أغلب ظني أن ما يجري في الجزائر منذ 5 أكتوبر 1988 يمكن أن يكون جرعة من مصل يزيد الشعب الجزائري إصرارا على رفض كل أنواع حكم الفرد ويضاعف من حصانته للتمسك بأن يحكم حكما ديمقراطيا تكون السيادة فيه للشعب، وتكون حرية الإدارة والفكر والتعبير حقا مقدسا لكل مواطن، لا يتعدى عليها أحد ولا يصادرها أحد. وفي ظني كمواطن جزائري قدم للجزائر وقدم للشعب الجزائري وقدم للمواطن الجزائري الكثير، أن أي شعب مهما كان حظه من التقدم والنضج يمكن أن يتعرّض في مرحلة من مراحل تاريخه لتجربة أو تجارب تُسلب فيها الحرية باسم الحرية وتغيب فيها الديمقراطية باسم الديمقراطية، وتكبت فيها إرادة الشعب باسم إرادة الشعب، حدث هذا في كثير من البلدان منها فرنسا البلد المستعمر فترة قصيرة بعد ثورتها الشعبية ثم بعد ذلك استعاد الشعب الفرنسي وعيه واستخلص إرادته، ولم تعد تلك السنين أكثر من ذكريات سوداء في تاريخ الشعب الفرنسي ومجرد جرعة من المصل تعصمه من أي انزلاق آخر. وحدث هذا أيضا في بلد كألمانيا مع ما يتمتع به شعبها من حضارة وتقدم أيام هتلر، ثم أفاق الشعب الألماني بعد الكارثة وخرج يبني بلده من جديد في ظل ديمقراطية حقيقية جعلت منه، خلال عدة سنوات، إحدى القوى الاقتصادية والصناعية الكبرى في العالم. ومثل فرنسا وألمانيا بلدان كثيرة أوربية وعربية، إلا أن الشعوب الأوروبية قد أفاقت بعد الكوارث التي أصابتها. أما البلدان العربية، فلا زالت تئن تحت هذه الكوارث، وفي ظني أن الجزائر وربما على ثقة بأنها ستكون السبّاقة إلى هذه الاستفاقة، وستكون مثالا للبلدان العربية والإفريقية كما كانت السبّاقة إلى إعطاء القدوة في التحرر والاستقلال، والأيام القادمة ستكشف عن هذا، لهذا أقول وأنا على ثقة وليس مجرد تمني، إن تحربة الشعب الجزائري التي بدأت في أكتوبر 1988 تصلح لأن تكون هذه الجرعة من المصل، تقود الشعب إلى أمله في غد مشرق بدلا من أن تجره إلى هاوية اليأس أو خطيئة اللامبالاة، مع أنني أعلم أن الكثير من أبناء هذا الشعب تحت ضغط الحملات الإعلامية المكثفة والموجة الوطنية والأجنبية قد أوشكوا أن يفقدوا الأمل في جدوى الإصلاح بالنظام الديمقراطي، وراح البعض من هؤلاء يمد بصره إلى الماضي السحيق أو الغرب البعيد باحثا عن وصفهة تحقق آمال الشعب الجزائري وتوقف تيار التدهور والإنحطاط الذي ينحدر إليه يوما بعد يوم. لكنني مازلت على ثقة بأن الأمر لا يحتاج إلى بعث تجارب الماضي والتعلق بأفكار لا تصلح أكثر من مادة للجدل النظري، فإذا وضعت التطبيق الفعلي والتنفيذ العملي تهاوت وفشلت أمام واقع الحياة وواقع التطور. ثم إن الأمر في رأيي لا يحتاج لأكثر من شيء من المنطق يقود أبناء الجزائر إلى مناقشة حرة وواعية وتحليل عقلاني يصل بهم في النهاية إلى وضع أساسي متين وواقعي يقوم عليه بناء ثابت ومستقر بعد أن غاب المنطق أكثر من أربعة عقود من الزمن، وغابت معه الحقيقة شريطة أن تتحرر من خطأ الدعوة أو الدعاوي الزائفة التي تروّج من طرف الكثير من أنصاف المثقفين بأن المستوى الثقافي والحضاري للشعب الجزائري لا يسمح له بتطبيق النظام الديمقراطي الكامل بأن يطبقه دفعة واحدة، إنما لا بد أن يكون هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المنفذون مسؤولون لدى المشرعين وهؤلاء مسؤولون لدى الشعب على أن يعرف الشعب الجزائري بأنه صاحب الشأن كله ويعرف أن يراقب وأن يتقاضى الحساب. هذا مع التأكيد بأن الحرية السياسية هي الشرط الأول لبناء الشخصية السوية القادرة على النهوض من الكبوة الحضارية التي يحييها الشعب الجزائري في الوقت الراهن، وهذا معناه أن الحرية السياسية هي الضمان الجوهري للخروج من محنتيّ التخلف والتبعية، وهي أساس العودة إلى الذات، كما أن عملية التطور والتقدم لا يمكن تحقيقها في غياب احترام حقوق الإنسان الجزائري، وذلك أن الإنسان الجزائري هو قطب الرحى الذي تدور حوله كل الأهداف وتحقق من أجله كل المنجزات، وتعد في سبيله كل الخطط والبرامج والمناهج، يعني في سبيل تكوينه وتنشئته وإعداده، فمختلف الخطط والبرامج والمناهج هي الحقيقة التي يجب أن يعلمها ويتعلمها كل مسؤول في بلادنا. وأن يؤديها كل جزائري ويعمل في ضوئها، من جهة. ومن جهة ثانية، لا ننسى بأن الإنسان الجزائري هو أداة التنمية وصانعها، وهو إلى جانب ذلك هدفها وغايتها، وبقدر ما تتمكن التنمية بمختلف أساليبها وفروعها ووسائلها من توفير الحياة الكريمة للفرد والمجتمع، بقدر ما تكون تنمية ناجحة جديرة بأن يسعد القائمون عليها ويفتخرون بنتائجها الجيدة، ويعتزوا بآثارها الطيبة، ذلك ما يجب أن نؤمن به ونسعى إلى تحقيقه دائما، على أن تكون بداية الانطلاق في السير بخطى واثقة قادرة على طي المسافات وقطع المراجل والانتقال من نصر إلى آخر، ومن إنجاز إلى إنجاز آخر، تحقيقا لآمال أبناء الجزائر وضرب الأمثلة في محيط الجزائر بالمواقف الشجاعة والسياسة الناجعة والممارسة الواعية على كافة المستويات، وبفضل توفير الإرادة الصلبة والفكر المستنير من أجل نهضة جزائرية حديثة عبر تضافر الجهود بين الجزائريين المخلصين بجهود تتخللها في الواقع تضحيات كبيرة ومعاناة شاقة لتجاوز مرحلة البداية بكل تحدياتها ومشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية، وهكذا فخلال سنوات معدودة تستطيع الجزائر -إن شاء الله- أن تتخطى أسوار العزلة وفجوات التخلف وعقبات الصراع والتنافس الدولي في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية، وتتمكن من عرينها على مدخل القارة الإفريقية أن تشكل عناصر قوة لدولة عصرية فاعلة تنهض على سواعد أبنائها ويشعر فيها المواطن الجزائري بدوره وإسهامه في البناء الوطني من ناحية، وبثقة في يومه وغده ومستقبل أبنائه من ناحية ثانية، فضلا عن استعادة مكانة الجزائر في المحافل الدولية وبين الأمم والشعوب، وهذا ما يجب ويوجب علينا الارتكاز على رؤية استراتيجية متكاملة تنصهر فيها عناصر القوة الكامنة في الشخصية الجزائرية مع عوامل القوة بالغة الأهمية في التاريخ والحضارة والتراث الجزائري. وفي هذا الإطار، تتفاعل الجهود وتلتقي الأيدي في وحدة وطنية قوية وصلبة يشد عودها ويشيد بنيانها رجال مخلصين، وهنا ستتجلى عبقرية أبناء الجزائر المخلصين في المساهمة والمشاركة والعطاء والإبداع وتحمّل المسؤولية الوطنية، وإرساء قواعد المشاركة الوطنية المستمرة والواسعة النطاق في مسؤولية البناء، حيث تصبح الدولة والشعب كالجسد الواحد إذا اختل منه عضو اختل الجسد كله، لذا يجب أن نهدف إلى أن تكون خطتنا في الداخل بناء بلدنا، ونوفر لجميع أهله الحياة المرفهة والعيش الكريم، وهذه غاية لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة كل أبناء الجزائر في تحمّل أعباء المسؤولية ومهمة البناء مع فتح الأبواب للمواطنين في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وسوف نعمل جادين على تثبيت حكم ديمقراطي عادل في بلادنا في إطار واقعنا الجزائر وحسب تعاليم ثوابتنا التي تنير لنا السبيل دائما، فعبر هذه الرؤية الاستراتيجية المبكرة تتكرس وتستمر وتتسع عملية المشاركة والدور الذي يلعبه المواطنون في عملية البناء والتنمية وتوجيهها وتحقيقا لمزيد من فعالية هذه المشاركة، وزيادة آثارها يجب أن يحظى المواطن الجزائري برعاية واسعة النطاق تعليميا وثقافيا واجتماعيا وفي مختلف المجالات، كذلك ليكون قادرا على القيام بدوره كشريك في عملية البناء الوطني. وهكذا يجب أن تمضي كل خطوات العمل جنبا إلى جنب في جهود متوازنة ومنتظمة ومجالات التنمية المختلفة لتحقيق المزيد من البناء والتطوير ولتعزيز نعمة الأمن والأمان لهذا الشعب الأبي الذي يعتز بماضيه العريق ويتباهى بحاضره المشرق ويخطو بثقة وتفاؤل نحو مستقبله الواعد المضيء في ظل الرعاية الكريمة والعناية السامية، لأن هدفنا الأول والأخير اليوم هو أن نبني بلدنا ونوفر لجميع أهله الحياة المرفهة والعيش الكريم ، وهذه غاية لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة أبناء الجزائر في تحمّل أعباء المسؤولية ومهمة البناء. وفي الأخير، يمكن أن أقول إن بناء بلدنا في حاجة إلى عمل أكبر وجهد أكبر وتفانٍ في خدمة الوطن أشد وأظهر، فالجزائر في حاجة إلى المزيد من البذل والعطاء والتضحية والعمل الجاد المثمر البنّاء من قبل الشباب المتشوق إلى آفاق المجد، وهو مدعو اليوم أن يتخذ من أجداده الميامين قدوة طيبة في الجد والعمل والصبر والمثابرة، كما أنه مطالب بأن يسهم بقدر طاقته في إيجاد البيئة الملائمة والنزيهة الصالحة للانطلاق نحو المستقبل الواعد الذي نتطلع إليه.