أجد، هنا، كثيرا من الحرج في استعمال مفهوم مثقف. لذلك وضعته بين مزدوجتين. لأني لا أملك له بديلا يستسيغه السياق. فإنه أضحى يخجلني. ويشعرني بالمرارة. أتصورني لست الوحيد من ينتابه الإحساس بأنه غير صادق مع نفسه حين يوظفه بالدلالة الاصطلاحية المعهودة. ذلك، ليس فحسب لإزاحة السياسي إياه أحيانا على دلالة الادعاء والكبرياء المبتذلة إلى التكبر، وأحيانا على ''التحرر الإباحي'' فإنه ظل تاريخيا يستعمله بازدراء ويتعامل معه باحتقار، ولكن لفراغه من حمولته ''الالتزامية'' و''النضالية'' التي كان يشع بها على الواقع الاجتماعي، مشكِّلا ثقلاً في التوازنات. فإنه كان يكفي نعت الشخص به كي يكسوَه هالةً اعتبارية، ويمنحه أعلى درجة في سلم القيم الاجتماعية والأخلاقية؛ لامتلاكه قدرة التعبير عن مشاعر غيره من الذين يتمَثّلون أنفسهم في أفكاره وفي رؤاه. فهو حال لسانهم وضميرهم. وهو المتخندق في الصف الأمامي من مواجهة ''النظام'' أيا كانت طبيعته. من ثَمة اكتسب صفة المعارِض؛ نظرا إلى هامش حريته الذي سطره لنفسه في علاقته مع السلطة؛ أي سلطة. فقد أضاع مفهوم ''مثقف'' بريقه كل بريقه، في الجزائر، ورونقه وبَهْرجه. وصار لا يحدد هوية اجتماعية لفرد متميز بعلمه ومعرفته أو بفنه أو أدبه أو بكتابته الإعلامية. وفقدَ ''المثقف'' حضوره المعنوي المؤثر من خلال آرائه وأفكاره ومواقفه، كما كانَهُ إلى نهاية القرن الماضي. بل وطُويت صفتُه مع كفن آخر المغتالين في أحداث المحنة الوطنية الدامية. شخصيا، أقدّر أن مفهوم ''مثقف'' تدحرج إلى القاموس غير المنشور بعدُ الذي يؤرخ للغة عاشت في مرحلة تاريخية انقضت بانهيار مشروع ''المجتمع الاشتراكي'' وبتَراجعِ النوايا الخالصة للقضايا العادل الكبرى عند ''المثقفين'' أنفسهم. وكانت جذوة المفهوم، قبل هذا، أخذت في الأفول مع غروب وظيفة الثقافة الجماهيرية، ونهاية دور الالتزام في الأدب والفن والفلسفة، وانحسار دائرة إشعاع التنظيمات والحركات الطلائعية؛ السياسية منها والثقافية والفنية، وتفككها وتلاشيها. إنه يمكن ربط ذلك بالحرب ''المقدسة'' المنتظمة التقويض التي خاضتها ضد الثقافة التنويرية القوى السياسيةُ والدينيةُ المحافظة. فإن تلك القوى هي التي ركّبت الوصفة الساحقة، ممثلة في الحركة الأصولية السياسية التي تأسست بذراع مسلحة، لتكون عامل كبح للمشروعات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية الفكرية والثقافية الحاملة بوادر التغيير والتحديث. كما كانت أداة تشويش على العقل؛ بدءا من المدرسة مرورا بالكتاب الناشر للخطابات الأكثر تشددا وانعزالية وترهيبا. لعلها كانت الحركة الأكثر تطرفا في الدعوة إلى نبذ الأجناس الثقافية، و''تلحيد'' المجتمع بأكمله. فوصولها إلى القنوات الفضائية وإلى ما تُوَافِره الاتصالات الرقمية من إمكانات، سهّل لها القيام بحملة محمومة لتعطيل كل إرادة في التعامل مع الحاضر بصفته حياة نحو المستقبل، وليس محطة رجوع قسرية إلى ماضٍ استنفد تاريخيته وصار مرجع ربط فحسب، بما فيه من أنوار، مع الحاضر نفسه للإسهام في المجهود البشري المتحول. وهي لا تكفّ، من أجل إقامة نظام شبه تيوقراطي قائم على الريع والبازار، عن مواصلة هجومها على مفهوم الدولة العصرية المبنية بالعقل والابتكار القائمة على القانون والحرية والعدالة الكافلة للجميع الحق في التعلم والصحة والعمل، بواسطة إيراداتها الطبيعية ومن إسهامات مواطنيها الخاضعين لإلزامية دفع الضريبة. بالعودة قليلا إلى الوراء، إلى العقدين الماضيين، يمكن معاينة أن بصمات ''المثقف'' الحر المستقل الباحث، العالم، الكاتب، الفنان.. تم إتلاف آثارها تماما من سجل يوميات الجزائر. وعُوض عنها بركامات من أفعال الموالاة وخطاباتها، لم ينتج عنها سوى مزيد من العزوف عن كل ما له صلة بالثقافة. وزاد من درجة ذلك العزوف اتساعاً عجزٌ ناخرٌ للمدرسة وللجامعة عن تقديم تعليم وتكوين يضعان الإنسان الجزائري في زمانه الحقيقي. فأي جدوى من كتابات وخطابات وجهود، أدبية وفكرية وفنية وجمالية، في مجتمع تنازل لأمية مزدوجة مذهلة تَطَال من لم يتلقوا أي تعليم، ومَن تسربوا من المدرسة مبكرين، والذين مروا عبر أطوارها من غير تحصيل كان يمكن أن يحصنهم من السقوط في مستنقع الجهل مرة أخرى؟ وإنه لأمر مقلق جدا أن يلاحَظ أن متخرجين بشهادات جامعية، خاصة في العلوم الإنسانية والآداب واللغات، يُهجّون ما يقرأونه ولا يفهمون محتواه غالبا. ويغرقون في ملء استمارة. ويرتبكون في تحرير طلب بسيط. ويعجزون تماما عن كتابة مراسلة أو تقرير أو محضر أو إعداد مذكرة أو التعليق على موضوع. وإن هم كتبوا فإن حروف كلماتهم هي كل شيء إلا أن تكون خطا. أما قواعد اللغة، أي لغة، فتلك نكبة أخرى. إنهم جيل كله من معطوبي النظام التعليمي الذي حرمهم خلال مسارهم الدراسي من الابتدائي حتى الثانوي وأحيانا الجامعي من المطالعة ومن متعة القراءة. وحشا أذهانهم بكل ما لا يمت لواقعهم وحياتهم وأحلامهم بصلة. وحوّلهم، كرهاً، إلى آلات حفظ وتكرار من السنة أولى ابتدائي إلى الدراسة ما بعد التدرج! فكيف يصيرون ''مثقفين''؟ فالمدرسة، كما الجامعة، نظرا إلى طرائقها وبرامجها ومحتوياتها، تكون ربت فيهم هذا الرفض، بل العداء المضمَر للكتاب وللقراءة. وأغلقت في نفوسهم كل النوافذ التي منها كان يمكن أن يطلوا على العالم الجميل الذي تصنعه الفنون والآداب من حولهم وتجيب على أسئلته الوجودية الفلسفةُ؛ هذا الدرس المغيّب في الجزائر! وها هم أبناؤنا جميعا تحولوا إلى حراة إلى العالم الافتراضي، الذي صار ملجأ لهم من كل هموم مدرسة أشد انغلاقا من سجن لأن هناك سجونا تُعدّ قاطنيها إلى الحياة بعد سراحهم حيث لا ترفيه للأطفال، ولا مطالعة حرة، ولا مواد رسم، ولا موسيقى، ولا مسرح، ولا أشغال يدوية وحرفية، بالنسبة إلى الفتيات، ولا أنصاف أيام خلال الأسبوع الدراسي للأنشطة الرياضية والفنية. وإنه ليكفي الاطلاع على خطب المسؤولين السياسيين وتصريحاتهم وحواراتهم، وعلى تقارير جلسات ''المنتخبين'' في المجالس البلدية والولائية والنيابية، وعلى إعلانات الحكومة لسياستها العامة، للوقوف على هول فراغها من كل إشارة إلى دور الثقافة و''المثقفين'' في النهوض بالجزائر من عجزها. كما أنه يكفي إجراء سبْر في محيط أولئك السياسيين والمسؤولين جميعا حول: هل يقرأون؟ ماذا يقرأون؟ وكم يقرأون؟ هل يشترون كتابا؛ وهم أعلى قدرة شرائية من بقية القراء المفترضين الآخرين؟ هل يحضرون المعارض ويزورون المتاحف ويشاهدون العروض؟ لتتبيّن الدرجة الاعتبارية التي يولون الثقافة إياها. تحت غيم هذا الواقع القاتم، يعيش ''المثقف'' الجزائري الوهم بأنه لا يزال يكتب ليُحدث وعيا جديدا، لا ضمير له. أو هو يُسْهم في بناء حداثة، لا ركائز لها. أو هو يخاطب جمهورا لم يعد له وجود إلا في خياله. والواقع هو أنه لا يسمع غير رجْع الصدى لصوته في كهف تَخلِّي المؤسسات العمومية عنه وعن منتوجه. إنه الحقيقة التي كانت قبل أن تتحول وهماً. فلا بد، إذاً، أن مفهوما آخر بديلا سيحل محل ''المثقف'' بعد أن صار الروائي والشاعر روائيا وشاعرا فقط، والفنان فنانا فقط، والباحث أستاذا فقط، والصحافي إعلاميا فقط. وهكذا...