من بين أدبيات ونصائح الأولياء لأبنائهم للاهتمام بدراستهم والمثابرة من أجل بلوغ مستويات عليا في التعليم، ترديدهم لعبارة ''تعلّم يا بُني حتى لا تجد نفسك أمام طاولة تبيع السجائر'' كمصير محتوم يلجأ إليه الذين يغادرون الدراسة في سن مبكرة. مازالت هذه المقولة متداولة إلى يومنا هذا، طالما وأن المجتمع ينظر إلى بائعي السجائر والكاوكاو والحلوى في الطرقات على أنهم فاشلون في حياتهم، حيث يلجأ إليها الشباب لامتصاص بطالتهم بطريقة ذاتية دون انتظار من يمدّ لهم يد العون ويتكفلون بهم. ولا يواجه المرء عناء كبيرا للوقوف على ظاهرة باعة السجائر ولواحقها، لأنها باتت مع مرور الوقت تشكل أحد الديكورات التي ''تزيّن'' شوارعنا في كل مدننا، فأينما حللت أو ذهبت أو توقفت أو ارتشفت فنجان قهوة، يصادفك مواطنون من كل الأعمار يمتهنون بيع السجائر، وبالتأكيد تلعب المواقع الاستراتيجية دورا مهما وأساسيا في تواجد هؤلاء الباعة، حيث ينتشرون أمام المقاهي وفي الشوارع المكتظة وفي بعض الأزقة والأسواق، حيث تكون الحركة كثيفة، وهو أمر طبيعي ومنطقي، لأن العملية في الأخير هي تجارية بالدرجة الأولى. ولعل ما دفعنا إلى كشف أغوار هذه المهنة التي استفحلت في بلادنا، ومحاولة التنقيب عن بعض جوانبها الخفية، هو مزاولتها من طرف محترفيها لفترات طويلة ومتواصلة، وهو ما يعني في المصطلحات التجارية أنها مريحة وإلا لماذا الاستمرار فيها طالما وأنها لا تسد حتى حاجيات من قذفت بهم المدرسة إلى الشارع وسدّت أمامهم أبواب العمل ووجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما بيع السجائر والاكتفاء بما تدر عليهم من أرباح أو الانسياق وراء سلوكات منافية للأخلاق والرزق الحلال. من الدراسة إلى بيع السجائر حاولنا بقدر الإمكان، قبل بداية عملنا، أن لا نأخذ عينة عشوائية في تحديدنا نقاط اكتشاف فضاء بائعي السجائر وأعمارهم، وفضّلنا اختيار عينة مقصودة ومعينة حتى نطلع على ظروف كل شريحة من المجتمع التي تمارس مهنة بيع السجائر. ولما كان المتداول لدى عامة الناس أن أكثر شريحة هي الشباب، وفي بعض الأحيان الأطفال الذين يدخلون هذا العالم منذ السنوات الأولى لمغادرتهم مقاعد الدراسة، فقد ارتأينا أن نأخذ عينة شاب لا يتعدى سنه ال 18 سنة بدأ منذ عامين في بيع السجائر: ''بعد توقفي عن الدراسة لم أجد مهنة تليق بسني، وكان عليّ أن أختار بيع السجائر حتى أتمكن من إعانة عائلتي''. ورغم أن هذا الشاب غير معنٍ بأوقات عمل محددة، كما هو في المهن الأخرى، إلا أنه يقضي حوالي 12 ساعة أمام طاولة السجائر أو مدخل مقهى متواجدة بساحة أول ماي، لكن كيف يقضي يومه: ''عادة أبدأ في حدود الساعة السابعة صباحا وأغادر مكاني مع موعد غلق المقهى في حدود السابعة والنصف مساء، وخلال هذه الفترة الطويلة أستعين أحيانا ببعض زملائي الذين يساعدوني في عملي أثناء تناولي للغداء أو قضاء حاجيات أخرى''. ومقابل هذا الجهد والجد الذي دأب عليه هذا الشاب منذ عامين، فإنه يجني يوميا مبلغ يتراوح ما بين 500 دج إلى 800 دج. عندما طرحنا مع هذا الشاب مسألة المستقبل الذي ينتظره عندما يكبر وتزداد حاجته للمال، لا يتردد في التأكيد على أنه لا ينوي الاستمرار في بيع السجائر لوقت طويل، وإذا سمحت له الظروف، وظفر بمنصب عمل فلا يتوانى في الالتحاق به: ''هذا أمر طبيعي لأن العمل الحقيقي الذي حاولت إيجاده في الماضي ومازلت إلى يومنا لم أجده بصراحة، لذا اخترت بيع السجائر، ومتى سنحت لي الفرصة سأغادر هذه الطاولة دون رجعة''. يتذكر هذا الشاب العديد من أبناء حيّه الذين سبق لهم أن امتهنوا بيع السجائر في الماضي في هذا المكان، وهم اليوم يفضّلون أعمالا أخرى. وقبل أن نغادر هذا الشاب ونتركه لحاله، قمنا بعملية حسابية لمتوسط أجره الشهري، فوجدنا بأنه يفوق في كل الأحوال الأجر القاعدي الجزائري حاليا الذي لا يتعدى 15000 دج! فنان في الفخار يبيع السجائر لم نكن نتصور أن بيع السجائر يمارس أيضا من طرف أصحاب الشهادات ممن زاولوا تكوينا معينا وفي حرفة راقية وجميلة مثل فن الفخار. لكن ما وقفنا عليه مع المدعو صالح السكيكدي، ألغى تصورنا وما فكرنا فيه في السابق، لأن الواقع غير ذلك، فمهنة بيع السجائر قد يمارسها كذلك الذين يملكون حرفة ويتقنونها تماما، يقول صالح: ''أنا الآن أبلغ من العمر 51 ولديّ 11 ولدا، بدأت بيع السجائر منذ 22 سنة، حيث عملت في موقف الحافلات بتافورة بشارع حسيبة بن بوعلي، وأنا الآن بهذا المكان، وقد لا تصدقوني إن قلت لكم بأنني أملك شهادة في فن الفخار، وسبق لي أن عملت في إحدى الشركات، وزاولت المهنتين في وقت واحد، حيث أبيع السجائر نهارا وأتفنن في صنع الفخار ليلا''. وفي فترة ما من العمل المزدوج الذي قام به صالح السكيكدي، حدث له ما لم يكن في الحسبان، حيث توقفت شركة الفخار عن النشاط ووجد نفسه بعمل واحد هو بيع السجائر: ''منذ أن توقفت عن العمل بالشركة تفرغت تماما لبيع السجائر، ويتراوح دخلي اليوم ما بين 600 دج إلى 700 دج''. لا تتوقف مبيعات صالح على السيجارة فقط، بل أن الطاولة التي عشقها منذ أكثر من 22 سنة مزيّنة ببعض المبيعات الأخرى كالكاوكاو، الحلوى، البيسطاش، ويسهر دائما على ترتيب سلعه فوق الطاولة بطريقة تجلب النظر وتستهوي المارة والزبائن، فهو لا يتوانى في تغطيتها إذا سقطت الأمطار، ويستقبله زبائنه بابتسامات وترحاب كبير، ولا يخلو الحديث معه من بعض النكت والحكايات، حيث تعرّض في كذا مرة إلى مضايقات رجال الأمن التي انتهت إلى حجز طاولته مصدر رزق أبنائه ال ,11 غير أنه لا يلبث أن يعاود الكرّة مرات عديدة، وهو ما يكشف مدى تعلقه بهوايته بل ومهنته التي عشقها حتى النخاع. عرف مهنة واحدة هي بيع السجائر إن محاولة معرفة المزيد من مشوار بائعي السجائر والكاوكاو، يسمح باكتشاف العديد من خفايا هذه المهنة، والأمر يتعلق أساسا بالذين اتخذوا منها منذ دخولهم إليها مصدر رزقهم، وهم اليوم يستعدون للخروج إلى التقاعد، وهو حال عمي علي الذي يبلغ اليوم من العمر 57 سنة، وقضى في بيع السجائر 20 سنة كاملة: ''لم يسبق أن عملت في شركات أو مهن أخرى غير بيع السجائر التي كانت وما زالت تمثل مصدر رزق عائلتي، ورغم أنني لا أكسب منها سوى 300 دج إلى 400 دج يوميا وأحيانا لا أستطيع الوصول إلى هذا المبلغ، إلا أن تعلقي بها لا نظير له''. عندما سألنا عمي علي عن مستقبل قوته مستقبلا عندما يحال على التقاعد وهو لا يملك في مشواره المهني لا تأمينات ولا الحق في أخذ أجرة التقاعد، لا يكترث، لكنه في المقابل يتمنى فقط أن يحصل على بطاقة الشفاء ليتخلص من مصاريف الدواء الذي يجلبه لزوجته المريضة التي لا تسمح له ظروفه المعيشية بالتكفل بعلاج مرضها المزمن: ''رغم إلحاحي على بطاقة الشفاء إلا أن طلباتي قوبلت بالرفض وسوف لن أتحصل عليها ما لم أبلغ 60 سنة، هكذا قيل لي''. يواصل عمي علي سرد قصته مع مهنته وأحواله الاجتماعية ليعرّج على أزمة السكن التي يعاني منهام حيث أخبرنا بأنه يسكن في قبو، ما زاد في محنته، وهو بالمناسبة يناشد السلطات المعنية بزيارته في مسكنه الكائن بشارع محمد بوطرفة ببلوزداد. ورغم أن سنه لا يسمح له، صراحة، بتغيير مساره المهني، إلا أنه يحلم اليوم أن يجد عملا بسيطا يتلقى مقابله أجرة مليون سنتيم فقط، يتخلص بها من الكابوس الذي يعيشه ويطلّق طاولة السجائر إلى غير رجعة. يبيع السجائر وعمره 83 سنة من الغرائب والمشاهد، بل والمواقف الصعبة التي صادفتنا ونحن ننتقل من شارع إلى آخر علنّا نجد بعض العينات المقصودة التي وددنا معرفة خفاياها مع مهنة بيع السجائر، تبقى صورة ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي كنا نمر عليه يوميا، وهو جالس أمام طاولة السجائر والكاوكاو والحلوى التي يبيعها، ولم نكن ندري أن لهذا الشيخ قصة طويلة وغريبة، وهو الذي علمنا منه أن عمره يتعدى 83 سنة. الشيخ اسمه عمي أحمد، هكذا سمعنا الناس ينادونه ونحن نستمع إلى أولى كلماته: ''بدأت في بيع السجائر منذ أن خرجت إلى التقاعد، والسبب الوحيد الذي أدى به إلى اختيار هذه المهنة يعود أساسا إلى أن منحة التقاعد التي أتقاضاها شهريا لا تصل إلى المليون سنتيم، وأنا بحاجة إلى بعض المال لإعالة عائلتي، خاصة وأني أب لثلاثة أبناء أكبرهم يبلغ من العمر 47 سنة وأصغرهم 45 ولا يعملون حاليا، تصور حجم المسؤولية الواقعة على عاتقي، إذ بالإضافة إلى المصاريف اليومية، أتكفل بدفع تكاليف الماء والكهرباء، ومهنة بيع السجائر لا توفر لي سوى 100 إلى 200 دج يوميا، ناهيك عن كوني معاقا ودخلت في عقدي التاسع''. الاستماع إلى سيناريو حياة عمي أحمد، الذي طلب منا بالمناسبة نشر صورته وهو أمام طاولته، لا يخلو (الاستماع) إلى بعض نوادر عمله وكيف تعرّض غير ما مرة إلى مضايقات من الأمن في إطار حملة القضاء على الأسواق الموازية. عاد بنا عمي أحمد إلى بداياته مع عالم الشغل، وبالضبط في الشركة المختصة في التغليف الكائنة بواد سمار التي قضى فيها حوالي 25 سنة قبل أن يخرج إلى التقاعد سنة 1990 والاكتفاء في البداية بمنحة لا تتعدى 2000 دج في الشهر لتصبح اليوم حوالي 000,10 دج. ما شدنا في مواصلة الحديث مع هذا الشيخ هو تحليه بصبر أيوب وانتظار ساعة الفرج لأنه متمسك بالله. قد تكون الصدفة هي التي قادتنا إلى حالة تشبه إلى حد بعيد ما يعانيه عمي أحمد، بل وتتشابه فصول قصته مع أخرى قادنا إليها فضولنا، لأن الشيخ الآخر الذي صادفناه يبلغ هو كذلك من العمر 83 سنة يدعى عمي عمر. حكايته مع السجائر بدأت بالضبط منذ سنتين، وجاءت بعد سنوات من خروجه إلى التقاعد، حيث قضى 35 سنة في شركة مختصة في إنتاج الزيت تتواجد بالعاصمة، وعندما روى لنا ظروفه التي دفعته إلى مواصلة العمل، وهو متقدم في السن، لم يتردد في تبرير ذلك بقوله: ''لديّ ثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم ما بين 18 و25 سنة، وهم جميعا يعيشون بطالة دائمة، كما أن منحة التقاعد التي أتحصل ليها شهريا لا تتعدى ال 000,15 دج، ما أجبرني على بيع السجائر لتوفير ما مقداره 100 إلى 15 دج يوميا. وما لاحظناه هو أنه طيلة الفترة التي جمعتنا بهذا الشيخ لم يبع ولا سيجارة واحدة، لأن المنافسة في الشارع الذي اختاره بجانب منزله يتواجد به العديد من باعة السجائر، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة عمله أمام طاولة السجائر حتى وإن كان ما يوفره يوميا لا يكفيه حتى لشراء كيس حليب. وحتى إن كانت عائدات بيع السجائر تختلف من حالة إلى أخرى، إلا أن ما استنتجناه أن اختيار الاماكن الاستراتيجية قد تجعل ممتهنيها يتقاضون أكثر من الأجر القاعدي الجزائري شهريا، وهو ربما ما يفسر اعتبار البعض هذه المهنة مصدر رزق لا يستهان به.