في الوقت الذي يريد فيه مهندسو الاستعمار بالأمس وأذنابهم المتعودون على كتابة تاريخ المحروسة حسب معايير التحضر الاستعماري، مازالت العديد من المعجزات الثورية التي استطاعت الجزائر الثائرة تحقيقها، ليس فقط على أرض المعركة بالجزائر، بل وصل مداها حتى الأراضي الأوروبية عامة والأراضي الفرنسية خاصة، أين استطاعت الجبهة الجزائرية اختراق ديوان الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، ومن قبل كانت مخابرات الثورية الجزائرية قد استقرت بالمدن الفرنسية لتنفيذ عمليات ضد المصالح الفرنسية، حيث تمكنت من نقل المعركة إلى قلب العاصمة الاستعمارية، وهو ما لم تحققه دول أخرى كانت تحت نير الاحتلال الأوروبي والأمريكي. لم تكن مظاهرات 17 أكتوبر وليدة الصدفة،كما ادعت وقتها السلطات الاستعمارية الفرنسية التي ظلت تطمس حقائق عبقرية الثوار الجزائريين الذين أطلقت عليهم العديد من الاوصاف بداية من "الفلاڤة" وصولا الى وصف "الارهابين "، وصولا الى تسمية "لكرابوا" وكأن الأرض الجزائرية كانت اوربية قبل ميلاد دولة الفرنسية التي انقذها ذات يوم القمح الجزائري الخالص من مجاعة كادت تقضي على جزء من الشعب الفرنسي، مازالت ديونه عالقة على ظهر الدولة الفرنسية منذ قرن ونصف القرن، كما كان الفضل لاكثر من 40 الف جزائري المجندين اجباريا ضمن الجيش الفرنسي الاستعماري في تحرير فرنسا من النازية الألمانية، كان جزاء أبنائهم وعائلاتهم مجازر 8 ماي 45 التي خلّفت اكثر من 40 ألف ضحية وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين وآخرين رموا عبر الحومات في البحر، ويقال لنا عبر قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي المصادق عليه من طرف الجمعية الفرنسية خلال عام 2004 إن ما قاموا به هو حضارة وتمدن. مظاهرات 17 أكتوبر لم تكن وليد الصدفة انتفاضة باريس وصفها المؤرخون على انها كانت تعبيرا صادقا على مدى الوعي الذي وصل إليه الشعب الجزائري في ظل الاستيطان الأوروبي الفرنسي الذي حاول بكل ما أوتي من قوة طمس مقوماته وإخماد وطنيته. خطط كسرها الشعب الجزائري نظرا لإيمانه بقضيته العادلة التي ناضل من اجلها نضالا مستميتا مبديا شجاعة نادرة، حيث كانت مظاهرات 17 أكتوبر 1961 التعبير الحقيقي لنضجه السياسي. حيث استطاع منظلو فدرالية الجبهة بفرنسا زلزلة فرنسا من الداخل ضمن احدى الحلقات المهمة في تاريخ الثورة التحريرية. النظال السياسي للشعب الجزائري اعتبره البعض بداية ظهور كانت بداية من عام 1924، حيث اطلق عليه اسم الوطنية العصرية المتمثلة بالدرجة الأولى في شخص الأمير خالد، الذي تبنى النضال السياسي، الا ان الوقائع التاريخية أثبتت بان هناك شخصيات جزائرية كانت سبّاقة في ميدان النضال منذ دخول عساكر الاستيطان الاوروبي الفرنسي الجزائر المحروسة في عام 1830، حيث كان على رأس هؤلاء المناضلين حمدان خوجة صاحب المرآة الذي عبّر عن موافقه السياسية تجاه هذا الغزو البربري فتم نفيه من الجزائر، ليكون بذلك عام 1924 حلقة من الحلقات المميزة من تاريخ الجزائر المعاصر مرتبطة بظروف معينة فرضتها الحتمية التاريخية. ظروف تاريخية فرضت على الجزائريين نقل نضالهم إلى فرنسا التي ارسلت جيشها الاستعماري لاغتصاب الاراضي الجزائرية التي غادرها الآلاف منهم ضمن هجرة كبيرة، فكانت هذه الهجرة وراء ظهور أكبر تنظيم سياسي بفرنسا، "نجم شمال إفريقيا" الذي أصبح تحت تصرف الجالية الجزائرية التي نادت من خلاله بالاستقلال. نشاط هذا الحزب خلق لدى أبناء الجالية الجزائرية فكرة النضال السياسي من أجل الاستقلال الذي أصبح لدى الأغلبية منهم من المسلمات. الشعور الوطني تجسد فيما بعد في ظل حزب الشعب الجزائري، الذي نقل النضال السياسي من الجزائر إلى فرنسا أين استطاع هذا الأخير استقطاب أعداد هائلة من الجزائريين إلى صفوفه. تجربة الجزائريين في هذا النظال السياسي جعلتهم يإمنون بالمبادئ الأساسية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال التى ترسخت في اذهان القاعدة الشعبية التي آمنت بحتمية النضال بشتى أنواعه السياسي والمسلح، على حد سواء، ليصبح بعدها النضال المسلح امرا ضروريا في مرحلة فقد فيها النضال السياسي مكانته وأصبح حبرا على ورق، فكانت إنطلاقة الثورة المباركة في غرة نوفمبر 1954 بمثابة الفتوحات التي اعلنها ثوار غزوة نوفمبر عام 1954. الجبهة أنشأت منظمة سرية منذ عام 1957 بفرنسا مخابرات جيش التحرير تصفي العميل علي شكال أمام مرأى الرئيس الفرنسي رونيه كوتي بعد بيعة اول نوفمبر، تمكن أعضاء فيدرالية جبهة التحرير الوطني تجنيد اغلب المهاجرين خدمة للقضية المتمثلة في تحرير الجزائر من فيروس الاستيطان، وقد تمكنت الجبهة من السيطرة على مناطق تواجد المهاجرين الجزائريين في فرنسا مع مطلع عام 1957. وبعد اتساع رقعة نشاطها من أربعة مناطق إلى ست مع بداية عام 1959، اهتدت فدرالية الجبهة الى ضرورة الاعتماد على التنظيم المحكم حتى لا يقع أعضاؤها في قبضة السلطات الفرنسية. وبناء على التعليمات التي كانت تقدم من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ، كانت من أهم توجيهاتها هو العمل على إرباك السلطات الفرنسية عن طريق الأعمال التخريبية ضد مصالحها الاقتصادية وغيرها من اجل زعزعة الأمن الداخلي، مهام ثورية سرية إلى منظمة خاصة تشرف عليها فيدرالية الجبهة المباشرة من فرنسا داتها. المنظمة ظهرت الى الوجود خلال عام 1957. كانت باريس من اهم قواعد نشاطها اسندت لها القيام بأعمال مسلحة داخل التراب الفرنسي، عناصرها كانوا قد تخرجوا من منطقة لعراش بالمغرب اين كان يوجد مركز تدريب أعضاء هذه اللجنة التي ركزت نشاطها الثوري في باريس ونواحيها. ومن أبرز أعمال المنظمة السرية الخاصة التي كانت تعتبر احدى الوحدات التابعة لمخابرات جيش التحرير الجزائري، هو جرأتها في التخطيط وتنفيذ عملية تصفية العميل علي شكال أمام مرأى ومسمع الرئيس الفرنسي السابق رونيه كوتي. الادارة الاستعمارية لم تهضم ما كان يحدث داخل أراضيها من أعمال، مثل ما حدث مع حادثة تصفية احد عملائها امام مراى رئيسها، حيث كان رد فعلها عنيفا وقويا ضد الجالية الجزائرية، مطبقة عليها حظر التجول والشروع في الممارسات اللاإنسانية ضدها بارتكاب العديد من الاعتقالات العشوائية التعسفية في حق الجالية المهاجرة، بالاضافة الى المداهمات التي انتهت بالمئات منهم الى دهاليز السجون. الاعمال الوحشية لم تضعف من عزيمة جبهة التحرير الوطني التي استمرت في النضال، رغم المحاولات الفاشلة التي حاول من خلالها بعض القادة الفرنسيين وعلى رأسهم الجنرال ديغول من فرنسة الجزائر عن طريق سياسة الاندماج التي رفضتها الجبهة التحرير بشدة. المنظمة الخاصة تنسف السكك الحديدية ومراكز الشرطة الفرنسية سان موريس لوزاك لردواز محتشدات اشتهرت بسجن الآلاف من الجزائريين المنظمة الخاصة لم تكتف بتصفية العميل علي شكال بعدما انجزت عدة اعمال بطولية داخل الاراضي الفرنسية المحصنة من طرف جيوش الاستطيان، الذي كان يترجل على النساء والاطفال والشيوخ في الجزائر، حيث تمكنت من القيام بعدة عمليات المسلحة ضد قطاعات حيوية، كنسف خطوط السكك الحديدية وحرق المخازن المخصصة للمواد الخام، إلى جانب عمليات هجومية متكررة على مراكز الشرطة وغيرها، مما اضطر الادارة الاستعمارية بفرنسا الى ضرورة الإسراع في تطبيق حظر التجول قصد تطويق مناضلي جبهة التحرير الوطني بداية من 27 أوت 1958. وبحلول عام 1961، كانت الهمجية الفرنسية قد وصلت الى اقصى شرسة ووحشية في تعاملها مع أبناء الجالية الجزائرية في فرنسا، اين تم زج العديد منهم في السجون والمحتشدات ومنهم من استشهد واخرون نقلوا الى الجزائر بتهمة مساندتهم الثورية من اجل استرجاع الاستقلال والتمتع بالحرية. هدف العمليات المسلحة التي حققتها الجبهة عبر جناحها العسكري داخل التراب الفرنسي، كان الضغط على السلطات الاستعمارية لكي تتوقف عن تدعيم تواجدها العسكري داخل الجزائر الذي كان له الأثر السلبي على المجاهدين. عمليات أثمرت عن التخفيف من الضغط العسكري المتزايد على جبهات القتال بالجزائر. الادارة الاستعمارية سخرت عدة المحتشدات خصصتها لدفن الجزائريين داخل التراب الفرنسي. كان محتشد سان موريس لوزاك، لردواز، اشهرها في جعل نهار الثوار ليلا. كان لمناضلي الجبهة الذين تظاهروا يوم 17 اكتوبر 1961 مكنا لهم بغرف التعذيب والاهانة. مظاهرات كانت بمثابة دفع قوي للثورة خارج حدودها الإقليمية، برهنت من خلالها على مدى قوة الترابط العفوي بين أبناء الجزائر في الداخل والخارج. الثورة الجزائرية من بين ثورات العالم الكبرى يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إن الإستعمار هو الذي يخلق الوطنية لدى المستعمَرين. أن هذه المغالطة ومصلها كثيرا أصبغت على الثورة الجزائرية وعلى الجزائر بصورة عامة، كثيفا حتى أصبح البحث عن الحقيقة وعن حقيقة الثورة الجزائرية وعن تاريخ الجزائر من باب الألغاز الممتنعة المستعصية، ومثل هذا القول صدر عن شخصية لاشك من ولائها للقوة الجزائرية ومناصرتها في ظروف صعبة، مما جعل المسألة متعلقة أساسا بالوسط الذي عاشت فيه هذه الشخصية. وبتعبير فلسفي سياسي بحت، فالمسألة تتعلق بالإيديولوجية السائدة، وهي الإيديولوجية الإستعمارية التي بثت سموما فاقت كل تصورات حتى صار تصحيح المفاهيم وإبراز الحقائق من باب المستحيلات السبع، هذا بالنسبة للفرنسيين المخلصين لقضايا الحرية وكرامة الإنسان، أما المتعنيتين منهم والمتعصبين فمواقفهم لا تاريخية ومنافية للعقل. أما بالنسبة للجزائريين، فالرؤيا كانت أوضح من ذلك بكثير ولم ينتظر الشعب الجزائري أول نوفمبر 1954 ليحب وطنه أو ليعبر عن ذلك الحب، بل كان من الشعوب القليلة التي نشأ لديها حب الوطن منذ وقت مبكر، حيث كافح من أجل بقائه عزيزا مكرما ذاق في سبيل ذلك الأمرّين. أخطاء تاريخية في كتب مدرسية تغالط التاريخ والأحداث رغم عظمة نظال وكفاح الشعب الجزائري، إلا ان بعض المتآمرين على تاريخ الأمة سربوا عبر كتب التاريخ الموجهة لتلاميذ السنة النهائية من التعليم الثانوي، حيث جاء في الصفحة 189 "الجزائر كانت سنة 1947 تتمتع بدستور"، وهو الأمر الذي لم يكن ابدا، حيث كيّف اصحاب المؤامرة قانونا أصدرته السلطة التشريعية الفرنسية لتنظيم الحياة العامة من الجزائر، كمستعمرة ضمن الاتحاد الفرنسي على انه دستور، لان الدستور يصدر عن هيئة برلمانية تمثل السيادة الوطنية، وما سمي بدستور 47 كان البرلمان الفرنسي قد أصدره لبسط السيادة الفرنسية على الجزائر في ظل الاستيطان ولا علاقة له بالسيادة الجزائرية. ولو كان للجزائر دستور أيام العهد الاستعماري، لما كان من الضروري ان يعلن الجزائريون الكفاح عبر بوابة ثورة نوفمبر. أما الخطأ الثاني، فقد سجله مؤرخو العقلية الاستعمارية على أن السلطات الفرنسية اعتبرت ما كان يجري في الجزائر بأنه مجرد عمليات لحفظ الأمن قامت بها الشرطة أساسا والجيش بصورة عرضية، وهذا في إطار القانون الفرنسي، حيث اعتبرت الثورة في نظر القانون الفرنسي تمرد على السلطة القائمة، وهو ما جعل الساسة الفرنسيين والجنرال ديغول إلى اعتبار الثورة الجزائرية مجرد إنتفاضة. إن اعتبار الثورة الجزائرية مجرد تمرد، أمر له أبعاد، لأن المسألة تبقى في الإطار الفرنسي المحض ويكون من شؤون الدولة الفرنسية الداخيلة تعالجها كما تريد، إذ أن المواجهة تبقى بين مواطني دولة واحدة هي فرنسا وبذلك ينفى عن الجزائريين صفة الثوار. ومن جهة أخرى، فإن اعتبار الثورة الجزائرية بهذه الصفة يضفي عليها طابع الغامرة والعشوائية والفوضى، وهذا يتجلى بوضوح في التصريحات الرسمية الفرنسية، فتفقد بذلك الثورة الجزائرية صفة التنظيم والتدبير. ومن جانب ثالث، فإن اعتبار الثورة الجزائرية مردا أو مغامرة أراح الكثير من الباحثين الذين أحرجتهم الثورة الجزائرية إحراجا لا قبيل لهم بتجاوزه، لولا المفهوم الفرنسي الرسمي الذي كفاهم مخاطر الخبث في موضوع لا يستهويهم، لأن المسألة مسألة تصنيف، فقد احتاروا في حقيقة الثورة ولم يجدوا لها مكانا بين الثورات التي يعرفونها. الحقيقة ثابتة، وهي أن الموضوعية في التاريخ نسبية وكل باحث لا يتجرد تماما وبصورة كاملة عن شخصيته بكل ما تحمّله هذه الشخصية من مقومات. إن الثورة الجزائرية جاءت في ظروف تاريخية معينة، فكان عليها تحمّل خصائص هذه الظروف وتندرج ضمنها، ومع ذلك شذت عن القاعدة وتميزت بخصائص لا تشاركها فيها الانتفاضات أو الثورات الأخرى، لذلك ضرب على جانبها العقائدي والفلسفي جدارا من الصمت من طرف الدراسين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وبالخصوص من طرف الدراسين العرب. وإذا كان لابد من توجيه اللوم، فلابد أن نبدأ بأنفنسا نحن الجزائريين بالدرجة الأولى، لأننا لم نوصل رسالة نوفمبر إلى الأجيال الصاعدة ووقعنا نحن الآخرين في الخطأ الذي وقع فيه غيرنا، فقد كان اهتمامنا بالواقع أكثر مما وراء الوقائع وأنصب همنا على تجريد فلان من المشاركة أو إثبات مشاركته، ونسينا الباقي تعلقنا بالمهم وتركنا الأهم. لكن لماذا حيكت خيوط مؤامرة الصمت هذه على الثورة الجزائرية؟ وما الذي اقترفته الجزائر من ذنب حتى تستحق مثل هذه المعاملة؟ بينما جرت أحداث أخرى في العالم كانت أقل أهمية وأقل صدى وأقل بعدا، ولكنها نالت ما نالت من عناية. جاءت الثورة الجزائرة فدوخت العالم، أقامته وأقعدته ثم فجأة اختفى ذكرها. لابد أن في الأمر سرا. تجتمع الأدوات العالمية، فيأتي ذكر الثورات ولا تذكر الثورة الجزائرية، أو إذا ذكرت فباقتضاب، ويمر ذكرها مرور الكرام، هذا حتى عند إخواننا العرب الذين ساهموا بالقسط الوافر في حينها في التعريف بالثورة الجزائرية، فقد تجندت أجهزة الإعلام العربية وألقت بثقلها من أجل القضية الجزائرية، لكن بعد ذلك لا شيء. تعقد ندوة طويلة حول أثر حرب أكتوبر 73 على حركة التحرير العربية وتذكر جميع ثورات العالم حتى الثورات الرجعية، ولا تذكر الثورة العربية الجزائرية. صمت رهيب خيم على الثورة الجزائرية، في حين صنفت الثورات في العالم من طرف علماء الاجتماع بنوعين، ثورة ليبرالية ذات طابع عالمي، وثورة اشتراكية ذات طابع محلي محدودة من حيث التطبيق لا من حيث الفكر، وبهذا التنصيف يحق للدراسين بطبيعة الحال أن يبعدوا الثورة الجزائرية، لأنها لا تمت بصلة لكلتا الطائفتين. لقد إحتكرت أوروبا فكرتين، فكرة الدولة الأمة وفكرة الثورة، ولكنها في نفس الوقت وقعت في خطأ جسيم وتناقض فادح، فالثورة الفرنسية وقعت في إطار النظام القانوني الفرنسي، لكن ما أطلق عليه بالثورة الأمريكية مع إنطلاقها من النظام القانوني الإنجليزي، إلا أنه أسفر عن إنفصال الولاياتالمتحدةالأمريكية عن الوطن الأم، وبذلك فإن الصورة الأمريكية ليست ثورة بمفهوم الثورة التقليدية، هذا ما يجعلنا نتساءل بحق عن المفهوم الحقيقي للصورة ونفرق بينها وبين مفاهيم عديدة إستعملت في أوقات ما ولأغراض معينة كمرادف للثورة ونحدد المكان الحقيقي للحدث التاريخي الذي وقع في الجزائر سنة 1954. هناك إصطلاحات عديدة إختلطت بمصطلح الثورة: التمرد الإنفصال التصحيح الثوري العصيان. ولكن لكل واحد مدلوله ومحتواه والكل يختلف عن الثورة في طابع هذه الأخيرة الشمولي، مع إقترانهم جميعا بالعنف. ولقد شاء الفكر المعاصر أن يحصر الثورة في إطار نظام قانوني وسياسي واحد، لذلك إعتبر الثورة حكرا على الدولة التي تقع فيها، لذلك صب كل إهتمامه على الثورة الفرنسية والأمريكية والروسية. فإذاكانت الصورة هي عمل فجائي وعنيف، يقصد به تصحيح وضع إجتماعي قد ساءت أحواله، بحيث أنه خرج عن المسار التاريخي المقرر له، وتقوم بها مجموعة ما في مواجهة نظام الحكم القائم، فتعمل على الإطاحة به والحلول محله لتعيد المجتمع إلى خط كان عليه يحيد عنه، فالثورة بهذا المفهوم لا تعدو أن تكون حربا يتواجه فيها خصمان يعمل الواحد على القضاء على الآخر سعيا وراء السلطة، والغلبة لمن يحوز على أكبر عدد من الأنصار ويحشد لعمله هذا أكبر قوة ممكنة. على ضوء هذا التعريف، تم تحليل الثورة الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية كذلك، لكن من حيث الأحداث والوقائع فقط، ثم يعود المحللون إلى عصر التنوير أو فكر القرن التاسع عشر، ليشحنوا هذه الوقائع بالمحتوى الفلسفي والسياسي، وبذلك يحصلون على مفهوم الثورة الذي يروق له، فيصبح هذا المفهوم على أن الثورة هي كل عمل فجائي وعنيف يقع في بلد ما للإطاحة بنظام ويقصد به التغيير الجذري للحياة الإجتماعية والسياسية وتغييرا يضمن تحقيق المطامح الشعبية أو بأدق تعبير تحقيق أكبر جزئ من مطامح الشعب. بهذا المفهوم وبالرجوع الى الفكر الفلسفي السائد أو الذي سبق مباشرة، نجد أن الثورة إنطلقت لتحقيق مبادئ عامة تلتقي فيها البشرية جمعاء، لأنها مثل عليا يتوق إلى تحقيقها جميع بني الإنسان، وهكذا يسود الإعتقاد بأن الثورة عالمية جاءت لتحرير الإنسان، هذا هو الظاهر. أما الباطن، فشيء آخر يختلف إختلاف بيننا وواضحا، لأنه يعيد هذا النوع من الثورات إلى حجمها الحقيقي ويكاد ينزع منها صفة الثورة. المستعمر بيجو أراد ترحيل الشعب الجزائري إلى جاميكا عام 1840 الثورة الأمريكية التي بدأت في النصف الثاني من القرن 18 وإنتهت بإعلان إستقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1776، فلم تكن ثورة على الإطلاق بل هي تمرد إنتهى بإنفصال، لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وعددها في الأصل 13 ولاية كانت مستعمرات بريطانية تم إسكانها بفضل الهجرات المتالية الواردة إليها من الدول الأوروبية أساسا، وكذلك من الرقيق السود الذين إستقدموا من إفريقيا خلال أكثر من قرنين من الزمن وبلغ عددهم حوالي 30 مليون زنجي. وخلال الحكم الإستعماري الإنجليزي وقبله الإسباني، تمت إبادة أهل البلد الأصليين الذين لم يبق منهم سوء عدد قليل. ونظرا لمتاعب سياسية دولية، واجهت بريطانيا ووضعية إقتصادية واجتماعبة إضطرت إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات حددت بها مجال النشاط التجاري في مستعمراتها وجعلته وقفا على سفنها ومؤسساتها وحصرت التعامل مع الإسبانيين، وذلك لفرض السيادة الإنجليزية على المحيط الأطلسي. بالإضافة الى ذلك، إتخذت إجراءات برفع الضرائب المستحقة للتاج البريطاني على المستعمرات الأمريكية. في هذا الجو، كانت أفكار الموسوعيين الفرنسيين والنظريات المختلفة التي راجت في أوروبا قد أخذت سبيلها في الأوساط المثقفة الأمريكية، وهذه الأوساط هي أساسا من الأغنياء في الشمال كرجال لصناعة أو أعمال وتجار وأصحاب مهن حرة وفي الجنوب مزارعين كبار يملكون الأرض ومن عليها من الرقيق. ما وقع في الولاياتالمتحدة منذ قرنين، كاد أن يقع في الجزائر خلال حرب التحرير الوطنية عندما قرر المعمرون الإنفصال عن فرنسا في 13 ماي 1958، أو ما أراد بيجو أن يفعله مع الشعب الجزائري سنة 1840 عندما كان يريد ترحيل الجزائريين جميعا إلى جاميكا. الثورة الفرنسية التى كثر الحديث عنها وامتلأت صفحات الكتب بأخبارها وأبعادها ونظرياتها، وذهب الكتاب غربا وشرقا في الدفاع عنها إلى حد التقديس، الفيلسوف الألماني هيجل يقول عنها "فقد كانت إذن فجرا جميلا"، ويمضي في تصوير إعجابه بها فيقول "إن جميع المفكرين اشتركوا في الاحتفال بهذا العصر الجديد، فلقد ساد في ذلك الوقت انفعال شديد، وكانت موجة الحماس تجتاح العالم كأن تصالحا حقيقيا وقع بين السماء والأرض". بالرجوع إلى الفكر والفلسفة السائدة في ذلك الوقت، لابد من الإشارة إلى الطابع العلماني الذي أخذته الحياة العامة بعد خروج أوروبا من القرون الوسطى لكن هذه العلمانية كانت لحل مشكلة والقضاء على أزمة: العمل على توحيد أوروبا لمواجهة الخطر العثماني، ومن ينسى هذه الحقيقة لا يمكن أن يفهم تطور الأوضاع الأوروبية خلال القرنين 18 و19 و20 في نصفه الأول لذلك كان الفكر يتناول الحياة الأوروبية وحديثة عن البشرية لا يتعدى الحدود الأوروبية، وتصرفات العديد من الشخصيات التي ناصرت الثورة. إن الأزمة الاقتصادية التي كانت تتخبط فيها فرنسا وسوء أحوال الشعب، قد يوحيان بأن الثورة ثورة فقراء لتغيير الأوضاع. والحقيقة أن الخروج من القرون الوسطى وبداية التوسيع الاستعماري وانتهاء عصر الإقطاعية، بعث إلى الوجود طبقة جديدة من الأثرياء لا تنتمى لأية طبقة موجودة "النبلاء، رجال الدين، الطبقة الثالثة"، فكان عليهم أن يبحثوا لها عن مكان، ففجرت الثورة لتقضي على طبقتي النبلاء، ورجال الدين لتحل محلها وكانت في حاجة إلى مساعدة عامة الشعب فتحالفت معه، لكن ما أن استتب لها الأمر حتى عاد الشعب إلى قواعده ولم يجن ثمار ثورته، فضاعت حقوقه وحل الرعب والتعصب إلى أن عادت الملكية من الباب الواسع، فتحوّلت فرنسا إلى إمبراطورية مع نابليون الذي تعهد بنشر مبادئ الثورة في عالم، فكان ما كان. فكتور هيجوا يفضخ أصحاب المغالاة التاريخية في البرلمان الفرنسي الشاعر الفرنسي فكتور هيجو كان قد قال أمام المجلس الوطني الفرنسي مخاطبا رجال الكنسية في 15 / 1 / 1850 "أننا نعرفكم ! ونعرف حزبكم! إنه حزب له مآثر عديدة! فهو الذي يحمي استقامة العقيدة، وهو الذي يمنع العلم والعبقرية من تجاوز كتاب مقدس ويريد سجن الفكر، أن كل الخطوات التي خطتها أوروبا في مجال الفكر والعلم خطة رغم حزبكم الذي كتب تاريخه في تاريخ التقدم البشري لكن على هامشه،... فهو الذي ضرب بسياط بريان لي لأنه قال بأن النجوم لن تسقط على الأرض، وعذب هارفي لأنه قال بأن الدم يجري في جسم الإنسان.. لو كان العقل البشري أمام اعينكم هنا، وبقي حيث تصرفكم ، مفتوحا كصفحات كتاب لرأيتم أن فيه ما يجب أن يشطب ". وإذا كان لدينا إنسان يتسم بالثورة بالمفهوم الحقيقي ، فإن الإسلام وحده جدير بذلك، إذ هو الذي كان ولا يزال أعظم ثورة فكرية واجتماعية وشهدتها الإنسانية. فإن ما حدث في أول نوفمبر 1954 لم يكن ثورة على الإطلاق لأن هذا المفهوم يجعلنا مضطرين للانطلاق من داخل النظام القانوني الفرنسي وقد وقع ذلك بالفعل سواء من طرف المؤرخين الفرنسيين والغربيين بصفة عامة وكذلك لدى العديد من الباحثين العرب وكذلك الجزائريين. أما بالنسبة للغربيين فقد تحدثوا عن "أحداث الجزائر" عن حرب الجزائر عن "التمرد الجزائري " أما الغرب وبعض الجزائريين فتحدثوا عن حرب التحرير الوطنية الجزائرية ، الموسوعة السياسية تذكر زهاء 50 ثورة وبالنسبة للثورة الجزائرية تحيل إلى مادة حرب التحرير الجزائرية ولابد من الإشارة إلى أن عبارة " حرب الجزائر" كثيرا ما ترد في الجزائر فكتاب فرحات عباس أسماه تشريح حرب . كما أن الكثير من الجزائريين يعتبرون أن الفترة الممتدة من 54 الى غاية اليوم مكونهة من مرحلتين مرحلة الكفاح المسلح أو حرب التحرير الوطني وهذا منطلق يقترب كثير من عبارة. مرحلة البناء والتشيد وهي مرحلة الثورة لأن الثورات الاجتماعية الثلاثة الصناعية و الراعية والثقافة انطلقت بعد الاستقلال فالمسألة إذن مسألة أزمة إصطلاح ما نتفق في تعاملنا على مصطلح واحد لتوحيد مفاهيمنا فإذا كانت ثورة فلنتحدث عن ثورة وإذا كانت حرب فلنتحدث عن الحرب أما أننا خضنا حرب فهذا غير صحيح إطلاقا لأن الحرب لها تعريفها ومتفق عليها لدى رجال القانون والسياسية ولا يختلف في ذلك اثنان شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا. فالحرب تقوم بين طرفين يعترف الواحد بالآخر وهي وسيلة لتحقيق هدف سياسية لم تتمكن السياسية من تحقيقه، إذن فالحرب تقوم بين دول لها كيان سياسي وقانوني مسلم به بين الأطراف، فإذا تحدثت الأوساط الفرنسية ومن يدور في فلكها عن حرب في الجزائر فإن الجزائر لم تكن دولة حتى تقوم بينها وبين فرنسا حربا. كما أن الأحداث التي وقعت هنا لم تكن انفصالا لأن الجزائريين لم يكونوا رعايا فرنسيين فانفصلوا عن الوطن الأم بتمردهم، فماذا يبقى إذن،أما أن تكون حرب تحرير وطنية أم ثورة. فأما الحرب التحريرية فإنها تقابل في المصصلح الفرنسي الحرب الاستعمارية أي القصد منها التحرير فقط وبعد ذلك ترى، وهنا لم يكن في برنامج الجزائريين، فهم رغم تصريحات الكثير من المسؤولين كانوا يقصدون شيئا آخر وهو الثورة لكن بين القول والحقيقية قد يكون هناك شيء من التباين. لقد أخذ من قال بأن الثورة الجزائرية ليست ثورة لأنها تفتقد إلى إيديولوجية والواقع أنه إذا كان المقصود من الإيديولوجية مجموعة التخيلات والأفكار، القواعد الأخلاقية والتصورات الإجمالية الشاملة، والنشاطات الجماعية والعقائدية الدينية ونظام القرابة وأساليب العيش والتقدم، والخيال الأسطوري والنظام الفلسفي، وتنظيم السلطات والهيئات والقوات التي تنبثق عنها فإن كانت الإيديولوجية هي هذا النظام المتشعب المتكامل من الأفكار والتصورات والقواعد التي من شأنها أن تنظم داخل مجموعة بشرية معينة العلاقات التي ينتجها الأفراد فيما بينهم ومع الأخرين ومع الطبيعة والرموز التي توجد بها والعلاقات مع الخالق، وتصور الآمال والأهداف في الحيا والموقف أمام الحياة والموت، كانت الإيديولوجية بهذا المعنى فأنها بكلمة مختصرة التصور الواعي وغير الواعي كما هي عليه الحياة اليومية والوسائل الكفيلة بتغييرها لتصبح حسب التصور الذي يراه الأفراد. وفي هذا الصدد جاء في صحيفة المجاهد العدد 27 الصادر في 27 / 7 / 1958 مايلي: "خلافا لثورة 1871 لم تكن ثورة نوفمبر 1954 نتيجة لحادث عرضي وفجائي انتشر بعد ذلك كالحريق، لقد ولدت الثورة بقرار اتخذ بعد تفكير طويل وجاد من طرف نخبة من المواطنين الشبان الذين عملوا السنين الطوال من أجل هذه الفترة الدقيقة... إنها ليست حربا مقدسة.. وأنها ليست حرب العرب ضد الأوروبيين ولا حرب المسلمين ضد المسيحين، كما أنها ليست حرب الشعب الجزائري ضد الشعب الفرنسي". هذه هي الثورة الجزائرية في حقيقتها وفي تفاعلها مع أحداث عرصها وهذا هو المركز الذي يجب أن تحتله بين الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية وخاصة بين الثورات التي خاضتها الشعوب هناك وهناك.ههذ هي المكانة التي يجب أن تخللها ثورتنا لا تعصبنا لها لأنها فعلا فتحت عهدا جديدا في حياة البشرية وأن النموذج الذي أحدثته يكتسي طابع الشمولية الذي يجعلها الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يقع في أي مكان بنفس الخصائص ونفس الأهداف مع مراعاة الظروف الخاصة بكل شعب ومع اعبتار معالم الشخصية الوطنية لكل أمة. مصادر الملف موثقة مستقاة من عدة كتب تاريخية