تعيش ليبيا الشقيقة اليوم أخطر الأزمات التي عرفتها منذ استقلالها، فهذه الانتفاضة اليوم هي بمثابة زلزال حقيقي، فقد صرخت ليبيا الشقيقة بكل غضبها الذي عمّ البلاد كموجة عاتية وكادت أن تجرف كل شيء أمامها. إن قوى الأمن الهائلة والمدججة بالسلاح وجدت نفسها عاجزة عن إيقاف المد الشعبي، أما السلطة التي استولى عليها الرعب فلم تجد ملاذا غير أمر الجيش بإطلاق الرصاص الحي على الأكف الممدودة والصدور العارية، بل إنها لم تتردد في أن تقصف بالمدافع النساء والرجال والأطفال في موجة قمع أعمى وهمجي قليل النظير، ولقد انحسرت هذه الموجة اليوم مؤقتا، لكن الأسباب التي كانت وراء اندفاعها مازالت قائمة، والمشاكل التي آثارتها لم يسو منها مشكلة واحدة. والأدهى من ذلك، فقد أضيفت إليها دماء الأبرياء التي أريقت على أوسع نطاق، بإطلاق الجيش الليبي النار على شعبه، وبلغ به الأمر حد ممارسة التعذيب في أشكاله الأكثر بشاعة وانحطاطا، لقد خرج الشعب الليبي من الكابوس الرهيب بندب فاجع، ومنذ الآن يغلي صدره بغضب مكظوم، فلن ينسى أبدا هذه المشاهد المرعبة التي عاشها ولن يقر له قرار حتى ينظم نفسه ويعمل على اجتثاث هذا العفن الذي طرأ على جسده الاجتماعي إلى الأبد. لقد أكمل هذا القمع الهمجي القطيعة بين نظام منجب للضحالة والعنف، وشعب معتز ظمآن للحرية والكرامة والتقدم جعل من مطلب الديمقراطية واحترام سلامة الإنسان وحقوقه راية المعركة. إن هذا الخطاب حاضر اليوم في كل مكان في ليبيا وبين جميع الطبقات الاجتماعية وعلى جميع المستويات، لقد استطاع الشعب الليبي الشقيق بفضل عبقريته الضاربة الجذور أن يربط العلاقة مع تقاليده في الكفاح التي أثارت في وقت ما عجب العالم وإعجابه ودشن شكلا جديدا من أشكال الفعل الثوري محتلا جميع مجالات التعبير الممكنة مبدعا انتفاضة، معيدا الأمل إلى نفوس الشعوب وزارعا الرعب في قلوب الطغاة. إن هذا انتصار لا ريب فيه، لكن نتائجه تبقى هشة فلا بد إذن من تعزيزها لجعلها نهائية ولا رجوع فيها. في البداية وجد النظام نفسه وقد تجاوزته الأحداث، وفي موقف دفاع حاول استرجاع الخطاب الديمقراطي لإجهاضه وإفراغه من محتواه. وإذا كان اليوم قد تبناه، فذلك ليجعل منه مجرد كلمة فارغة ويفسده تماما كما أفسد الخطاب حقوق الإنسان، وهذا ما جعل الشعب الليبي يشجب هذا التضليل وتوضيح النقاش لمستقبل ليبيا، كما أنه على الليبيين أن يحلوا عقد الخيوط التي حاكها النظام، وأن يضع الليبيين معالم وصور على الطريق التي ينبغي أن يتبعوها لإعادة صياغة المجتمع المدني وإعادة بناء شرعية طالما ضرب بها الحاكم عرض الحائط، وعليهم أخيرا أن يجعلوا الليبيين والليبيات سادة مصيرهم. إن الطريق وعرة وملأى بالفخاخ تنتظرهم، لذلك فهم في أشد الحاجة لرؤية واضحة ووعي صاحٍ لإرادة لا تتزعزع لإتمام المسيرة بنجاح كلما ابتعدوا عن هذه الأحداث، حيث سيلاحظون أن جميع ممارسات القادة السياسيين الأساسية تشير بوضوح إلى نواياهم الخبيثة الرامية إلى إعادة إقفال أبواب النظام ليعود كما كان قلعة لا يعرف الشعب ما يجري داخلها. إن اختيار الرجال الذين أوكل إليهم تسيير الحكومة أو مصالح الأمن المختلفة يدل دلالة واضحة على هذا الإتجاه. لا شك أن ليبيا ستعيش أوقاتا صعبة، وذلك أن الأنظمة الدكتاتورية تمتلك وسائل هائلة لتأمين عمر أطول، والأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة التاريخية التعيسة كثيرة -مع الأسف- نذكر من هذه الوسائل مثلا التعتيم الإعلامي المنظم والرقابة الصارمة على الكلمة والفكر والتشويه المقصود للمفاهيم المتعلقة بما هو جوهري وبما هو قوام كياننا ذاته وأيضا توزيع الرشاوى التي تنشر العدوى في الأفكار والضمائر والنفوس.. كل هذه أدوات قوية يستخدمها النظام في ليبيا لإبطاء مسيرة الشعب الليبي إلى الإمام، أضف إلى ذلك -بطبيعة الحال- التواطؤ النشط بل المناضل -إن جاز القول- من قبل محيط دولي مصمم على الإبقاء على مصالحه الأمبريالية وتأييد حق البكورة الإقطاعي الأمبريالي المعاصر الرامي إلى إبقاء الشعب الليبي في وضع دون أمل في الخلاص في وضع البلد التابع للسيد الإقطاعي المطاع. إن الخسائر ليست محصورة في المجال الاقتصادي وحده، بل إنها الأكثر فداحة في المجال الإنساني، فطوال السنوات الماضية مارس النظام الليبي سياسة عبثية وإجرامية هدفها تنفير الجماهير السياسية وجعلها غير عائبة بالمصلحة العامة، وخفض نوابضها الذهنية وطاقاتها الفكرية وإطفاء شعلة الحياة التي هي قوام شرط الكائن المفكر، والأدهى من ذلك إفساد مدلول القيم الجوهرية ومعانيها ابتداء من عصبية عائلة القذافي التي ظلت باقية وسط هذا الحشد الهائل من التجاوزات والامتيازات الفاحشة والمظالم. بإمكان شعب من الشعوب أن يحتمل الخصاصة والبؤس وحتى المجاعة في سبيل تحقيق مشروع سياسي عظيم، وأن يقبل بطيبة خاطر كل هذه التضحيات إذا كانت مقسمة بعدل بين الجميع دون استثناء بما في ذلك في الماضي، لكنه لا يقبل ذلك اليوم نظرا للظلم الفاحش السائد، إن هذا هو ما قاد إلى أحداث ليبيا حتى ولو كان الإخفاق الاقتصادي يفسرها جزئيا، فإن هذه الأحداث هي قبل كل شيء نتيجة تبديد الطاقات الإنسانية والاحتقار البالغ لحاجات الشعب الليبي للحرية والعدالة والكرامة الذي لم يعد يطاق. إن هذه الجاهلية الجديدة هي التي لم تعد تطاق، فالسلطة في ليبيا تدنس كل شيء تمسه، فبركت على مرّ السنين صورة للمجتمع الليبي تشكل مشهدا بائسا يحاول كل واحد فيه أن ينقذ فيه ما يستطيع إنقاذه، فالمجتمع الليبي اليوم انقلبت فيه القيم رأسا على عقب وأصبحت النزاهة والكفاءة خصلتين ممقوتتين في هذا النظام، حيث الولاء العشائري أصبح بمنزلة القيم الأكيدة الضامنة للنجاح في البقاء في السلطة، فعندما يسبح محيط بنظام لسنوات طويلة يجمد مثل هذه القيم المضادة، فذلك دليل على أن المجتمع الذي أنجبه مريض جدا وأنه على وشك أن يدب منه العفن في الصميم. لقد تمرد الشعب الليبي أولا وبالذات على مثل هذا الوضع، وبعد ذلك فقط تأتي جميع الإحباطات الأخرى وجميع ألوان الحرمان التي تحصى ولا تعد. لقد أفسد النظام الأشياء، لكن الأدهى أن الفساد امتد إلى المعنى ذاته، فالوضع سائر نحو التعقيد نظرا إلى أن النظام مصمم على عدم الانفتاح على الصعيد السياسي أي التعددية السياسية وحرية الصحافة ووجود معارضة مفصلة على المقاس غالبا كبدلة جاهزة قلما تسمح بعض الجرأة اللفظية إزاء النظام القائم، حتى هذا يرفضه النظام في ليبيا، فالنظام في ليبيا هو أبعد ما يكون عن الانفتاح على تعددية سياسية حقيقية في الآراء تسمح بتحقيق قواسم مشتركة تثري الحوار بين أبناء ليبيا، بدلا من ذلك يذهب النظام في ليبيا إلى خطاب متعال وفارغ وعقيم الذي قاد إلى هذه الأحداث. إن الانتهاكات العديدة للشرعية والنيل المتواصل للأخلاق قد جعل قلوب الذين ارتكبوا ذلك كالحجارة أو أشد. إن الامتيازات الهائلة والمكاسب غير المشروعة تغذي شراهة لدى المسؤولين، وكذلك خوفا حادا من أن يجدوا أنفسهم ذات يوم في أقفاص العدالة لتقديم الحساب على ما اقترفته أيديهم، كل ذلك يجعل النظام في ليبيا الشقيقة عاجزا عن إجراء التحويلات الضرورية الكبرى لإنقاذ البلد من الخطر المحدق، وهذا الإنقاذ هو نفسه مشروط سلفا لإعادة ثقة الشعب في قادته وتبدو الآفاق مسدودة، تلك هي المعاينة الرهيبة التي يراها الجميع في ليبيا الشقيقة، لكن الشعب الليبي الشقيق الذي قام قومة رجل واحد انطلق يمشي على قدميه وهيهات أن يقف وهيهات أن يسكت والاستخدام المفرط للقمع الذي هو الملجأ الأخير لنظام مرتبك لن يجديه نفعا ولن يغير من الأمر شيئا، ولكي ينجح هذا العمل لا بد أن يأخذ تلابيب النظام وأن يحشره في الزواية وأن يحتل جميع المجالات الحرة الممكنة وأن يوسعها وأن يخلق طرق جديدة باستمرار. ولا بد من تخيل طرق عمل جديدة ومن إقامة تضامن واسع، وهكذا فإن المجتمع المدني يستطيع على هامش النظام أن يعيد بناء نسيجه الاجتماعي والسياسي مبلورا في الوقت ذاته إطارا خصبا للتدرب على الممارسة الديمقراطية.