لقد قام الهاجس الفلسفي الأخلاقي في الجزائر على قيم التواصل المعرفي منذ أن بحث المفكر عبد الله شريط (الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون) سنة 1972 ليوضح دور تراثنا الفكري، وكيف نقرأه؟ لأن ''هذا الإنسان العربي لم يتغير كثيرا عن ذلك الذي وضعه ابن خلدون أمام أعيننا منذ سبعة قرون، ولكننا لم نشاهده بعد، لأن الإنسان الآخر الأوربي شغلنا عن مشاهدته كما هو في واقعه اليوم، وكما لم يتغير عما كان عليه منذ قرون، وهذه عصرية ابن خلدون إلينا''، وهذه الرؤية لا تستسلم لنظرية السبق الزمني وما قد ينتج عنه من أمرض نفسي، تصبح الضرورة عائقا أمام الحقائق العلمية المتطورة والمتغيرة باستمرار، لأن عبد الله شريط في مقدمة دراسته يشيد بدور المنهج العلمي في العلوم الإنسانية باعتبارها تكشف عن قوانين سلوك الناس أفرادا وجماعات، وبإمكانها أن تحررنا من العادات الفكرية التي تعطل التحليل الموضوعي للمواقف، ولهذا الغرض سعى إلى ''إدخال الفكر العلمي، إلى حياتنا الأخلاقية وإلى أن نخرج بها من الأسلوب البدائي الذي ظلت تعيش فيه إلى اليوم، وهو أسلوب الوعظ الساذج وإسداء النصائح اللفظية، والفخر بالماضي، غير متفطنين إلى أن هذا الأسلوب لم يعد يؤثر في أجيالنا الحديثة التي تكون عندها فكر رياضي ولم تعد تتأثر حتى في المسائل المعنوية والأخلاقية، إلا بما نزع نزعة علمية، وتتماشى مع هذا الفكر العلمي الذي يطغى على العلم الحديث''· وفي هذا السياق النقدي، كانت عودة عبد الله شريط إلى ابن خلدون باعتباره قدوة ومعلما حقيقيا، لعله يجنبنا أخطاء تقليد البحوث الأخلاقية الغربية، وهي كالتالي: أولا: ''إننا نكرر الخطأ الذي وقع فيه الفارابي وابن سينا وإضرابهما في تقليدهم للباحثين اليونانيين حتى غفلوا عن مجتمعاتهم التي لا علاقة لها بمشاكل المجتمع اليوناني، وهذاما نبّه إليه ابن خلدون في غير موطن· ثانيا: بتقليدنا للبحوث الغربية لا نقنع بالمنهج فقط، بل نأخذ بالمنهج ومحتواه·· وهذا ما جعل القطيعة مستحكمة بيننا وبين مجتمعنا، وما جعل جهودنا عقيمة لا تفيده في تقدمه ولا تعنيه على حل مشاكله''· بهذه الرؤية التنويرية فكك سيكولوجية التعالي أو التشكل الكاذب للأنا عندما ميّز بين ما كتبه عالم اجتماع عن أمته الفرنسية قائلا: ''إننا نرغب دائما في تغيير النظم ولكن إرادة الأموات تأبى علينا أن لا نغير غير الألفاظ والظواهر، فنحن لا نبصر حتى الوهم الذي نذهب ضحيته·· إن وراء هذه الظواهر التي نرغب في تغييرها دائما لا نجد أي اختلاف بين النظام القديم والنظام الذي أسفرت عنه ثورتنا الكبرى التي لم تصنع غير إدامة التقاليد الملكية من غير قصد''· وما ذكره كاتب إسلامي ذائع الصيت، وأفكاره واسعة الانتشار عندما زعم بأننا ''نملك تصورا عن الحياة أكبر مما يملك أتباع أي دين أو فلسفة أو حضارة··'' القيم العملية عند عبد الله شريط في الخمسينيات، كتب عبدالله شريط في مجلة (الفكر) التونسية عن الثورة ومفاهيمها، ناهيك عن مقالات عديدة في جرائد مختلفة بإمكانها تفسير عوامل وجوده الفكري، وشرعية رؤيته الفلسفية، وانعكاس ذلك على ممارسته الثقافية، إذ قال: ''التفكير الثوري والروح الثورية، والتكوين الثوري، هو أن تثور على نفسك قبل كل شيء وتوجه سلوكك في الحياة طبقا للمبادئ التي تستند عليها في انتقادك للمجتمع وثورتك عليه''، وهذه التجربة السقراطية، ستعمل على تأكيد أنه ''من ثار على نفسه، وعلى نقائصها، وأطماعها لا يمكن أبدا أن يثور على المجتمع أو يحتقره، إنه عندئذ يفهم أن نقائص المجتمع هي عراقيل في طريق تقدمه، وليس عيوبا يستخف عليها الإحتقال''· إن هذه التوجيهات سنجد مضامينها في مقالات نهاية الستينيات التي اشتمل عليها كتاب ''من واقع الثقافة الجزائرية'' عندما قال لأساتذة اللغة العربية ومعلميها: ''يجب أن يثوروا على أنفسهم''، بمراجعة ''الأساليب التي تعلموا بها هم العربية وأن لا يطبقوها في تعليم العربية لأبناء اليوم''، وذلك برفع ''المستوى الثقافي في ميادين علم النفس والتربية الحديثة وفي التاريخ العام وتاريخ الأدب وتربية الذوق الجمالي، وأخيرا بتعلم لغة أجنبية يطلون منها على تجارب وعقليات الأمم الأخرى في عصرنا الحديث''· وفي هذا السياق التنويري، يتحدث عن طريق التدريس، وأساليب التبليغ، وبرامج التعليم بما يتلاءم مع اجتماعية المعرفة والمنهج الإجتماعي، فيخاطب أولئك الذين يثورون على ''لغتنا المختلفة بلغة غيرهم الراقية''، فإن أولى لهم أن يفعلوا ذلك ''باللغة نفسها التي يعالجون شؤونها، فيبرهنون بذلك على أنهم ثوارا حقا، لأنهم يثورون·· على أنفسهم قبل كل شيء''· يبدو أن مشكلة بناء الإنسان وإعادة الإعتبار للتفكير هي من أهم القضايا التي اشتغل بها عبد الله شريط ليواجه سلطة التخلف، ووثوقية الأحكام بواقعية تدفعنا إلى الطرح الموضوعي للقضايا والمشاكل، والطرح الموضوعي لها يدفع إلى مواجهتها بأسلوب منهجي، والمنهجية أعمق ثورة عرفتها الإنسانية إلى اليوم، لأنها الوحيدة القادرة على تعليمنا شيئا جديدا''· لقد ظل عبد الله شريط خادما أمينا للمجتمع، لا أميرا صغيرا يحتقره، فوضع ''مواهبه وأوقاته في تكوين الآخرين'' من خلال تأسيس قسم الفلسفة باللغة العربية موازي لقسم الفلسفة بالفرنسية'' خلال السنوات الأولى للاستقلال والانخراط في الحياة الثقافية للعمل من أجل المعرفة والحوار لأنه ''حوار جديد ميز فيه بين أولئك الغرباء ''عن الجماهير الشعبية، وأولئك الذين تنقصهم ديناميكية الثقافة المعاصرة'' عندما أثار سؤال الحضارة والثقافة العربية، إن كانت موضوعة للحوار بين المثقفين في الغرب، فتجاوز بذلك الوعي الزائف لدى ''الذين يستعلمون اللغة الفرنسية في معالجة شؤون الشعب الثقافية'' والمثقفين بالعربية، باعتبارهم جميعا ضحايا من حرمهم من لغة شعبهم وثقافتهم ومن مدارس وطنية تعلمهم ثقافة حية بلغتهم· ومثل هذه الاستراتيجية الفكرية تقوم على إثارة ''مشاكلنا الثقافية بوضوح·· لأن طرحها بوضوح هو الذي يعيننا على أن نعثر على حل صحيح في النهاية''، وهذا ما يفسر انتصار عبد الله الشريط لمبدأ تكامل المعرفة، لأنه لا يستطيع أن يتصور كيف يمكن أن تنقطع العلاقة بين الفلسفة والأدب وبين الفيلسوف والمهتم بشؤون الأدب والفن؟ وفي هذه الدائرة ''يلتقي مجهود المؤرخ والفيلسوف على صعيد واحد·· لأن مهمة المؤرخ أن يفهم الماضي فهما جديدا، وفي فهمهم هذا يصبح التاريخ منظارا يستشف منه الفيلسوف المستقبل''، هذا التنظير الإيجابي للتربية كانت وستبقى كتابة (عبد الله شريط) في مجملها بيانا للتفكير ليس باعتباره فريضة، كما كتب محمود عباس العقاد، لأنها قد تكون من ناقلة السلوك، ولكن باعتبارها مسألة اجتماعية لأن ''العصر الذي نعيش فيه، ويعيش فيه رجل الدين ليس عصر التجريدات والمفاهيم المطلقة''· إن فلسفة عبد الله شريط باعتبارها ''نظرة أصلية للواقع ودعوة ملحة للتغيره'' تعي عوائق نفوذها في المجتمع، لأنه ليس من السهل إقناعه بأن ''الخبز والكتاب مرتبط أحدهما بالآخر'' لأن ''المعطلات الخرافية والإنفعالية'' تؤكد على حالتي اغترابه وتخلفه، ومع ذلك يظل يؤمن به كشعب ''يتأثر بالخير فيندفع فيه بدون تحفظ إلى درجة التضحية بكل ما يملك دون حساب إذا رأى قادته يتقدمون صفوفهه في الضحيات وكذلك يفعل في الشر إذا وجد قادته يتقدمون صفوفهم إلى الشر''، وهذه الحقيقة لم يدركها صاحب المقال ''عبقرية الشعوب'' في جريدة المجاهد (8 / 10 / 1979) لأن ''مسألة المثل الأعلى·· عند المثقف فكرة، فهي عند الرجل العادي سلوك شخصي''، فكانت عند عبد الله شريط موقفا ''لأنه وضع نفسه في مستوى مصلحة مجتمعه'' عندما عمل على تفكيك العداوات المصطنعة'' وإبراز إنسانية تراث الشعب من قيم ''المساواة والعدالة ومقاومة الطغيان والتفسخ'' واقتراح الحلول وشروط تطبيقها بحكم أن التنمية الحقة في ''نقل المعرفة، لا نقل المصانع'' وبذلك استحق عبد الله شريط لقب ''مثقف المجتمع''، لأنه في كل الحالات سيطر على مادته الثقافية وتصرف فيها وغيّرها مع الحياة، لقد آمن بأن ''القول مهما كثر فلن يقوم مقام العمل مهما كان قليلا''، وبهذا الأسلوب أعاد النظر في تاريخ التخلف، وتفسير أسباب تأخرنا ''لأننا لم نواكب الخط الثقافي لعصرنا كما كان أجدادنا مواكبين لثقافة عصرهم''، وبالتالي يصبح دور المثقف يكمن في ''إيقاظ الاهتمام بعملية نقل الأفكار والمبادئ إلى السلوك في العمل اليومي''· وعلى هذا الأساس، لم تعد المسألة الثقافية عند عبد الله شريط تقتصر على المقالات الصحفية والمحاضرات والأحاديث والمناقشات، وإنما العمل من أجل الحراك الإجتماعي للثقافة كما تقتضي علوم ومناهج العصر· على العموم يمكن تحديد خصائص التنوير عند عبد الله شريط من خلال الأفكار التالية: أولا: إعادة الاعتبار للإنسان وأبعاده النفسية والإجتماعية والتاريخية· ثانيا: التأسيس الدائم لتكامل المعرفة والعلوم واللغات· ثالثا: ضرورة التمييز بين المثل الدينية والتنظيم الإجتماعي· رابعا: العمل من أجل حوار بين المجتمعات الغربية والمجتمعات الثالثية· للموضوع هوامش