ما معنى أن تكون امرأة عربية وفنانة مبدعة كوريغرافية وراقصة.. جملة من الميزات من شأنها أن تحيلنا إلى جملة من الكليشيهات الجاهزة.. وأحكام القيمة المعلبة حيث يرتبط الرقص وجسد المرأة، في الذهنية السائدة، بمعاني المجون والفلكلور التي تتصدى لها لمياء صفي الدّين وتعيد صياغتها في قاموس يرسم بورتريه مختلف عن المرأة العربية الحالية.. امرأة عربية تبلغ أبعادها الصوفية، قيمتها الإنسانية، وتلامس فسيفساء هويتها، في أعمال صفي الدين الفنية، حيث يمتزج الواقع بالأسطورة.. عوالم لمياء صفي الدين تؤثثها ملامح الفرح الطفولي والرغبة في بلوغ الضفة الأخرى.. الضفة الوعرة من الكمال.. يمنحها شغفها طاقة.. يبعث فيها شبابا دائما.. ومتجددا.. ويُدخّر لها وهجا من أجل الحفر عميقا في مفاهيم حاضرة تسعى للابتعاد عن القوالب الجاهزة.. تغوص في لغة الممكن وتسافر بعيدا في قناعاتها.. خيالها ورمزية النظر إلى وجودها.. وكذا التزامها في الدفاع عن قضايا تؤمن بها.. قضايا تحترق من أجلها وتحوّل لغة غضبها حركات ورقصات تبعث على البهجة وتؤسس معبرا يسهل المرور من منطق الموت إلى منطق الحياة.. كما فعلت في عرض ''فلسطين في القلب'' (2003) حيث التقى محمود درويش ومارسيل خليفة حول إيقاعات صفي الدين التي ترفض الانخراط في شيزوفرينيا السياسة.. ويوتويبا الفشل.. وترسم لنفسها حياة تبتعد عن دائرة البالونات السوريالية.. أرادت من ''فلسطين في القلب'' أن تخاطب ضميرها أولا.. وتصرخ عاليا وتنقش قضيتها خارج ''الوطن - الجغرافية''.. على جدران الحقيقة الشفافة.. مهما بَعُدت المسافات!.. مسافات لم تزدها سوى تشبثا بأصالتها.. كينونتها التي تجعل منها، باستمرار، طفلة صغيرة تحلم بالتّجوال والسّفر.. أعلنت في ''سفر'' (1999) مشروعية حلم البدايات.. هجرت جسدها والتحفت أجسادا أخرى.. غامرت.. تاهت.. لبست عباءة غجرية.. ثم عادت أكثر جمالا وأكثر تحملا لما سيأتي.. خصوصا رحلتها الشاقة ''على طريق الحرير'' (2001) أين عبرت بإيقاعاتها وديانا، جبالا، وأراض قاحلة سوى من الخيال.. وأعادت وصل ذاكرتها بذاكرة الأجداد.. طافت بقاع بحثا عن صوت يوحد البشر، فلم تجد عاملا مشتركا غير صوت ''الفن''.. الفن بجماله وبقبحه.. بجنونه وعذريته أحيانا.. تؤمن لمياء صفي الدين بالاختلاف.. تعرف أن مسارات الأفراد تنبني على فردية الخيار.. أحادية المنهج.. وتمايز المسلك.. تؤمن بسلطة الجمال.. والفن من أجل عالم أرحب.. تضع المرأة إجمالا والعربية خصوصا نصب عينيها.. تخاطبها ولا تمل من معاتبتها.. فضحها ومكاشفتها.. ولكن أيضا الانتصار لها.. كما فعلت في عرض ''ليليت'' (2010) حيث اكتشفت البطريركية محدودية أنانيتها.. تقول الأسطورة إن ليليت كانت إلهة في بلاد ما بين النهرين قديما.. وكانت تعرف في بلاد سومر باسم ليليتو.. وكذلك بالاكدية.. عرفت ليليت كربة الرياح التي تجلب المرض والموت.. وعرفت بأنها الشيطانة المرتبطة بالعواصف والرياح.. كما أنها دخلت إلى الديانة اليهودية بعد اختلاطها بالبابليين عقب السبي.. وذكرت أنها شيطانة الليل.. وزوجة آدم الأولى التي خلقت من التراب لكنها رفضت الانصياع لأمره كونها مثله تماما مخلوقة من تراب.. لم يتفقا فهربت من الجنة تاركة آدم لوحدته ولحواء التي ستأتي فيما بعد.. ونفى الرب ''ليليت'' إلى ظلال الأرض المقفرة.. بعد ذلك خلقت حواء من ضلع آدم وانصاعت لأمره.. ما الفرق بين ليليت ولمياء صفي الدين؟.. الإثنتان تعلنان تمردهما.. سخطهما.. صخبهما.. قلقهما.. ونيتهما في العصيان.. عصيان بالفن.. الهروب من الجنة إلى النار.. أو الهروب من الملذّات إلى الشّقاء؟.. إنها همسات شفاه ودقات قلب صفي الدين التي تحاول أن تجعل من الأسطورة ذاكرة جماعية.. تحاكي سلطة ليليت وتتعدى حرفة الحرف أو غواية التشبه كما جاء عن جمانة حداد: ''أنا ليليت القدّيسة الماجنة. فرس آدم الأولى ومفسدة إبليس. خيال الجنس المكبوت وصرخته الأصفى. الغيورة لأني حورية البركان والغيورة لأني وسواس الرعونة الجميل. لم تحتملني الجنّة فطُردتُ لأزرع فتنةً في الأرض وأدبّر على سرير الهجس أحوال رعيتي''.. لمياء صفي الدين، صوت من الدّاخل، صبية دائمة الأنوثة من بلاد الأرز، ترقص من أجل ذاتها.. من أجل رسم عالم يشبهها.. من أجل نساء يرين فيها ما ضاع من شبابهن.. وعقود خضوعهن.. ترقص من أجل حياة تكتب على وقع أقدامها ألف قصيدة مشرقيّة..