حرب أهلية طاحنة فرضها العقيد معمر القذافي على الشعب الليبي، نتيجتها، إلى حد الآن، أكثر من ستة آلاف قتيل، وتدهور الأوضاع الغذائية والصحية إلى درجة تنذر بكارثة إنسانية، زيادة على مئات الآلاف من النازحين، ومشكلات على الحدود مع مصر وتونس، تتفاقم يوما بعد يوم، تضاف إلى ما خلفتهما الثورتان فيهما من أعباء· وقد تصل الأمور إلى النتيجة نفسها على الحدود مع الجزائر وتشاد، كما تصل الأزمة إلى السواحل الإيطالية ومنها إلى كل دول شمال البحر الأبيض المتوسط· وحسب المعطيات القليلة المتوافرة، فإن ليبيا توشك أن تتحول إلى صومال جديد وبقوة نارية مضاعفة، بالنظر إلى السرعة الفائقة التي انتشرت بها أنواع عديدة من الأسلحة· وككل مرة بدأ الكلام عن تدخل عسكري أجنبي لحماية المواطنين من بطش الديكتاتور الذي لم يتورع في استخدام الطائرات والمدافع والدبابات لقمع تظاهرات سلمية· ولكن الولاياتالمتحدةالأمريكية، دركي العالم، مترددة، على الرغم من أنها لا تستبعد كل الخيارات· ولا تزال، إلى اليوم، مترددة على الرغم من أنها حركت بوارجها باتجاه المتوسط، فيما يبدو أنه تأهب للتدخل في أية لحظة يتخذ فيها القرار السياسي· كيف يفسر التردد الأمريكي؟ يجب أولا استبعاد مسألة الخلاف مع حلفاء الولاياتالمتحدة، مثل فرنسا وألمانيا وتركيا··إلخ، فالتاريخ يشهد أن الأمريكيين لا يستشيرون أحدا، لا الحلفاء، ولا هيئة، ولا مجلس الأمن مثلا، عندما يقررون تشغيل مدافعهم، كما حدث في العراق· الأمر الثاني أن بعض الأمريكيين يستبعدون تدخلا عسكريا في ليبيا خشية أن يعاد سيناريو العراق، كما قال الجنرال الأمريكي فانسان ديبورت لجريدة ''لوموند'' الإلكترونية: ''بعد الوحل العراقي والأفغاني، ليس للأمريكيين أية مصلحة في مستنقع جديد··''، وأضاف الجنرال نقلا عن كولين باول: ''عندما تدخل محلا لبيع السيراميك ويحدث أن تتسبب في كسر قطعة، فإن الشظايا تصبح من نصيبك· والحل الوحيد لكي لا تبقى في المحل أن لا تدخله من البداية''· ومع ذلك فإن تدمير العراق بالكامل وقتل أكثر من مليون عراقي، لم تمنع الأمريكيين من السيطرة التامة على اقتصاد البلاد، والاحتكار التام لحقول نفطه الكبيرة، وأكثر من ذلك إقصاء الغالبية العظمى من الشركات الأوروبية وبخاصة الفرنسية التي كانت تحوز على نصيب الأسد في السوق العراقية أيام حكم صدام حسين· وبالنسبة إلى الحالة الليبية، فمن المعروف أن أكثر من ثمانين في المائة من البترول الليبي يصدر إلى أوروبا، والجزء المتبقي إلى الصين، وأن كبريات الشركات البترولية الأوربية، مثل ''إيني'' و''بي·بي'' و''توتال'' وغيرها تعمل في ليبيا منذ وقت الحصار، يضاف إليها شركات صينية وحتى الروسية ''غاز بروم''· ولم تبدأ الشركات الأمريكية في دخول هذه السوق إلا بعد رفع الحصار· ومن أولى نتائج تفاقم الأوضاع الأمنية في ليبيا رحيل عدد كبير جدا من الإطارات العاملة في هذه الشركات، وكلما اتسعت رقعة المواجهات المسلحة، وكلما تحولت صورة الثورة إلى حرب أهلية كلما انسحبت هذه الشركات· وأول ما يمكن استنتاجه هو أن استمرار الحرب لا يكون إلا في صالح الولاياتالمتحدة، لأنها في حاجة، كمرحلة أولى، إلى إخلاء البلاد من المنافسين الأوروبيين والصينيين والروس، قبل أن تبدأ المرحلة الثانية: دخولهم المسرح الليبي، وعن طريق القوة العسكرية، إن اقتضى الأمر· وبطبيعة الحال، فإن التدخل الأمريكي يحرص على أن يكون، هذه المرة، مختلفا عن سابقيه، وذلك من حسن قراءة الدروس· فهي تريد أن يأتي وكأنه مهمة إنسانية تقدم عليها الولاياتالمتحدة من باب واجبها كأكبر قوة عسكرية وسياسية تتحمل مسؤولياتها أمام ما يتهدد العالم من حروب وقلاقل، وتقوم بها بعد الضغوط التي مارستها عليها مختلف المنظمات الإنسانية غير الحكومية، بعد أن ثبت بالدليل أن الشعب الليبي يتعرض لحرب إبادة حقيقية، وبعد ما أثبتت محكمة الجنايات الدولية أن العقيد القذافي وأبناؤه متورطون في جرائم ضد الإنسانية· وتقوم بها ثالثا نزولا عند رغبة حلفائها· وفي آخر ما سمعنا من أخبار أن فرنسا وبريطانيا اتفقتا على مساندة مشروع فرض حضر جوي على سماء ليبيا· وتقوم بها أخيرا نزولا عند رغبة المعارضة الليبية· وتتحدث الأخبار عن دعوة وجهها المجلس الوطني المعارض إلى القوى الكبرى لتوجيه ضربات إلى قوات معمر القذافي· ومع ذلك فسيبقى الأمريكيون مترددين، لأن تعفن الأوضاع يحتاج إلى وقت أكبر، ولأن الأمريكيين يحتاجون إلى غطاء شرعي من الأممالمتحدة· ويبدو أن الاتفاق الفرنسي البريطاني تمهيد فقط لطرح المسألة على مجلس الأمن· وحينها لا تبقى سوى العقبة الصينية والروسية، ولا نعتقد أنهما مستعدان لاستعمال حق الفيتو، في مسألة أحكم الأمريكيون نسج خيوطها وتغليفها بالعباءة الإنسانية· ومن سوء حظ القذافي، وهو يعكس صورة السفاح المجنون، ألا أحد يصدقه وهو يتكلم عن مؤامرة أمريكية للاستحواذ على البترول الليبي، مثله مثل فيدال كاسترو الذي لا تحمل تصريحاته إلا على محمل عدائه التاريخي لبلاد العم سام· وفي ثنايا هذه اللعبة الدولية الكبرى، يدفع شباب ليبيا أرواحهم من أجل حرية وديمقراطية قد لا تأتي أبدا· نعم: إن الأمر يتعلق بثورة شعبية على طاغية جبار، ولكنها ثورة اصطدمت بمصالح طغاة جبابرة من نوع آخر· ولا يستبعد أن يكون هذا الاصطدام منظما، ومخططا من زمن، وبالتواطؤ مع مسؤولين ليبيين في أعلى المستويات· يشهد على ذلك ما هو معروف منذ مدة، من العلاقات التي نسجها سيف الإسلام القذافي مع الأمريكيين· ومن المحللين من لا يستبعد أن يكون سيف الإسلام هذا وراء تسليح العديد من العناصر التي كانت في السجون بتهمة الانتساب إلى جماعات إسلامية مسلحة، وهي العناصر نفسها التي يقصدها معمر القذافي عندما يصر على اتهام القاعدة· ويشهد على ذلك أيضا السرعة التي تم بها انتشار السلاح، كما قدمنا، مع القدرة على استعماله· ويشهد على ذلك أيضا الانتشار الواسع للأعلام الملكية بما يوحي أنها كانت محضرة من مدة طويلة، وفي ذلك ما فيه من أوجه الشبه مع ما يعرف بالثورات الملونة التي ثبت تورط الأمريكيين في تنظيمها في مجموعة من البلدان مثل أوكرانيا وجورجيا· والاختلاف بين حالة واحدة يكمن في التوقيت الذي يختاره الأمريكيون للتدخل· من الحالات ما يكون من اختراعهم، ومنها ما يكون استغلالا لأزمة داخلية حقيقية، كما هي الحال في ليبيا، بل وفي كل الأزمات التي يمر بها حاليا العالم العربي· كما أن نوعية التدخل تختلف بين كل حالة وحالة· من الأفضل أن يكون التدخل سياسيا دبلوماسيا ''سلميا''، مثلما يحاولون في مصر وتونس، ولكنهم مستعدون لحملة عسكرية إذا اقتضى الأمر في ليبيا·