في لحظة تاريخية حاسمة، بينما كانت أعين العالم موجهة إلى مكان واحد، وكانت جميع الألسنة تتحدث عن موضوع واحد، فتحتُ دفتري لأباشر كتابة مقال يوم الغد. لقد سقطت الورقة رقم 13 من الرزنامة المكتبية الجديدة، وحلت الورقة رقم .14 يا لهذه الجمعة العاصفة.. يا لهذا ال يناير الممعن في الغضب والتمرد.. يا لهذه السنة 2011 الحبلى بالانتفاضات والتناقضات والجنون..! هل من حكمة تستحق القراءة هذا اليوم!؟ دعنا من الحكم فالعالم على وقع الحدث: (انتصار الشعب التونسي والرئيس يغادر).. بعد ساعة كنت قد أنهيت كتابة مساهمتي للجريدة وأرسلتها. أظن أنني قد استهلكت مخزوني القديم. وعلي التفكير بالآتي. بعد أسبوعين سقطت ورقة أخرى من الرزنامة وحلت الورقة رقم 28 من شهر يناير. كتبت على صفحتي في الفيس بوك: (أرجوكم لا تهنئوني بذكرى ميلادي هذه.. إنني لا أستلطف أعياد الميلاد).. ورحت أتابع الأحداث. يوم جمعة أيضا والأخبار تقول: مصر.. مواجهات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين في مدينة السويس.. إحراق جميع مراكز الشرطة في الإسكندرية وانسحاب الأمن من المدينة بعد الفشل في قمع المتظاهرين.. حرق مقر الحزب الوطني وإتلاف جميع صور حسني مبارك في مسقط رأسه ب(شبين الكوم) بعد أسبوعين أيضا، سقطت ورقة أخرى من الرزنامة وحلت تلك التي تحمل الرقم 11 من الشهر الثاني. يا لهذا الخبر المدوي: مبارك يتخلى عن رئاسة مصر ويكلف الجيش بإدارة شؤون البلاد!.. أهو يوم جمعة أيضا!؟ بلى إنه كذلك.. طيلة هذه الأحداث كنت لا أزال كل يوم؛ أفتح دفتري وأباشر كتابة مقال (يوم الغد). ماذا يعني أن يكتب الأدباء والشعراء والمفكرون العرب، مقالات وقصائد وقصصا وأبحاثا، بنفس مطمئنة راضية وهنيئة، بعد كل هذه الجُمعات العارمة المتفجرة!؟ ألا يحبون أن تظهر في نصوصهم بوادر عاصفة صغيرة تليق بالزمن الذي يعيشون فيه.. ألا يحبذون حدوث اختلال في دورتهم الإبداعية!؟ إنهم يكتبون ويكتبون.. فحسب. المزيد من الفوطات لتجفيف الحبر السائل. إنهم يكتبون كل يوم ويزورون الصيدليات كل يوم؛ رفضهم ثابت.. رفضهم للعالم ثابت، كرضاهم على أنفسهم ثابت أيضا. ألا يتحملون مسؤولية الإجابة عن السؤال التالي: ماذا بعد.. بأي كلمات سنواجه (يوم غد) هذا..؟ إن العالم يتغير حولنا يا أصدقائي، ونحن لا نزال، مثل ربات البيوت، نقلب أوراق الرزنامات، كل يوم، نفتح دفاترنا كل يوم ونشرع في ممارسة فعل الكتابة الروتيني. ملاحظة هامة، إشارة، توضيح، توبيخ، هامش، سطر، عنوان، نقطة نظام، انحراف، استفسار، شعار، لافتة، حكمة، قصيدة، مقدمة، خاتمة، خبر، نوطة، فاصلة، فكرة، ذبابة، إحداثية، إشهار، روث، تشهير، شهرة، رزنامة خاصة بالرياضة، رزنامة خاصة بالسياسة، رزنامة خاصة بالأدب.. بقلة الأدب، وأخرى خاصة بالشعر وبالدورة الشهرية. والحاصل لدينا أننا فيما بعد 14 يناير.