يعتبر حميد قرين من الروائيين الجزائريين الذين يعيشون حالة من الكتابة ذات الوتيرة الملتزمة، حيث يقول أن الكتابة بالنسبة له مثل حياة في دير الرهبان، يتفرغ للكتابة كلما سمح له الوقت بذلك.. في هذا الحوار يحدد علاقته بالكتابة باللغة الفرنسية، ويحاول شرح الحالة الكتابية في التعبير الفرنكوفوني ضمن المشهد الأدبي الجزائري.. ما هي العلاقة التي كونتها مع اللغة التي تكتب بها على مدار عملك الأدبي؟ ببساطة، أنا أنتمي للمدرسة الفرنسية التي انخرطت فيها منذ سن التاسعة حيث كنت أعيش في فرنسا. عشقت اللغة الفرنسية التي تعلمتها من خلال أدبائها وخصوصا شعرائها، من بلزاك، فلوبيرت، لا مارتين، شاتوبريان، ميسي إلى بودلير. أتذكر ونحن صغار، كنت وأقاربي ننظم في أوقات فراغنا حلقات نحاول فيها تركيب الأشعار ونستمتع باكتشاف شاعرية هذه اللغة. صحيح أنني لم أكن أتقن اللغة العربية أو الحديث بها، لكنني لن أقول أن اللغة الفرنسية كانت خيارا مفروضا بالنسبة لي، أتحمل تماما مسؤولية هذا الخيار وأفتخر بهذا الإرث، ولا أعتبر اللغة الفرنسية غنيمة حرب. هل هذا يعني أن الكتابة باللغة الفرنسية بالنسبة لك ليست غنيمة حرب على حد تعبير كاتب ياسين؟ تماما، لأن فلسفتي في الحياة هي تقبل ما لا يتوقف علينا دائما، وإلا سنصبح عرضة للانفصام. في نظري يجب أن نتقبل الواقع بأننا مرضى لنعالج أنفسنا. وأنا في هذا أنصاع لمنطق رواقي فيما يتعلق بفلسفة التقبل، أو كما يقال عندنا المكتوب. كاتب ياسين لا أعتقد أني سأقول ذلك في سياق تلك الفترة، على غرار العديد من الأدباء الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية مثل محمد ديب، مولود فرعون، وأنا على فارق جيلين من هؤلاء، إخترت الكتابة بالفرنسية دون أي شعور باللوم، ربما أحببت التمكن من اللغة الفرنسية التي أتقنها في الحديث حاليا لكن ليس في الكتابة، لكني أجد نفسي مرتاحا في التعبير بالغة الفرنسية. بعد جيلين من أدباء غنيمة الحرب، هل تعبر علاقة الاندماج بين اللغة الفرنسية التي تكتب بها والثقافة التي تعبر عنها موجودة؟ صحيح أنه أحيانا أثناء عملية الكتابة، أفكر بالعربية، قبل أن أتصور الكتابة بالفرنسية، ولقد بات التمرين سهلا بالنسبة لي. لا أجد أي إشكال على الإطلاق في ممارسة الإسقاط وتدوينه باللغة الفرنسية. الأهم بالنسبة لي هو تحيقيق التعبير وأن هناك أمورا تستحق أن نعبر عنها ونقولها. وكل شيء يتحدد في أصالة الموضوع، القدرة الإبداعية، وخصوصا الصدق، والأهم التمتع بهذه الثروة الأدبية مهما كانت اللغة التي نكتب بها. كيف تفسر هذا التواصل الجيلي في الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية اليوم؟ أعتقد أن هناك ثراء لا نجد له مثيل في المغرب العربي، وحتى في فرنسا، للأسف لدينا أدباء يتمتعون بقدر عال من الموهبة، وتمنيت لو يحظون بدعم من طرف دور النشر، المكتبات ووزارة الثقافة لترقية أعمالهم الأدبية وإمكانية إصدراها لإثراء المشهد الأدبي. يجب على وزارة الثقافة أن تجعل من نشر العمل الثقافي والترويج له أحد أولوياتها، وذلك بتخصيص ميزانية خاصة للترويج للأعمال الأدبية، وبالتالي تكريس الحق في الثقافة. فيما يتعلق بجيل الكتابة باللغة الفرنسية، شخصيا لا أفرق بين من يكتب باللغة الفرنسية أو بالعربية، على أساس أن الكاتب هو من ينتج عملا أدبيا، مهما كانت ميولاته وانشغالاته، وأعتبر صراحة أن الكتاب الجزائريين يتمتعون بثقافة عالية وغنية خاصة، تميزهم عمن يعتبرونهم في فرنسا أفضل الكتاب مبيعا. الكاتب بالنسبة لي، مهما كانت اللغة التي يستعملها، هو الذي يقترح كتابة واضحة وقابلة للقراءة، بروست حقق طابعا في الكتابة واضحا مثله مثل أندري جيد أو كامي، وبقدر ما تكون الكتابة مركبة، يزداد القارئ إليها اهتماما. يبقى أن الاختلاف يكمن في المواضيع المعالجة، هناك من الأدباء من يحاكي الجزائريين في مؤلفاتهم، البعض الآخر في التاريخ. كل وحسب اهتماماته، صحيح أن هناك من يبحث عن التفرد في معالجة المواضيع في كتابة معقدة لكن هذا لا يجعل منه كاتبا. الكتابة باللغة الفرنسية حاليا لا تخلق أي عقدة لدى الكاتب، وكثيرون من الجزائريين يكتبون بهذه اللغة ولا يشعرون بالعقدة حيال ذلك، يجب أن لا ننسى أن كُتابا من هذه الفئة الذين صنعوا مجد الأدب الجزائري من محمد ديب إلى جون الموهوب عمروش، المهم ليس اللغة بل الصدق في الإبداع سواء نثمنه أو لا، فهو ينخرط ضمن مسار جزائري محض. إذل كانت العلاقة مع اللغة في الجيل القديم تاريخية، كيف تفسر تبني هذه اللغة من طرف جيل ناشئ من الكتاب الجزائريين؟ ببساطة لأن هؤلاء الكتاب الشباب لا يجدون أمامهم نموذجا أدبيا في التعبير باللغة العربية، خصوصا عندما نرى هذه التفرقة الفادحة بين الأدباء الجزائريين في كلتا اللغتين. أستغرب حين أرى الحصص الثقافية للقناة الجزائرية الناطقة بالفرنسية تستضيف أدباء جزائريين باللغة الفرنسية، والعكس كذلك بالنسبة للقناتين باللغة العربية. وكلتا الدائرتين الفرانكوفونية والعربية تروج لأدبائها غير الأدباء الآخرين، على أساس فرق اللغة، وهذا أمر غير مقبول، من الطبيعي جدا أمام هذا التفريق أن يظهر جيل جديد يغذي رغبته في الكتابة بإحدى اللغتين في ظل غياب النموذج الأدبي والترويج له باللغة الأخرى. هل تتصور مستقبلا على الأمد الطويل لهذا الأدب الجزائري باللغة الفرنسية؟ أجل، مستقبل أبعد من الأدب باللغة العربية حتى، والسبب أرجعه إلى اندفاع حركة التيار الفرانكوفوني في سياق عالمي، على حساب سياسات الدول العربية مجتمعة، يكفي أن أذكر مثالا واحدا عن الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، الذي يستقبله سفراء فرنسا في كل بلد بدل أن يستقبله السفراء الجزائريون. وأتساءل لماذا هذه التفرقة والحكم على الأدباء حسب اللغة التي يكتبون بها أو توجهاتهم السياسية وعلى حساب موهبتهم. يجب أن نتوقف عن الحكم على أدبائنا على أساس مواقفهم السياسية، بل بما يقدمونه من رؤية وموهبة فكرية. كيف يتموقع القارئ حيال الكتابة في اللغة الفرنسية؟ أجد أن القارئ أحسن من الصحفي، فهو يتتبع بدقة مسار العمل الأدبي بتمعن وتوسع أكثر من البحث الصحفي الذي يتقيد بسرعة الملاحظة. يجب أن نعترف بافتقارنا لأدب حقيقي، خصوصا وأن الصحافة الثقافية تعاني التهميش، وليس في الاهتمام الذي يجدر أن تحظى به في قاعات التحرير حيث تعتبر الصفحة الثقافية العجلة الخامسة للمركبة. عرف المشهد الأدبي كذلك جدالات حول استعمال اللغة الفرنسية وسط تبادل الاتهامات بين الأدباء بالعقدة الاستعمارية، هل مازال هذا الجدال قائما في السياق الحالي؟ شخصيا أدخل هذا الموضوع في سياق الكره بين الكتاب، الكتاب يكرهون بعضهم بعضا والتاريخ أكد لنا ذلك مرارا وتكرارا، حيث يصبح بعض الكتاب عرضة لانتقادات لاذعة وتهكمات من طرف غيرهم من الأدباء وهذا راجع لاعتبارات ذاتية محضة ليس أكثر. فبغض بعض الكتاب المعربين للفرانكوفونيين راجع في غالب الأحيان لاعتبارات سياسية وإشكالية متعلقة بلغة التواصل، وكأنها طريقة لاستقطابهم نحو وضعهم، ربما كذلك وسيلة نداء واستنكار لتجاهلهم. بالطبع هذا الوضع لا ينطبق على جميع الأدباء المعربين مثل أمين الزاوي، أو أحلام مستغانمي، كتاب ذوو طبيعة مركبة مثل، رشيد بوجدرة الذي كتب بالعربية، أو احميدة العياشي الذي لا يدخل ضمن قائمة الأدباء الذين ينخرطون في هذا الانشقاق الذي لا يمثل اليوم إلا آثار السير العربي البعثي. عموما الكتابة الأدبية اليوم تقاس وفق نوعية الأدب المقدم.