خيمة العقيد الليبي دخلها الكثير من الأدباء الجزائريين والعرب، وهم يشيدون ب ''قريته'' الأدبية التي ''أبدعت'' مجموعة قصصية بعنوان ''القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء''، ومعظم أولئك الكتّاب التزموا الصمت حيال الجرائم التي يرتكبها هذا ''المبدع'' في حق شعبه· فجّر الكاتب الإسباني الشهيرو خوان غويتسولو، خريف سنة 2009 قنبلة من العيار الثقيل عندما رفض ''جائزة القذافي العالمية للآداب'' المقدرة ب 150 ألف دولار أمريكي لأسباب ''سياسية وأخلاقية''· وصرّح حينها أن موقفه منسجم مع قناعاته في انتقاد وعدم مهادنة الأنظمة الدكتاتورية· ولئن كان مثل موقف غويتسولو هذا غير جديد في العالم الغربيو وبعض أسلافه من الكتّاب العالميين رفضوا حتى جائزة نوبل للآداب، فإن بعض عرّابي المؤسسة الثقافية الرسمية في العالم العربي وصفوا ذلك بالغريب، بل وشككوا حتى في نوايا صاحبها، وقد قالها صراحة الناقد المصري صلاح فضل، عضو اللجنة الاستشارية للجائزة الذي وصل إلى حد وصف موقف الكاتب الإسباني ب ''اللاأخلاقي''· ولم يتوقف صلاح فضل عند هذا الحد، بل وصل إلى حد تكذيب غويتسولو، قائلا إن اللجنة لم تمنحه الجائزة وإنما كان فقط من بين المرشحين· وسرعان ما تم ''ترقيع'' الأمر وذهبت الجائزة إلى فائز احتياطي، وهو الناقد جابر عصفور الذي رحّب بها (بالطبع) وأخذ مستحقاها واستلمها في حفل كبير، وهو الناقد الذي وصف ب ''التنويري''، الذي وجد نفسه، مؤخرا، في وضع لا يحسد عليه عندما قبِل حقيبة وزارة الثقافة المصرية في ظل خروج ملايين المصريين وهم يطالبون بسقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك، واضطرته الحملات الشعبية التي استهدفه إلى تقديم استقالته من الحكومة قبيل سقوط مبارك متحججا ب ''أسباب صحية''· ولم يرتاح عصفور من كابوس الوزارة حتى انفجرت الأحداث في ليبيا وذكّره الجميع بجائزة القذافي التي قبِلها والقذافي نفسه ينفذ جرائم ضد الإنسانية في حق شعبه ويصفهم بالجرذان والمقملين، ويتوعدهم بإشعال النار و''التطهير'' في كامل أرجاء البلاد بيتا بيتا و''زنقة زنقة''· ووجد جابر عصفور نفسه في موقف أكثر حرج مما كان عليه عندما صعد إلى كرسي الوزارة على جثث ضحايا ميدان التحرير الذين قمعهم بلطجية البغال والجِمال· وقال جابر عصفور بداية هذا الأسبوع: ''بعد ما جرى وما شهدناه من ارتكاب كل هذه الجرائم بحق شعبه، وقتله للمتظاهرين العزل المطالبين بأبسط حقوقهم الإنسانية، أرى أنه لا يشرفني أن تكون جائزة القذافي العالمية للآداب بين الجوائز التي حصلت عليها طوال مسيرتي العلمية، كونها تحمل اسم هذا السفاح''· وأضاف إنه سيبحث ''خلال الأيام المقبلة عن طريقة ملائمة تمكنني من رد الجائزة للشعب الليبي العظيم''· ولئن كان موقف الناقد المصري محرجا، وقد خسر أسهمه في الثورة المصرية الليبية ويحاول بشتى الوسائل إنقاذ ما تبقى من سمعته، فإنه بالمقابل ليس أكثر إحراجا من موقف الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني، الذي ورغم مكانته الأدبية العالمية، إلا أن لقب ''مثقف سلطة القذافي'' بقي ملتصقا به أكثر من أربعين سنة، الذي انتظر حتى اندلعت الثورة الليبية في 17 من شهر فيفري 2011 حتى يحاول القفز من قارب القذافي الذي يسير نحو الغرق، وبعد أيام من انفجار ثورة الليبيين ضد القذافي، أعلن إبراهيم الكوني من العاصمة العمانية مسقط انحيازه للثوار والنأي بنفسه لأول مرة عن العقيد معمر القذافي بقوله: ''إذا كنت أخذت على عاتقي منذ خمسة وأربعين عاماً رسالة رد الاعتبار الثقافي لوطني ليبيا واستعادته من اغتراب تاريخي لا يستحقه، فإن ما يحدث في ربوع هذا الوطن اليوم هو خيار تاريخي تكمن حقيقته في رد الاعتبار السياسي إلى هذا الوطن الذي اغترب طويلاً على هذا المستوى أيضاً، وهو ما يعني فعلاً أن الظمأ إلى الحرية إرادة لم تمت في وجدان هذا الجيل على رغم المنفى الطويل الموجع· فهل نتفجع على الضحايا الذين اشتروا هذه الأعجوبة بالدم، أم إننا نهنئهم على فوزهم مرتين: مرة بالحرية الأعظم شأناً من حرية الدنيا، وهي حرية الخلاص الأبدي، ومرة أخرى بحرية من حرر فنال بتحريره الخلود ثمناً، لأننا لا ننال عادة إلا ما نهب، كما لا نفقد عادة إلا ما ننال!''· وبدا الروائي الليبي الشهير حساسا جدا للصورة التي أخذت عنه وبدا فيها ملتصقا بنظام العقيد، وأجاب عن سؤال للزميلة نور الهدى غولي عن تأخر موقفه المساند لثورة الليبيين بقوله: ''بالله عليكم·· ألم أتحدث بعد؟! كنت أول من أصدر بيانا مندداً بما يحدث في ليبيا، ودعوت للوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء ليبيا خلال فعالية ثقافية في مسقط· أنا لا أردّ على الحاسدين الذين يستصغرون ما أقوم به أو يلغونه· أنا صاحب حضور في الإعلام الغربي لأنهم يقيّمون الأفراد ويضعونهم في المكان الذي يستحقونه· أنا أول معارض في ليبيا ورواياتي مصادرة هناك·· أنا ابن النصوص التي كتبتها، فلا يستطيع كاتب أن يكتب نصوصا ناجحة إذا لم يكن قد عاشها حقا''· ونفى نفيا قاطعا علاقته بجائزة معمر القذافي ''العالمية للآداب'' رغم قوله إن الفكرة في الأصل كانت فكرته وتحفظ على نسبها إلى العقيد منذ البداية· ورغم ''نجاح'' إبراهيم الكوني في التملص من علاقته بجائزة القذافي للآداب، فإنه لم ولن ينجح في نفي علاقته ''المشبوهة'' بالزعيم إلى درجة أن وصفه البعض بأنه، ورغم مكانته الأدبية الكبيرة، مجرد واحد من ''كتبته'' وقال عنه أحد الكتّاب الليبيين: ''إبراهيم الكوني صديق القذافي وأحد الكتبة الرسميين منذ أربعين عاما لم يفهم بعد أن المثقف الرسمي مهما كانت مكانته هو كلب للسلطة وعدو للشعب''، وقبل سنين من تأسيس جائزة القذافي العالمية للآداب كانت ''جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان'' ومن المشرفين عليها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة، قد عقدت ندوة سنة 2003 بعنوان ''القذافي كاتبا ومبدعا''، ولا يمكن للكاتب إبراهيم الكوني أن يتبرأ من نص محاضرته التي ألقاها ضمن هذه الندوة وأشاد فيها رفقة مجموعة كبيرة من الأدباء العرب ومن بينهم جزائريون ب ''عبقرية الزعيم الأدبية'' من خلال مجموعته القصصية ''القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء''، حيث تناول الروائي إبراهيم الكوني حينها ''المكان الأسطوري'' في تلك ''الإبداعات''· وشارك في تلك الندوة نقاد وأدباء كبار من العالم العربي ومن الجزائر، وكان من ضمن المحاضرين من الجزائر حينها الروائي واسيني الأعرج الذي تناول ''المدينة والمثال'' في مجموعة معمر القذافي القصصية، وتناول الشاعر ورئيس اتحاد الكتّاب الجزائريين حينها عز الدين ميهوبي ''البعد الإنساني في إبداعات معمر القذافي''، في حين ألقى الدكتور نور الدين السد محاضرة بعنوان ''الأبعاد الدلالية في الخطاب القصصي للقائد الأديب معمر القذافي''، وتناولت محاضرة الدكتور عثمان بدري ''الدلالة المفارقة للمكان في الخطاب الأدبي للقائد، المبدع، معمر القذافي''· وشارك في الندوة ذاتها مجموعة كبيرة من الأدباء والنقاد العرب هم محمد مصطفى قباج من المغرب، مهدي مبيرش من ليبيا، وجيه عمر مطر من فلسطين، منصور أبو شناف من ليبيا، صبحية عودة من فلسطين، فاطمة سالم الحاجي من ليبيا، ميرال الطحاوي من مصر، طلحة جبريل من السودان، لطيفة القبايلي من ليبيا، يحيى الأحمدي من مصر، حسن حميد من فلسطين، إسماعيل الربيعي من العراق، موسى الأشخم من ليبيا، إدريس الخوري من المغرب، بشير القمري من المغرب، عبد القادر الحصني من سوريا، محمد الخالدي من تونس، شاكر نوري من العراق، فوزي البشتي من ليبيا، شكري البكري من المغرب، جعفر عبد الهدي صاحب من العراق، كوليت خوري من سوريا، رجب أبو دبوس من ليبيا، عبد الله أبو هيف من سوريا، فؤاد قنديل من مصر، عبد الرسول عريبي من ليبيا، ياسين رفاعية من لبنان سمير الجمل من مصر، ومحمد الزوي من ليبيا· ولم يكتف المشاركون في الملتقى بالإشادة ب ''أدب العقيد'' بل رفعوا برقية حسب رواية مجلة ''الفصول الأربعة'' الليبية في ختام الندوة إلى ''الأخ قائد الثورة''· ولم تتوقف الإشادة ب ''أدب معمر القذافي'' عند هذا الحد، فقد عقدت الكثير من الندوات الدولية صرفت فيها الملايين من أجل الإشادة بتلك المجموعة القصصية اليتيمة، ومن بين المؤتمرات التي عقدت في هذا الشأن، المؤتمر الرابع والعشرين لاتحاد الأدباء والكتاب العرب في مدينة سيرت الليبية في شهر أكتوبر 2009 شاركت فيها كل اتحادات الكتّاب الرسمية في العالم العربي ومنها اتحاد الكتّاب الجزائريين برئاسة الشاعر يوسف شقرة، وعلى هامش ذلك المؤتمر الذي عقد في مدينة سيرت الليبية عقدت ندوة بعنوان ''النص الأدبي لدى الأديب معمر القذافي'' وشارك فيها من الجزائر الناقد أحسن تليلاني بمداخلة عنوانها: ''فن السخرية في أدب معمر القذافي''· لقد حرص الكثير من أصحاب الأسماء الكبيرة التي شاركت في تلك الملتقيات على التأكيد أنهم تناولوا النص بعيدا عن صاحبه، وفي سياق غير هذا السياق، ومع بداية الثورة في ليبيا وتورط ميليشيات القائد في جرائم ضد شعبه، سارع البعض إلى التبرؤ من الزعيم واتخاذ موقف مناهض لتلك الجرائم، كما فعل الروائي إبراهيم الكوني والناقد المصري جابر عصفور، ومثلما يفعل الروائي واسيني الأعرج الذي كان من الموقعين على بيان للكتّاب الجزائريين يدين المجازر المرتكبة في حق الليبيين، بل وأعلن تضامنه مع الشعب الليبي من على صفحته في موقع ''الفايسبوك''، وهو يتبنى صورة العلم الليبي القديم المناهض لجماهيرية القذافي· غير أن معظم الذين دخلوا خيمة القذافي من أدباء ونقاد ''كبار'' التزموا الصمت المطبق والصمت ليس حكمة في الكثير من مثل هذه المواقف·