إن أولى الحقائق في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم العربي وأطلق عليها مرحلة التغيرات وليست مرحلة الإصلاحات، كما كانت تسمى منذ زمن غير بعيد، هي أن تنتقل الشعوب العربية فيها إلى العصر العالمي الجديد للشعوب الحية والحرة القادرة على الإمساك بمصائرها، على أن تكون المؤسسات العسكرية في العالم العربي هي موطن القدرة في فكرة الدول العربية وأساسها، وليست أداة تحت سلطات عربية قد تظهر على الساحة العربية أو أن تكون دائما في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم العربي. مرحلة التغيرات حكما فاصلا بين الشعوب العربية، أصل الشرعية ومصدرها بين السلطات الحاكمة، وهذا في حالة حدوث أي طارئ سياسي حتمي، حيث تصبح فيه الشرعية ليست في موقع الحاكم حين تقوم هذه الشعوب بنزع الشرعية عن السلطات الحاكمة وتصبح هذه السلطات لا تملك الشرعية وغير قادرة على إصدار قرارات واضحة المعالم وواجبات التنفيذ في بلدانها. وتقوم الجماهير العربية بمسك الشرعية في يدها والبحث عن قوة سياسية جديدة وناضجة تستطيع أن تمد جسرا يملأ الفراغ بين الشرعية والسلطات، هذا في وقت الكل يعرف فيه أن القوى السياسية في العالم العربي لا تبدو قادرة، فالمعارضة السياسية في العالم العربي قد ذبلت منذ السبعينيات، حيث نستطيع أن نقول إن منذ ولادتها ولدت ذابلة، فلو كانت المعارضة في العالم العربي قادرة على أن تعارض الأنظمة لما كانت هناك مظاهرات ومسيرات في كثير من البلدان العربية مطالبة بالإصلاح من قبل، واليوم ها هي تطالب بالتغيير، فالكل يعرف أن الأحزاب السياسية في العالم العربي كانت عاجزة عن إزاحة الاستعمار. أما اليوم فقد عجزت عن وقف الفساد، ولم تستطع المعارضة أن تمتلك الشجاعة لإثبات وجودها وفاعليتها وظلت على حافة الأنظمة وعلى هامشها منذ السبعينيات، أقول هذا لأن العالم كله، القريب والبعيد، والصديق والغربي، أصبح طرفا موجودا في الأزمة السياسية التي تعيشها بلداننا العربية ومؤثرا فيها، هذا في الوقت الذي أصبح فيه يرى العالم كل يوم تولد شرعية جديدة في بلد عربي معين، فأخذ يتابع وهو مبهور بحركة هذه الشعوب ولا يعرف أي شيء عن هذه الشعوب، التي هي منشغلة بما هي فيه ومستغرقة في عملية استكمال مهمتها التي أخذتها على عاتقها، وقد نادى إليها قلقها على أحوال أوطانها التي دعتها لنصرتها في وقت تراجعت فيه القوى الوطنية في كل بلد عربي. ورأت هذه الشعوب أن مستقبل بلدانها بيدها وليس بيد أحد، فالشعوب العربية اليوم حرة وهي قادرة على فعل المعجزات إذا ما تحوّلت الكلمات الجامدة (الإصلاح والتغيير) إلى أفعال حية مثل إصلاح البيوت وتعديل القوانين والمناهج التعليمية والحوار الداخلي والحوار مع الآخر وتغيير الأنظمة والمشاركة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتعميم الديمقراطية، فهذه الأفكار وهذا التحرك سيدخل حيوية وديناميكية في مجتمعاتنا العربية إذا توفرت النيات الصادقة وتضافرت الجهود من أجل تحقيق التغيير المنشود والمصالحة الوطنية في كل بلد عربي، وحل المشاكل العالقة وإزالة أسباب التخلف ومعالجة مواطن الضعف، وهذا ما يفرض قوانين لكل انطلاقة وضوابط وشروط لكل تغيير وجدول أعمال ومواعيد وآلية تنفيذ لكل خطوة حتى تحقق هذه الشعوب ما تصبو إليه: أولا: إن أي تغيير أو إصلاح يجب أن ينبع من الداخل أي من صميم المجتمعات العربية حسب خصوصياتها وأوضاعها وعاداتها وقيمها، ومع مبدأ ثابت هو عدم الخروج عن مبادئها وفرض مبادئ غريبة عن مجتمعاتها لأنظمة ومبادئ لا تستورد. فلقد عانينا خلال القرن الماضي من أخطاء استيراد المبادئ والأنظمة المعلبة والقوانين الجاهزة، فلا الرأسمالية كانت مفصلة على الجسد العربي ولا الشيوعية تماشت ومزاجات الشعوب العربية ولا الاشتراكية جلبت لهذه الشعوب الصحة والقوة والسعادة وحتى الديمقراطية الغربية التي جُربت في كثير من البلدان العربية لا يمكن أن تنجح في البلدان العربية، لأن شروطها ومتطلباتها غير متوفرة، ومن بين هذه الشروط غير المتوفرة الوعي السياسي من جهة، وعدم وجود أحزاب سياسية فعالة وقادرة على خوض الانتخابات بنزاهة، وتسلم الحكم باقتدار بعيدا عن الخصومات والمزاجات الشخصية، هذا مع عدم وجود برامج عملية واضحة متفق عليها تتناول كل مرافق الحياة العامة والسياستين الداخلية والخارجية في كثير من البلدان العربية. ثانيا: إن أي تغيير أو تعديل أو إصلاح لا يمكن أن يتحقق في ليلة وضحاها، بل لا بد من التأني والصبر، وهذا ما يتطلب اعتماد المرحلية في عملية التنفيذ لأي برامج واضحة وجداول زمنية تحدد الأولويات والنقاط التي لا خلاف عليها بين جميع شرائح المجتمعات للبدء بتنفيذها، ثم بعد ذلك الانطلاق في النقاط والقضايا المختلف فيها. ولا بد في هذا المجال أن يكون هناك تعميم للوعي وتوسيع لنطاق الحوار من المدرسة إلى العمل، إلى الجامعة، إلى المسجد وصولا إلى البيت عرين الشباب الذين تعلق عليهم آمال مستقبل الشعوب العربية. ثالثا: إن أي إصلاح أو تعديل لا يمكن أن يحقق أهدافه إذا لم يتزامن مع رفع عجلة التنمية الاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية، وحل المشكلات التي أصابت المجتمعات العربية مثل البطالة والتخلف وضعف المناهج والتعليم وعدم مواكبة روح العصر والقوانين المعرقلة للنمو والمبادرة الفردية وحرية العمل والاستثمار والقضاء على الأمية من جذورها، ولا بد من التركيز على دور الشباب في المشاركة في إيجاد الحلول والحوار، لأنهم عماد المستقبل وحملة شعلة الأمل، علما بأنهم يشكلون أكثر من 70 في عدد سكان العالم العربي، ولا بد من توفير فرص عمل لهم وبناء شخصيتهم على أساس التوفيق بين معادلتي العلم والإيمان. رابعا: أي إصلاح أو تعديل أو تغيير لا يستند إلى مبدأ العدالة وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه لا يمكن أن يحقق أي نجاح بل سيؤدي إلى الفشل والإحباط، فالعدل هو أساس الملك. خامسا: إن أي إصلاح أو تغيير يجب أن يتم بالتوافق والحوار والتفهم والتفاهم والإعتدال والوسطية وليس بالوسائل غير المشروعة، وقد قاست كثير من الشعوب العربية الأمرين خلال العقود السابقة ودفعت ثمنا باهظا وغاليا. سادسا: لا يمكن تحقيق أي إصلاح أو تغيير بمعزل عن المحيط العربي، وهذا يتطلب العمل على إصلاح البيت العربي في وقت واحد مع إصلاح البيت الداخلي لكل بلد عربي، وهذا بإتخاذ حلول للقضايا العربية وحل المشكلات والخلافات بين الدول العربية وتحقيق إتحاد عربي وبعده تحقيق تكامل إقتصادي بين المجتمعات العربية. سابعا: لا بد من الانفتاح على العالم الخارجي بحكمة ومرونة وتعقل انفتاح بأخذ شكل التدرج، حيث تتسارع خطواته مع الدول والمجتمعات القريبة منا والمتفهمة لأوضاعنا ومعرفتنا معرفة جيدة بأننا ندعو إلى المحبة والسلام والمساواة والعدل، فهذا هو الطريق طريق الخروج من النفق المظلم والسبيل الأمثل لعالمنا العربي في هذه المرحلة مرحلة هبوب رياح التغيير.