التقلبات الجوية عبر ولايات الوطن..تقديم يد المساعدة لأزيد من 200 شخص وإخراج 70 مركبة عالقة    وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية يشدد على نوعية الخدمات المقدمة وتعزيز استعمال الدفع الإلكتروني    حريصون على احترافية الصحافة الوطنية    حزب العمال يسجل العديد من النقاط الايجابية في مشروعي قانوني البلدية والولاية    الرئيس يستقبل ثلاثة سفراء جدد    قافلة تكوينية جنوبية    تراجع صادرات الجزائر من الغاز المسال    فرنسا تتخبط    الجزائر تطالب بإعادة إعمار غزّة    هل يُعاد إعمار غزّة؟    المولودية على بُعد نقطة من ربع النهائي    مرموش في السيتي    نعمل على تعزيز العلاقات مع الجزائر    أمطار وثلوج في 26 ولاية    إحياء الذكرى ال70 لاستشهاد البطل ديدوش مراد    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    بسكرة : تعاونية "أوسكار" الثقافية تحيي الذكرى ال 21 لوفاة الموسيقار الراحل معطي بشير    كرة القدم: اختتام ورشة "الكاف" حول الحوكمة بالجزائر (فاف)    كرة القدم/ رابطة أبطال افريقيا /المجموعة 1- الجولة 6/ : مولودية الجزائر تتعادل مع يونغ أفريكانز(0-0) و تتأهل للدور ربع النهائي    ري: نسبة امتلاء السدود تقارب ال 35 بالمائة على المستوى الوطني و هي مرشحة للارتفاع    تطهير المياه المستعملة: تصفية قرابة 600 مليون متر مكعب من المياه سنويا    حوادث المرور: وفاة 13 شخصا وإصابة 290 آخرين خلال ال48 ساعة الأخيرة    خدمات الحالة المدنية لوازرة الخارجية كل يوم سبت تهدف إلى تخفيف الضغط وتحسين الخدمة الموجهة للمواطن    مجلس الأمن الدولي : الدبلوماسية الجزائرية تنجح في حماية الأصول الليبية المجمدة    الذكرى ال70 لاستشهاد ديدوش مراد: ندوة تاريخية تستذكر مسار البطل الرمز    تجارة : وضع برنامج استباقي لتجنب أي تذبذب في الأسواق    الجزائرتدين الهجمات المتعمدة لقوات الاحتلال الصهيوني على قوة اليونيفيل    كأس الكونفدرالية: شباب قسنطينة و اتحاد الجزائر من اجل إنهاء مرحلة المجموعات في الصدارة    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 46899 شهيدا و110725 جريحا    تقلبات جوية : الأمن الوطني يدعو مستعملي الطريق إلى توخي الحيطة والحذر    منظمة حقوقية صحراوية تستنكر بأشد العبارات اعتقال وتعذيب نشطاء حقوقيين صحراويين في مدينة الداخلة المحتلة    اتحاد الصحفيين العرب انزلق في "الدعاية المضلّلة"    الأونروا: 4 آلاف شاحنة مساعدات جاهزة لدخول غزة    دخول مركب "كتامة أغريفود" مرحلة الإنتاج قريبا    وزير الاتصال يعزّي في وفاة محمد حاج حمو    اقرار تدابير جبائية للصناعة السينماتوغرافية في الجزائر    التنفيذ الشامل لاتفاق السلام لتحقيق المصالحة الوطنية في جنوب السودان    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    الجزائر تستضيف طبعة 2027 من المنافسة القارية    بشعار "لا استسلام للخضر" في مباراة الحظ الأخير    مسابقة لاختيار أحسن لباس تقليدي    تعيين حكم موزمبيقي لإدارة اللقاء    قتيل وستة جرحى في حادثي مرور خلال يومين    توقيف 3 أشخاص بحوزتهم 692 قرص مهلوس    بلعريبي… وزارة السكن تطلق حملة لمكافحة التغييرات العشوائية في السكنات    وزير العدل يشرف على تخرج الدفعة ال27 من الطلبة القضاة في القليعة    بلمهدي يزور المجاهدين وأرامل وأبناء الشهداء بالبقاع المقدّسة    جائزة لجنة التحكيم ل''فرانز فانون" زحزاح    فكر وفنون وعرفان بمن سبقوا، وحضور قارٌّ لغزة    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    بلمهدي يوقع على اتفاقية الحج    تسليط الضوء على عمق التراث الجزائري وثراء مكوناته    وزير الثقافة يُعاينُ ترميم القصور التاريخية    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    الأوزاعي.. فقيه أهل الشام    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأفلان بين ديمقراطية المعمول والمأمول
نشر في صوت الأحرار يوم 20 - 10 - 2009

الدولة الديمقراطية الاجتماعية كما جاء قي إحدى فقرات نداء ثورة نوفمبر 1954، أو ديمقراطية الجمهورية الجزائرية كوحدة لا تتجزأ كما نصت على ذلك المادة الأولى من الدستور،فالديمقراطية مبدأ من المبادئ الإنسانية التي استقر عليها الإنسان منذ زمن بعيد .
ولفضيلة الديمقراطية كقيمة إنسانية لا ترتبط بحدود أو عهود، سجل حافل في قاموس حزب جبهة التحرير الوطني قبل التعددية وبعدها... ، ومع ذلك كادت بداية مرحلة التسعينات الأليمة من القرن الماضي، أوما يطلق عليه عشرية الدّم والدموع، في القاموس السياسي الجزائري، أن تسلب فيها الحرية باسم الحرية، وتغيب فيها الديمقراطية باسم الديمقراطية، وتكبت فيها إرادة الشعب باسم إرادة الشعب، فكادت "..المقصلة.."أن تقام في كل ساحة من ساحات مدننا لمحاكمة الوطنيين، والثوار، وأبناء الأسرة الثورية، وأصحاب الرأي.. ولولا لطف من الله تبارك وتعالى لوقع بهذه الشعب الطيب والثورة المجيدة المباركة ما لم يخطر على بال البشر...
واليوم وقد استعاد الشعب الجزائري بعض وعيه، واستخلص الدرس، فلم يعد عهد الإرهاب الذي فرض نفسه ذات يوم أكثر من ذكريات سوداء في تاريخ الشعب والدولة الجزائرية.. ومن باب الاستفادة من تجارب الماضي المّرة فلتكن مجرد جرعة من "المصل" كما يقال، قد تضاعف من حصانة المجتمع وتعصمه من أن يسلم قدره لأي طاغية تحت أي شعار.. والفضل كل الفضل في هذا المقام يعود إلى الجيش الوطني الشعبي، وقوى الأمن باختلاف أسلاكها، والى السياسة الرشيدة التي انتهجها السيد رئيس الجمهورية منذ توليه سدة الحكم في معالجة ملف ما كان يشبه الحرب الأهلية، وذلك بتجفيف ينابيع الإرهاب وإفرازاته، عن طريق الوئام الوطني، وميثاق السلم والمصالحة الوطنية، بقرارات شفافة وديمقراطية أرجعت القرار السيد فيها إلى الشعب الجزائري.
لقد كافح الشعب الجزائري منذ أن عرفت بلاده حملات الاستيطان والغزو والإذلال، فضحى بأعزّ أبنائه وبناته قربانا لمذبح الحرية والكرامة ليعيش حرا طليقا... انه شعب أراد الحياة يوما، فاستجاب له القدر..
إن الدولة الديمقراطية الشعبية ذلك الحلم الذي تحوّل إلى حقيقة بفضل ثورة نوفمبر الخالدة والتاسع عشر من شهر مارس تاريخ النصر" تاريخ وقف إطلاق النار" والخامس من شهر جوليت ألف وتسعمائة واثنان وستين، عيد الاستقلال والحرية.. تواريخ دخلت التاريخ من بابه الواسع، ومدوّنة بدماء الشهداء، ومصانة بقوة وعزم الوطنيين الأوفياء، والشرفاء والمخلصين من أبناء وبنات هذا الوطن.
فالديمقراطية ليست شعارا غريبا على الشعب الجزائري،أو غوغائية مبيتة عن قصد، أو تجربة مستوردة كما تستورد السلع أو بعض النصوص القانونية للتنظيم الإداري و الإقتصادي أو السياسي أو حتى التنظيمي لبعض الأحزاب، كما يشمّ من وضعية بعض الأحزاب والتنظيمات الاجتماعية، فالديمقراطية قيمّ إنسانية قائمة على مبادئ وفلسفات تقاربت مرة واختلفت مرات منذ عصر التاريخ .
إن العنوان المقترح للحلقة الثامنة في إطار مناقشة الثوابت والمرجعيات في عهد التعددية بمناسبة تحضير أشغال المؤتمر التاسع، قد تثير في ذهن القارئ أول وهلة من أن ثمّ تساؤلا غير مباشر مطروح ويحتاج إلى إجابة شافية وكافية، وبعبارة أخرى يوجد حزب جبهة التحرير أمام وضعين اثنين:
وضع آني للديمقراطية منظور ومعاش كواقع بايجابياته وسلبياته ، الكل فيه يزعم لنفسه فضيلة الديمقراطية الحقيقية مترجمة في تنظيمه الهيكلي والسياسي كخطوة أولى، والعمل على نقلها إلى المجتمع في خطوته الثانية ليتمتع بمزاياها وجني ثمارها متى أمكن له الفوز في الاستحقاقات التشريعية والمحلية، أي متى انتقلت إليه سدّة الحكم وتسيير الشأن العام..
الوضع الثاني، يتمثل في نظرة مستقبلية تحلم بإمكانية تحسين الوضع الديمقراطي في البلاد، والانتقال نحو الأفضل لما هو عليه الحال، وبعبارة أخرى يمكن معالجة ديمقراطيتنا المريضة، وان التعافي والشفاء ممكن جدا، وذلك بتثمين التجربة في الجزائر منذ الاستقلال ، وتكييفها مع مقتضيات الظروف فيما لا يخالف الجوهر والأصول...وبتدعيم وسائل رفع الوعي من تسخير فرص التربية والتكوين، وسيادة القانون، وترشيد دور الإعلام، وبنشر وسائل التثقيف بصفة عامة، وحينها يمكن تحصين الفكر الاجتماعي من كل الإنزلاقات والفهم الخاطئ للواقع والذي تولدت وتتولد عنه كل الأزمات والمحن التي تعرض الدولة برمتها إلى الخطر، وبتلك التدابير فقط يمكن أن تقطع الطريق على مقتنصي الفرص والأزمات للمتاجرة والتستر بالديمقراطية لتحقيق المآرب الخاصة النفعية، والتضحية بالمصلحة العامة للمجتمع برمته ، ونظرا لحساسية الموضوع من جهة وباعتباره مبدأ من المبادئ الدستورية التي على ضوئها ينظم المجتمع ويتطور ويتفاعل ويقع الاحترام والالتزام الدستوري، وبالنظر للتجربة المتميزة التي عاشها حزب جبهة التحرير الوطني قبل التعددية وبعدها، فاني استسمج السادة القراء من تخصيص عدة محطات للحلقة الثامنة بنفس العنوان، آملا إجلاء بعض الحقائق النافعة لمسيرة مجتمعنا، والتخلص من ثقافة المنبهرين بالشكليات، والتقاليد التي لا تتفق مع معطيات الواقع الاجتماعي بمكوناته وتداخلاته وتفاعلاته، والتي تعمل مجتمعة مؤثرة ومتأثرة في مسيرة واحدة، وصيرورة تاريخية واحدة، والتي لا تعتبر من صميم المفهوم الديمقراطي الصحيح الذي ستتضح معالمه تدريجيا مع محطات هذه الحلقة..
وقد أجد نفسي ميالا للاستطراد بعض الشيء، ذلك بعدما رصد الاعتبارات والمبررات لما ألزم نفسي التدرج معه بما يقتضيه المنطق .
أستهل في البداية عرض مقولة تعجبني كثيرا للفيلسوف الإنجليزي"..هابير ماس.." وهو من الذين يشددون على إن الحقوق الخاصة، المتمثلة في دائرة الاستقلال التي يتطور في قلبها الفرد بدون اكراهات..".لم تهبط من السماء بل ترتبط بنشاط إنساني أكثر جذرية أو تجذرا، انه النشاط الديمقراطي..."، وبعدها ستكون لموضوع الديمقراطية بين اليمين واليسار بصفة عامة محطة خاصة مما سيعطيها بلا شك توضيحا أكثر، وقد وفق في تبسيط معانيها الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في احدي كتاباته الموسومة تحت عنوان: دراسات في المذاهب السياسية، والتي يبحث فيها مكانة الديمقراطية بين هذا الاتجاه وذاك، والتي تذكرنا قياسا بما طرحناه في السابق بان العدالة الاجتماعية هي أيضا غاية يتجاذبها مذهبان، الليبرالي الذي يعتقد بأن ميكانيزماته أجدر بتحقيقها، وعلى النقيض من ذلك ينازعه المذهب الاشتراكي ويرى في نفسه بأنه الأصلح وان منهجه اسلم واضمن لتحقيق النتيجة، والمنازلة تبقى سجالا بين الاتجاهين أو المذهبين ولو من الناحية النظرية وان ما حصل للمعسكر الاشتراكي والماركسي من خيبة أمل مدّبرة اكتشف سرها بانتهاء الحرب الباردة كثمن لصفقة مشبوهة، قد تظهر معالمها مع مرّ السنين..
وإجمالا فالنموذج الاشتراكي كتجربة لا يعني مطلقا الحكم عليه بعدم الصلاحية والفساد، وكم من هزات وعواصف تعرض لها المذهب الليبرالي، إلا أن الظروف قد ساعدت على إدخال الإصلاحات والتعديلات المناسبة، وهو ما لم يتيسر إلى منظري الفكر الاشتراكي، ولأوضاع معروفة، إذ لأول هزة تداعت كثير من الأفكار وبقي بعضها مطبقا في دول تعد على الأصابع.. ومجمل القول إن كلا من النظام الاشتراكي، والنظام الليبرالي قد نشأ من أجل الإنسان، وليس الإنسان هو الذي خلق من اجل تجارب هذا وذاك، فا لإنسان كما يقال معادلة صعبة جدّا، ولو كان لها إن تحلّ يوما ما، لكان التاريخ في امتداده الطويل قد وصل وبتجاربه اللامتناهية إلى هذا الحلّ، أو إلى ماهو قريب منه في عموميات الحل، لا في جزئياته كما هو الشأن بالنسبة لموضوع الديمقراطية، التي ركب موجتها بعض الوافدين على الفكر السياسي ، والطامعين في السطو على كرسي الحكم ودواليب الدولة، بمخاتلة المواطن البسيط ، مستغلين عملية الانتقال الفوضوية إلى التعددية السياسية والحزبية ،وحرية الإعلام واقتصاد السوق الخ... فدغدغوا العواطف ووزّعوا الأحلام ويناصيب الربح وحلول كل المشاكل باسم الديمقراطية.. وبدون إدراك أو وعي أساءوا إلى مفهومها الإنساني وأخرجوها من مجالها، وافرغوا محتواها، ونسوا أن كل الحلول تستمد قيمتها من قيمة الإنسان وينبغي لها أن تكون على صورته،لا أن يكون هو على صورتها، إلا عندنا فراحت هذه الأحزاب الناشئة تحاول تطويع الإنسان وترويضه بما لا يجب وتبهره بسحر الحلول في روافد وجزئيات لنظم اقتصادية واجتماعية عالمية، مستمدين بعض العون من جمعيات وتنظيمات دولية مهيكلة ومعدة ومدعمة لتنفيذ سياسات وتوجيهات دول استعمارية بصيغة متستّرة مغايرة لأساليب التدخل المباشرة الكلاسيكية ،أو بالتدخل الرسمي في شؤون الدول المستقلة التي دحرت الاستعمار ذات يوم في منتصف القرن العشرين، فكانت الفرصة مواتية لها لتشفي غليلها من ثورية هذه الدول، واستقلالية قراراتها، واعتمادها على نفسها في رفع تحديات الأوضاع الكارثية التي تركها الاستعمار قبل خروجه من دون عودة...من فقر، وأمية، ومجاعة ، وتخلف الخ.. فكان أن شوهت سمعتها في المحافل الدولية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأغلب كل باقي التسميات والنشاطات الأخرى لجمعيات و تنظيمات دولية بلا حدود.. والبقية معروفة.
إن الإنسانية كيان موحد لا تنقص ولا تزيد فيه اختلاف ألوان البشرات أو تباين القارات وبعد المسافات ، ولا اختلاف اللهجات والمعتقدات ، فالجزائري جزء لا يتجزأ من هذا الكيان في آماله وآلامه، والإنسان منذ إن وجد حكم بنظام يقول له دوما: إنه ينزل الجنة إلى الأرض ويمتعه بخيراتها إمتاعا كاملا. فما اعتقد أن تجاربه في هذا السبيل قد نجحت حقا،وما يزال أمامه شوط بعيد حتى يحقق لنفسه هذه السعادة، وذلك منذ عهد المدينة الفاضلة أو دولة المدينة إلى يومنا هذا، وإذا ما فتحت قوسا بالنسبة لما آلت إليه الجزائر بعد التعددية، وكأني بالتاريخ الإنساني يعيد نفسه مختصرا المراحل وفي فترة وجيزة كانت ارض وطننا مسرحا لها..، إذ شنت هجمة شرسة على كل المكتسبات التي تحققت للشعب الجزائري منذ تمتعه بنعمة الاستقلال والتي كانت تمثل بلا منازع عزته وكرامته وثمن وفاء التضحيات الجسام لأرواح الشهداء الكرام، فسوّدت أبواق الدعاية المغرضة ، والناقمين على استقلال الجزائر واختياراتها ، كل ما تحقق من انجازات ونمو ورخاء وأمن، واعدين الشعب بالفردوس الذي حرموا منه حسب زعمهم منذ الاستقلال، رغم أن واقع البلاد اقتصاديا واجتماعيا كان أحسن بكثير من واقع بعض المجتمعات والدول العربية، بل وكثيرا من بلدان العالم الثالث خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وقد زاد من جسامة المأساة توظيف الخطاب الديني توظيفا سيساويا، ونتائجه السلبية ما زالت شاهدا على حجم الفتنة الكبرى، والتي أكملت حلقتها بعض الحزيبات القارضة والقائمة على نعرات جهوية،وثقافية، وسلوكات تحريضية واستفزازية غير بعيدة في تطرفها وأطروحاتها عن الفكر التروتسكي الذي لم يكتب له النجاح حتى في مناخه،وفي عزة أوج الإتحاد السوفيتي سابقا في منتصف القرن الماضي.
إن قراءاتهم السياسية الخاطئة لمفهوم الديمقراطية، في اعتقادهم أنهم سوف يطورونها ويعملون على نشرها ويعلون من شأنها أكثر و سوف تنضج بسرعة ، فكانت تصوراتهم الخاطئة لها أن ذلك لا يتم إلا عن طريق إضعاف سلطة الدولة، وتفقيرها وزرع الفتن والقلاقل، هذا ما يفسر لاحقا جرائم حرق، وتحطيم المؤسسات،والبني القاعدية بصفة عامة،ونسوا أو تناسوا أن الديمقراطية لا وجود لها إلا بوجود سلطة قوية تحفظ النظام وتعمل على تطبيق القانون،وفي نفس الاتجاه وبواسطة الكلمة المكتوبة والمسموعة وتحت غطاء الحق في الإعلام وحرية التعبير، انتهجت بعض الصحف نهج التحطيم عن طريق نشر الضبابية الإعلامية، والترويج للقلاقل ونشر ثقافة اليأس جهارا نهارا بلا ندم أو تأنيب ضمير، يضاف إلى ذالك التعابير الكاريكاتورية الساخرة والهازلة ، بقصد النيل من هيبة الدولة ومركزها كأعلى تنظيم اجتماعي...هذا الانزلاق العجيب والبعض منه مازال مع الأسف مستمرا، يخالف تماما أبرز الأفكار التي تبنى عليها السياسات المعاصرة وهي فكرة تحقيق التوازن والتوفيق بين مبدأين متعارضين يتمثلان في:
قوة الدولة بدرجة تسمح لها أن تكون فعالة.
حرية الفرد إلى الحدّ يتيح له طلاقة العمل.
ولا اعرف اهو غياب مثل هذه البديهيات في العلوم السياسية و غياب إدراكهم لها لدى هؤلاء القوم، أو هو تغييبها المقصود والمدروس؟
وقبل تحديد مضمون الديمقراطية وآلياتها، قد أجد من الأفيد النظر إليها بعجالة في مهدها الأول ومنشئها الخصب ومن خلال ما بقي محفوظا في الذاكرة من أيام الدراسة الجامعية، أو فيما دفعت إليه مناسبات والتزامات كرسي التدريس فيما مضى والارتباط ببعض الجامعات كمحاضر زائر، إذ كانت هذه المحاضرات في البعض منها يقترب حينا، ويبتعد أحيانا من موضوع الديمقراطية بصفة عامة...
وأجد عذري في تناول هذا الموضوع من زاويته التاريخية، ما اعتقده يتحقق من استفادة أكيدة من بعض الأفكار السياسية والتي ظهرت في عصر من أزهى عصور الفكر البشري ، وهو العصر الذي صادف تعاقب ثلاثة من فطاحله الفكر وهم: سقراط، أفلاطون، أرسطو واحدا تلو الآخر...
كما أجد عذري في إيماني بان فلسفة الإغريق السياسية على بعد ما بيننا وبينها فهي تعلمنا الشيء الجديد على الدوام كلما رجعنا إلى معالمها، وأصولها، وبيئتها وقرأنها بتمعن.
إن مبرر رجوعنا إلى منبع الديمقراطية ومنبتها سيساعدنا على إزاحة من نصبوا أنفسهم مفسرين ووكلاء على الفكر الديمقراطي و به توزن الأمم ، والشعوب ، والدول والحكام، ولا اكتفي بالوقوف على إفرازات تسلسل مجراها ومرماها، وما أصبح يزخر به عالمنا وتفرعاته، بصورة هادئة وعادية ونفعية من باب استغلال ما ينتجه العقل لفائدة الإنسان وهذا هو الوضع الطبيعي والمعقول،وغير المعقول هو ما أصبح مستعملا منها لمآرب أخرى للابتزاز والانتقام والمتاجرة التي تمارسها بعض الدول الاستعمارية عن طريق المنظمات الدولية التي تسير في فلكها، والتي نصبت نفسها حكما ومحكمة، فأصبحت توزع الاتهامات بخرق الديمقراطية، وتحاكم الدول وحكامها على بعدهم من مقتضياتها أو لتجاهلهم لهذه القيمة السياسية في تعاملهم مع رعاياهم،بل ووضع بعض هذه الدول تحت المراقبة والتفتيش والمساءلة السنوية، وحسب المزاج وفي اغلب الأحوال وما تقتضيه مصالحهم...يضاف إلى ما سبق ما يجري في بلادنا، ذلك التصنيف المخترع في الخارطة السياسية والتي تروّج له بعض الصحف من توزيع، وتوشيح هذا الحزب أو ذاك بفضائل الديمقراطية وحرمان الآخر منها، والآخر وطني، وغيره اسلاماوي وعلماني الخ...
ويكفي حزب جبهة التحرير الوطني فخرا انه مصنف بأنه حزب وطني، بل هو أبوها عن جدارة واستحقاق وبدون منافس، وهو ديمقراطي حتى النخاع بالحجة والدليل ولو أنكر الحاقدون بمكرهم، وهذا ما سنعمل على إبرازه من خلال هذه الحلقة ومحطاتها.. عبارة الديمقراطية وحدها إشارة ساطعة ودالة على حقبة مضيئة في تاريخ البشرية وبداية صحيحة، ومنطلقا لبداية عصرا لمعرفة وقوة العقل في اكتشاف وتفسير الظواهر الطبيعية وفي هذا المقام أجد نفسي مضطرا لنقل فقرات من مبحث متعلق بفضل الإغريق في تطوير الفكر العلمي ص 56، وما بعدها من كتابنا الموسوم تحت عنوان الوجيز في المنهجية والبحث العلمي ، الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية،ذلك أن التفكير اليوناني هو ميلاد الفكر، لقد انبثق الفكر في اليونان من الروح القاتمة والعميقة التي كانت موجودة في الشرق بصفة عامة، ويبقى التفكير اليوناني متمتعا باستقلال ذاتي في مقابل التفكير الشرقي، ويكاد يكون تاما وانه قد اظهر بذالك نوعا من الخلق..ومن الناحية السياسية عمد الفكر اليوناني إلى تعميم مبدأ المناقشة في المجالس والجمعيات والتي جعلت منها الأنظمة الديمقراطية عاملا حاسما في تطوير الفكر وخلقه إلخ..
إن البيئة السابقة على سقراط أستاذ أفلاطون، قد تميزت بشتات متناثر من الاتجاهات الفكرية، استطاع ذلك الفيلسوف العظيم تحويلها إلى فلسفة محددة المعالم،والى آراء رتب عليها المفكرون من بعده نتائج وان جاءت متعارضة، وقد تميزت تعاليم سقراط بالإيمان بان الفضيلة هي المعرفة، وأنها بالتالي قابلة للتعلم وللتعليم. وكان لهذا الربط بين الفضيلة والمعرفة تجريح للديمقراطية الأثينية التي قامت على افتراض صلاحية أي إنسان لشغل أي منصب.. والتي كان لها صداها في آراء تلميذه أفلاطون على نحو ما سنراه، وتبقى الإشارة واجبة من أن البيئة الفكرية التي عمل في ظلها هؤلاء الفلاسفة تغاير في جملتها بيئة الفكر الحديث، ولئن كانت مشكلات العصر الحاضر لا تخلو من بعض أوجه الشبه مع مشكلات اليونان، إلا انه لا تطابق البتة بين مشكلات العصرين، ومن اجل ذلك تبدو أهمية التعرض إلى حكومة أثينا بالذات، وهي الحكومة التي نعرف عنها أكثر من غيرها، وتليها اسبرطة، وهي الحكومة التي خصها فخول فلاسفة الإغريق بفائق عنايتهم..
تتكون تلك المدينة من ثلاث طبقات رئيسية متميزة كل منها عن الأخرى من الناحية السياسية والقانونية وتشكل هذه الطبقات صورة هرم قاعدته طبقة الأرقاء التي تمثل ثلث سكان أثينا، أما الطبقة الرئيسية الثانية فهي تتمثل في الأجانب المقيمين في المدينة، في حين الطبقة الثالثة والأخيرة فهي طبقة المواطنين، أي أعضاء المدينة الذين لهم حق المشاركة في حياتها السياسية،وصفة المواطن ميزة يتوارثها الأبناء، والابن يعد مواطنا بالمدينة التي يتمتع والده بعضويتها، وصفة المواطن هذه امتياز يخلع على صاحبه عضوية المدينة ويؤهله لحد أدنى من المشاركة في النشاط السياسي، وفي الشؤون العامة وهذا القدر من المشاركة لم يجاوز أحيانا مجرد حضور المواطن اجتماع المدينة، وتختلف أهميته تبعا لمدى الديمقراطية السائدة، وقد يتضمن أحيانا أخرى صلاحية متفاوتة لتولي الوظائف العامة، وان صلاحية تولي وظائف المحلفين هي أحسن معيار لصفة المواطن الخ..
ولتصريف شؤون المدينة يقوم النظام السياسي هناك على الجمعية العامة التي تتكون من مجموع المواطنين الذكور في المدينة ،ويحق لكل مواطن أثيني حضور أشغالها بعد بلوغ سن العشرين، تجتمع هذه الجمعية عشر مرات على الأقل في السنة، تشبه قرارات هذه الجمعية التشريعات الحديثة التي تصدر عن السلطة العامة بصفة شاملة، وتستمدّ وجودها السياسي من الشعب.
وما يسترعي الانتباه والظريف فعلا في الحكومة الأثينية هو وجود جمعية سائر المواطنين سالفة الذكر، بل ما تضمنته تلك الحكومة من وسائل سياسية كفلت مسؤولية القضاة والموظفين أمام مجموع المواطنين، وجعلتهم خاضعين لرقابتهم، وكانت وسيلة ذلك إيجاد نوع من التمثيل النيابي،غير أن أمره مختلف عن مفهوم التمثيل النيابي الحديث، إذ كان الهدف هو اختيار هيئة كبيرة إلى حد يكفي لإعطاء صورة مصغرة لجميع المواطنين مع السماح لهذه الهيئة بالعمل باسم الشعب في حالة معينة أو لأجل قصير، وقد ترتب عن قصر المدّة على عدم جواز إعادة انتخاب الأعضاء، وفتح الباب أمام المواطنين الآخرين............... وللحديث بقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.