أطفال لم تلفح وجوههم شمس البحر فحسب بل زادتهم ضروف الحياة شحوبا وبدا واضحا على ملامحهم أن السعادة لا تطرق بابهم إلا نادرا ، بعد أن رمت بهم الأقدار إلى عالم المسؤولية مبكرا. وبدل اللعب والاستمتاع أجبروا على اتباع طريق آخر.. تحصيل لقمة العيش. يمثل البحر متعة لا مثيل لها، وفرصة لا يستطيع أحد أن يقاوم سحرها، خاصة الأطفال فهم تحديدا من لا تستطيع أن ترفض لهم طلبا، فالبحر بالنسبة لهم عالم بحد ذاته لا يمكن الاستغناء عنه أو التفكير في الابتعاد عنه في أيام الحر، ولو للحظة واحدة. هو وحده من يمكن أن يستوعب لعب الأطفال ولهوهم اللامحدود، وأن يسع فرحتهم الكبيرة كبر حجمه. غير أن هذا العالم الجميل قد حوى أيضا بين طياته مشاهد مؤسفة لأطفال قاوموا سحر البحر، ووضعوا أحلام الطفولة جانبا، وجعلوا منه مكانا للإسترزاق يبدؤون عملهم فيه مع أولى نسمات الصباح، ولا يغادرونه إلا عندما يداعب النعاس أجفانهم ، ،وينهك التعب أجسادهم الصغيرة، وهي حال كثير من الأطفال الذين ساقهم القدر مبكرا إلى عالم الشغل، لا يعتبرون العطلة الصيفية فرصة للراحة، بل فرصة لكسب القوت، وبين أب عاطل وآخر مريض وأم لا تقدر لوحدها على التكفل بمصاريف عائلة بأكملها، وجد الأطفال الفقراء أنفسهم خارج دائرة الطفولة، والمطلوب منهم أن يساعدوا في تحسين دخل الأسرة، وأن يجتهدوا في العمل لمردود أحسن لا يهم إن إسودت وجوههم من الشمس الحارقة أو غيرها من المخاطر، المهم أن يعودوا ليلا محملين بمال يسد رمق أسرهم. ------------------------------------------------------------------------ أجساد صغيرة تصنع قوت عوائلها ------------------------------------------------------------------------ لم يستطع الفقر أن يغير كثيرا رغم قسوته من ملامح الأطفال، فبدوا مسرورين تملأ محياهم الابتسامة، حتى وإن خالطها شيء من الحزن إلا أنهم بدوا واعين جدا بما هو ملقى على عاتقهم. التقيناهم في الشاطئ الكبير غرب العاصمة يجلسون أمام طاولات متواضعة لبيع الحلوى و''الكاوكاو'' وحتى السجائر، وآخرون يحملون علبا ''كرتونية'' وسلال تحمل سلعهم من حلوى و''محاجب'' وغيرها من المأكولات التي يقبل عليها المصطافون، والكل يتنافس من أجل كسب زبون ما وبيع سلعته. ومن بين هؤلاء الأطفال ''ياسين'' طفل في الرابعة عشر من عمره لمحناه جالسا على صور الشاطئ ويضع أمامه طاولة مملوءة بأكياس ''الفول السوداني'' بدا هادئا وخجولا عندما اقتربنا منه لم يمانع في التحدث إلينا، وقد أسَّر لنا أنه يتخذ من الصيف فرصة لتحصيل بعض النقود ليساعد نفسه على اقتناء الملابس والادوات المدرسية، ويريح والديه من مصاريفه على الأقل. والغريب أن ''ياسين'' استوعب الدرس مبكرا ورغم صغر سنه فقد تعلم أن يعتمد على نفسه . ويبدو أن الحياة قد كشرت عن أنيابها مبكرا ودفعت بياسين وغيره الى دخول عالم يخشاه حتى الكبار. سألناه عن رأي والديه فيما يقوم به فقال أنهم راضون جدا على عمله، وهو يساعدهم ويعطيهم جزءا من ماله رغم عمله البسيط. وقد أكد لنا أن دخله اليومي يتراوح ما بين 500 إلى 1000 دج وهو مبلغ يقول ياسين يبعده عن السرقة ويبعد عن أهله شبح التسول ومد اليد. ------------------------------------------------------------------------ الفقر واليتم يلبسان الاطفال ثوب المسؤولية ------------------------------------------------------------------------ يتخذ رشيد من طاولة بيع السجائر مكانا للاسترزاق، ورغم صغر سنه الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر إلا أنه بدا مترددا في الحديث إلينا ، خائفا من شيء ما لم نستطع أن نكتشفه. وحينها رفض الحديث إلينا بحجة أنه ليس صاحب الطاولة ولا يريد المشاكل، وبعد أخد ورد معه ومع صديقيه اللذين كانا بجانبه أسر لنا ''رشيد'' أخيرا أنه صاحب الطاولة مع شريكيه اللذين لم يتجاوزا أيضا الخامسة عشرة، وأضاف أنهم يقتسمون الأرباح سويا. وعن دخوله الى عالم الشغل يقول رشيد أن والده توفي منذ مدة أما أمه فلا تبالي بما نفعل، المهم أن لا نسألها أو نطلب منها مالا وكل واحد منا مسؤول عن نفسه، وما نجمعه من المال نقتسمه معها لتقوم هي بصرفه على البيت ومطالب إخوتي الصغار. قد يكون اليتم سببا مباشرا في كثير من المآسي وكثيرا ما دفع الاطفال للعمل لمساعدة الأم على توفير اللوازم الضرورية للعائلة، وحتى وان ناضلت الأم ليبقى أطفالها في المدرسة إلا أنها تدفع بهم في العطل المدرسية لمساعدتها في العمل فتقبع الأم خلف المواقد لصنع المحاجب أو الديول وغيرهما من العجائن، ليقوم الأطفال ببيعها. فهي ورغم بساطتها إلا أنها تقدم دخلا محترما للعائلة وهذا ما عرفناه من ''يونس'' الذي إلتقيناه في شاطئ ''الرميلة'' بباب الواد حين كان منهمكا في بيع المحاجب يقول ''يونس'' لو كان هناك معيل واحد في الأسرة يعتمد عليه لما حملت يوما قفة المحاجب وجبت بها في الشواطئ، ويضيف: أن هذا العمل متعب جدا علما أن يونس يبلغ الثالثة عشرة من عمره إلا أنه كما قال مجبر على الصبر وتحمل كل هذا كي لا يجوع إخوته الصغار. و''يونس'' ورغم أنه تحمل هما وعبئا أكبر من سنه بكثير فقد أدرك أن له دورا عليه القيام به ومجبر عليه حتى ولو كلفه ذلك الابتعاد عن عالم الطفولة وتجاوزها. كل هذه كانت وقائع لمسناها بكل أسف وحقيقة يقر بها الجميع فحين تتدخل الضروف الاجتماعية الصعبة ملقية بضلالها على حياة طفل صغير، وملغية جانبا ومرحلة هامة من حياة ''الطفولة'' نتساءل حينها من يحمي الأطفال من جشع الكبار ومتى تتحرك الجهات المعنية للحفاظ على حقوق الطفل، فما شهدناه على هذه الشواطئ لم يكن سوى قطرة في بحر عالم تشغيل الأطفال. غَّيرنا وجهتنا إلى أحد الشواطئ الشرقية للعاصمة وبالتحديد إلى عين طاية وما لاحظناه هناك لم يكن أقل سوء من الشواطئ الغربية، فعمالة الاطفال أصبحت عادة لم تعد تثير اندهاش الناس. فالجميع يتعاملون مع الأطفال كباعة فقط لا يهمهم سنهم، ويسألون عن بعضهم ممن يبيعون المحاجب أو العصائر، فالمكان هنا يعج بالأطفال الباعة رغم أن الساعة كانت تقترب من السابعة مساء، وكثير من الشباب جاؤوا من مناطق بعيدة لبيع المأكولات كالرويبة أو خميس الخشنة، وهي أماكن يتطلب التنقل إليها تغيير الحافلة أكثر من مرة مع ما يأخذه ذلك من الوقت. فقد يصلون إلى بيوتهم بعد العاشرة ليلا في أحسن الأحوال. ومن بين هؤلاء الأطفال وجدنا ''لطفي'' كان يبدو أصغرهم فهو يبلغ من العمر 10 سنوات وكان يبيع المحاجب، قال أنه هنا رفقة أخويه وقد جاؤوا من بلدية خميس الخشنة، وكل واحد منهم يحمل بين يديه كمية معينة من المحاجب عليه بيعها كلها قبل أن ينصرفوا مساء أو ليلا يقول لطفي أنه يبيع المحاجب منذ كان عمره 7 سنوات، وقد تعود على الناس وهو يقوم رفقة أخويه الاكبر منه بمساعدة العائلة، فالأب وحده لا يستطيع إطعام 9 أفراد وحده، لذلك هم يلجؤون إلى بيع المحاجب التي تصنعها الأم، أما باقي اخوته فمنهم من يعمل في سوق مدينة الخميس للخضر والفواكه، ويظفر مساء بما يجود عليه الباعة من خضر، ومنهم من يلجأ إلى الحقول لمساعدة الفلاحين . ويقول لطفي أن أكبر إخوته يبلغ من العمر 20 سنة وقد توقف 4 منهم عن الدراسة لكن حتى الذين يدرسون يعملون في العطلة، فالبيت كله يعمل تحسين مستوى المعيشة، وغير بعيد عن لطفي كانت تجلس هناك طفلة تضع أمامه سلة فيها ''الخبز التقليدي'' أو ''خبز الدار'' وما لاحظناه أنها كانت تتأمل الاطفال وهم يلعبون ويسبحون سألناها: لماذا لا تسبح مثل بقية الاطفال؟ فقالت: أنها لا تستطيع أن تترك سلة الخبز فيعاقبها اخوها إن سرقت منها، وعن سبب بيعها الخبز قالت ''هدى'' أنها تقوم صباحا بتوزيع الخبز الذي تصنعه والدتها على بعض المحلات ثم تعود إلى البيت لتحضر الخبز المخصص للمصطافين. فهم غالبا ما يفضلون شراءه خاصة المهاجرين، وتضيف أنها تعمل هنا منذ 4 سنوات. ورغم أن عمرها لم يتجاوز 13 سنة إلا أنها تكلمت بكل طلاقة، وكانت كلماتها أكثرا تعبيرا من كل الأطفال الذين سبقوها قالت ''هدى'' : إنها سئمت من هذا العمل ، فالشاطئ لا يوجد به أناس جيدون فقط، فكثيرا ما تعرضت للمضايقات من قبل الشباب لكن أمي وفي كل مرة تدفعني وتجبرني على القدوم للشاطئ، وترسل معي أحد اخوتي الصغار الذي سرعان ما يتركني ويختفي وسط الأطفال والماء. وتضيف ''هدى'' التي انتقلت هذه السنة الى الرابعة متوسط أنها تحب الدراسة وتود أن تصبح ''طبيبة'' حين تكبر، وتحزن حينما ترى غيرها من الفتيات يلعبن ويستمتعن بالبحر فيما تقبع هي خلف سلة المحاجب. حزن ''هدى'' يفسره اقحامها المبكر في عالم الشغل، وقد بدت أكثر تذمرا من الأطفال الذكور الذين يعتقدون أنهم رجال، لذلك لا يأبهون أبدا بعملهم إلا أن الفتيات لهن اهتمامات أخرى، خاصة أن هدى أخبرتنا أنها تختفي كلما لمحت إحدى زميلاتها في الدراسة على شاطئ البحر كي لا تعيرها عند الدخول المدرسي أو تنشر خبر عملها لدى صديقاتها. أما الناس الذين كانوا على الشاطئ فلم عادوا يأبهون بعمل الأطفال، لأنهم قد تعودوا على رؤيتهم يوميا يقول ''زهير'' عون انقاذ بالشاطئ: لا يكف الأطفال الصغار عن القدوم يوميا للشاطئ يبيعون سلعهم بسرعة ويعودون الى المنزل لاحضار كمية أخرى لا يستطيع أحد منعهم من مزاولة نشاطهم بما أن أولياءهم دفعوا بهم الى العمل، لكن المؤسف أن نرى أطفالا صغارا يبيعون السجائر لأترابهم دون أدنى مراقبة من الاولياء، وأغلبهم لا يتجاوز العاشرة من العمر ، ناهيك عن الشجارات اليومية التي تحدث بينهم بسبب احتلال بعضهم لأماكن بيع البعض الآخر وهي شجارات غالبا ما تسبب الفوضى حين يتدخل الكبار لفض نزاعات الصغار.