جميعها كانت باللغة الفرنسية وهي لغة المستعمر الذي قاومه الأشرف من قبل، ويبدو انه هذا نتيجة لموقف مبدئي وليس معرفي لكون الأشرف يحسن اللغة العربية دون شك أوليس هو نفسه أستاذ الأدب العربي في العديد من الثانويات وحامل شهادة الليسانس في الأدب العربي. هكذا كان الأشرف وانتهى وفيا لأفكاره ؛مدافعا عنها ومخلصا لها ولأجلها خاض الكثير من المعارك الفكرية مع مفكرين جزائريين كبار كعبدالله شريط ومالك بن نبي وغيرهما. كما تصدى للنضال السياسي في الحزب الحاكم عندما كان وزيرا في السبعينيات من القرن الماضي بل والى أيامه الأخيرة عندما تولى عضوية المجلس الاستشاري بعد أن تعرضت البلاد إلى أخطار ومحن كبرى لا تزال أثارها إلى يومنا هذا. أ.د :موسى معيرش