ظهر الرئيس بن علي على شاشة التلفزيون ليعلن، وفي وقت وجيز، في خطابه الثالث الموجه إلى الشعب التونسي عن تغييرات سياسية جذرية طالما انتظرها التوانسة منذ مجيئ بن علي إلى الحكم على إثر انقلابه الأبيض ضد الحبيب بورفيبة·· لكن فيما يبدو أن هذا الوعد الجديد جاء متأخرا بعد الحصيلة الثقيلة للضحايا، وبعد تحرر الشارع التونسي من عقدة الخوف·· فالمظاهرات الجارية إلى حد كتابة هذه السطور أمام مبنى وزارة الداخلية والمطالبة برحيل زين العابدين بن علي تكشف عن منعطف نوعي في وجهة الأحداث، والمسألة هنا لا يمكن قراءتها كحدث داخلي متعلق بتونس، بل يتعدى ذلك إلى المنطقة المغاربية والعربية بشكل عام·· ففرصة الإصلاحات التي كان من شأنها أن توفر انتقالا سلميا سرعان ما كشفت عن حدودها عندما تم لي عنقها من قبل الأنظمة العربية بحيث عملت على توظيفها لصالحها على حساب مصلحة شعوبها، وهذا ما جعل السبيل مفتوحا في لحظة اليأس والقنوط أمام الثورة وكل ما يمكن أن ينجر عنها من عنف بدل الإصلاح الإقتصادي والسياسي السلمي·· فالسلط العربية اقتنعت بجبروتها الذي أوصلها إلى احتقار شعوبها وتكميم أفواه نخبها وشراء ذمم القوى السياسية التي أوكل لها لعب دور المعارضة المزيف إلى درجة ابتكارها وصفة جديدة، هي وصفة التوريث، وهذا ما هو حاصل في مصر، وليبيا وسوريا وأيضا أسال لعاب البعض في الجزائر·· لكن المفاجأة جاءت هذه المرة من تونس التي كانت تقدم كموديل للحكم القوي أمنيا واقتصاديا بعد أكثر من 20 سنة من حكم بن علي، وكانت هذه المفاجأة عبارة عن رسالة قوية تحمل في طياتها أن استمرار النظام العربي على ما هو عليه لم يعد ممكنا، وأن ساعة تغييره قد حانت، وكل تحايل على إحداث التغيير أو محاولة تطويقه وبالتالي العمل على تشويهه لم تعد تجدي·· ويبدو أن أول من تلقف الرسالة هي أمريكا التي عبّرت على لسان وزيرة خارجيتها، أن الأنظمة العربية مطالبة بإجراء إصلاحات عميقة، وهذا القلق الأمريكي يكشف عن ميلاد لحظة جديدة انطلقت شرارتها من تونس عندما أشعل محمد بوعزيزي، 26 سنة، أمام مبنى محافظة سيدي بوزيد النار في جسده، لم يعد الآن أمام الأنظمة العربية التحجج أمام الغرب بتضييقها على الحريات باسم مكافحة الأصولية والإرهاب، فهذا قوس الذي استعمل لإذلال الشعوب وتحقير النخب، فَقَدَ مشروعيته وسقط بشكل عنيف وعارٍ في أحداث تونس، ولم يعد من خيار أمام الحكام العرب إلا الاستجابة لمطلب الشعوب بالتغيير قبل فوات الأوان···