"الفرانكوفونيون سبب إفلاس البلاد ويد التنصير في الجزائر" كان اللقاء الذي جمعني بالدكتور عثمان سعدي في وقت متأخر من الليل بعد صلاة المغرب هو من حدده، في البداية استغربت الأمر ظنا مني أنه سوف يحرج الرجل في بيته، ولكن تعرفت منه فيما بعد أنه لا ينام إلا على الساعة الثانية بعد منتصف الليل، عاكفا على قراءة الكتب في عزلة فرضها عليه القدر الذي أخذ منه رفيقة دربه التي فارقته إلى دار الآخرة منذ أكثر من عشر سنوات، كما أخبرني به سعدي ونظرات عينيه توحي فعلا بلوعة الوحشة للخليلة التي كتب في شأنها رواية بعنوان "دمعة على أم البنين"، وهي أشبه بمرثية تروي قصة إمرأة كانت مثالا للزوجة والأم حيث تخلت عن طموحها في التعليم لتربية الأولاد على القيم الوطنية والإسلام، ولم يكن ذلك ليذهب هدرا بل هؤلاء الأولاد البررة هم كذلك وقفوا بجانب أمهم، لما وقعت فريسة لمرض السرطان الذي قاومته بكل صمود وصبر إلى أن لقيت ربها راضية مرضية. لقد وجدت نفسي ودون ترتيب مسبق مضطرا للبداية بهذه المقدمة، قبل الدخول في فصول الحوار، لأن شعورا بالشجن قد تملكني، حينما رحت استمع للدكتور سعدي وهو يتحدث عن زوجته في هذا السن المتقدم من العمر، ومع ذلك لازال صلبا وشرسا في دفاعه عن قيم الوطنية والعروبة والإسلام، ضد اللوبي الفرنسي الذي هو أساس البلاء الذي لحق بنا منذ الاستقلال الذي سرقوه، من أجل خدمة المستعمر حتى وإن غادر التراب الوطني وهذه في اعتباره الذي نتقاسمه معه جميعا ردة لا بد لها من منقذ قبل فوات الأوان. وكما جرت العادة دعونا ضيفنا ليقدم نفسه وستطلعون فيما بعد على أهم المعارك التي خاضها ضد هؤلاء "العملاء الذين باعوا شرفهم وعرضهم للأجنبي وخانوا أمانة الشهداء". اسمي عثمان سعدي من مواليد عام 1930 في دوار ثازبنت بولاية تبسة، بمشتى أولاد مسعود، والدتي أنجبت ولدين وأربع بنات، أحد الولدين شهيد والثاني وهو المتحدث مجاهد، واثنتان من الأربع بنات أرملتا شهيدين تركا لهما 12 ولدا وأنا وبكل شرف تكفلت برعايتهم بعد الاستقلال إلى أن تخرج منهم الطبيب والمهندس و...، والدتي لما عرف أحد الضباط الفرنسيين أنها أم عثمان وسليمان أخي، ضربها بعقب البندقية على بطنها فأحدث لها فتقا وبعد الاستقلال سنة 1963 أتيت بها من الدوار( ثازبنت) إلى مستشفى مصطفى باشا ولما قرر الجراح السوري إزالة الفتق، ولما أدخلت إلى غرفة العمليات توجهت للطبيب تسأله: "هل أموت إذا لم أقم بهذه العملية"، أجابها: "كلا وإنما تبقين متعبة وبالخصوص لما تقتضي الضرورة على أن تحملي شيئا ثقيلا أو شيئا من ذلك"، فردت عليه: "خليهولي يا ولدي هذاك هو اللي باغي نقابل به وجه ربي"، فنزلت الدموع من عيون ذلك الجراح السوري وقال لها: "قطعت اليد التي تقوم لك بالعملية.. موتي بجواز المرور انتاعك للجنة"... وماتت والدتي بجواز المرور رحمها الله سنة 1973 (والدكتور سعدي يروي هذه القصة ونحن في وقت متأخر من الليل ساد صمت رهيب هزنا من الأعماق، وبالأخص ونحن في زمن غابت فيه كل القيم و الروح الوطنية التي ضحى من أجلها الشهداء))... أواصل حديثي وأقول أنه في نفس الوقت الذي كنت فيه طالبا بجمعية العلماء المسلمين سنة 1947، ناضلت في شبابي المبكر في صفوف "حزب الشعب" حيث انخرطت سنة 1948 في خلاياه السرية "لواس" وأنا في سن 18 من عمري وفي المنظمة كان لا بد للمناضل، أن يعرف من هو رئيسه ومن هو مرؤوسه وفقط، وأنا كان يرأسني يومها السيد أحمد بن دراعو من مغنية، أما مرؤوسي فكان السيد أحمد الدخيلي، ثم انخرطت بعدها في صفوف جبهة التحرير وعملت في ممثليتها بالمشرق العربي، حيث كنت أمينا دائما لمكتب جيش التحرير الوطني بالقاهرة أثناء الثورة والتي من خلالها دربت العديد من الشخصيات على السلاح وتمكينهم من الالتحاق بالثورة بالجزائر، أما عن نفسي فقد رأت القيادة أن أتفرغ للعلم فحصلت حينها على الإجازة من جامعة القاهرة في اللغة العربية سنة 1956، هذا ولا يفوتني أن أشير كذلك أنني خريج معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1951 وبعد خلاف وقع بيني وبين الشيخ عبد اللطيف سلطاني غادرت إلى القاهرة التي واصلت فيها النضال وتحصيل العلم. س) عذرا للمقاطعة الدكتور سعدي...سبق وأن قلت بأن رابطة الطلبة الجزائريينبالقاهرة، كانت أسبق من غيرها باللحاق بالثورة وبأن عددا كبيرا منها تدرب على السلاح وعلى رأسهم الراحل هواري بومدين، ما هو دورك في هذا النشاط؟ ج) طبعا كنت في قيادة مكتب الرابطة التي تكونت قبل اندلاع الثورة في الخمسينيات من القرن الماضي، ولما اندلعت الثورة اتصلنا بالسيد أحمد بن بلة في ذلك الوقت، شخصيا تدربت على السلاح وقررت الدخول إلى الجزائر، لكن بن بلة لما رأى أنني أكتب في العديد من الصحف بمصر ولبنان أعجب بذلك فخاطبني بالقول: "من يحمل السلاح كثر، أما أنت فلتبقى في القاهرة وأنت تملك القلم ونحن في حاجة لذلك"..فتحت مكتبا سريا لجيش التحرير بالقاهرة وهو ليس مكتب جبهة التحرير، مباشرة بعد ذلك عينت به الأمين الدائم ورحت أقوم بتوجيهات سياسية حول الثورة، بعض الجزائريين كانوا يأتون إلى القاهرة للتدرب على السلاح ثم يعودون ثانية إلى الجزائر وقد مر على يدي العديد من الشخصيات كما قلت لك، منهم المرحوم العقيد عبد الغني رئيس الحكومة السابق، وبقيت بالمكتب الدائم إلى أن اعتقل بن بلة في قضية الطائرة الشهيرة، ولما جاء أوعمران خلفا لبن بلة، صفى من كان يتعامل مع من سبقه، منهم أنا والمجاهد محساس وآخرون وجاء بدلنا بجماعة أخرى، الأمر كله له علاقة بصراعات شخصية، حيث سبق وأن طلب مني أوعمران قبل اعتقال بن بلة مع رفاقه، أن أكتب تقريرا أدين فيه بن بلة، حتى يمكن محاكمته على أخطاء يكون قد ارتكبها وأنا رفضت ذلك، لأنني لم أكن أرى في بن بلة إلى ذلك الحين سوى الإيجابيات ولهذا طردني اوعمران فيما بعد من أمانة المكتب. ما يمكن أن ينسب من فضل لبن بلة وبتكليف منه خرجت أول بعثة طلابية جزائرية تجوب العالم، كانت من القاهرة في شهر أوت من سنة 1955 وكنت أنا من ترأس هذا الوفد لما توجه إلى فرصوفيا. س) تضع علامة استفهام حول التزامن الذي حدث ما بين تشكيل الحكومة المؤقتة سنة 1958 ومجيء الجنرال ديغول الذي خطط كما تقول، لأن تكون الجزائر تابعة للفلك الفرنسي حتى وإن استقلت، كيف توضح ذلك ؟ ج) نعم وقد ذكرت ذلك بالتفصيل في إحدى كتبي، فلقد أعد ديغول في السنوات الأربع الأولى التي سبقت استقلال الجزائر من سنة 1958 إلى 1962 مخططه لحكم الجزائر المستقلة وبدل أن تضع الحكومة المؤقتة مخططا مضادا لمخطط ديغول، فتكون نواة للإدارة الجزائرية باللغة الوطنية لتحكم الجزائر المستقلة باللغة العربية، أهملت المئات من الطلبة الجزائريين الذين كانوا يدرسون بمعاهد الوطن العربي..، وأحضرت من المعاهد والجامعات الفرنسية شبانا جزائريين إلى مقرها بالقاهرة، ليضعوا الأسس لنواة إدارة الجزائر المستقلة باللغة الفرنسية، وعندما أعلن الاستقلال وجد موظفو إدارة الحكومة المؤقتة أنفسهم على وتر واحد، وهو اللغة الفرنسية مع مخلفات الإدارة الاستعمارية والمتمثلة في عناصر "بروموسيون لاكوست"، وتجلى ذلك بوضوح في أعلى المستويات، فقد عين بعد الاستقلال على رأس الوظيف العمومي عبد الرحمن كيوان أحد نجوم حزب الشعب الجزائري، وعين على رأس مدرسة الإدارة ميسوم الصبيح "زوجته يهودية" أحد قمم "لاكوست"، فوضع الاثنان اليد في اليد ولمدة 14 سنة لبناء إدارة متفرنسة للدولة الجزائرية...وهذه الإدارة التي حكمت وطننا لعقود طويلة بعد لاستقلال هي التي أوصلته إلى ما وصله الآن من الإفلاس في كل شيئ، في الاقتصاد، السياسة، الاجتماع والثقافة....وقد وصلت الوقاحة بميسوم الصبيح أنه لما سؤل ذات يوم: لماذا لا تدخل التعريب لمدرستك؟ فأجاب سائله قائلا: "المكان الوحيد الذي بقي طاهرا ويريدون تدنيسه"...وأمام هذه الردة والعمالة ومباشرة بعد الاستقلال، قمت بدراسة بعنوان "قضية التعريب في الجزائر" نبهت فيها إلى خطورة الإبقاء على هيمنة اللغة الفرنسية على إدارة الدولة الجزائرية، وكتاب طبع في بيروت سنة 1967 وبالقاهرة سنة 1968 بعدما تعذر طبعه في الجزائر. س) ولكن حتى في عهد هواري بومدين المحسوب على رابطة الطلبة الجزائريينبالقاهرة، قلت بأن مجلس الوزراء المعدل في صيف 1977 قد ضم عددا من الوزراء اتخذوا موقفا متحفظا من قضية التعريب، من كنت تقصد وهل بومدين لم تكن له القدرة للحد من نفوذ هؤلاء؟ ج) كنت أقصد بذلك ثلاث وزراء السيد مصطفى الأشرف وزير التربية والسيد عبد اللطيف رحال وزير التعليم العالي ورضا مالك وزير الإعلام، بل وحتى بلعيد عبد السلام وزير الصناعة الخفيفة آنذاك، كان من مشجعي الفرنسة في الجزائر، قلت لقد تم التنسيق بين وزارة التربية ووزارة التعليم العالي بين سنة 1977/1978 في اتخاذ الإجراءات المعادية للتعريب وتصفية اللغة الوطنية من التعليم بجميع مراحله، فالأشرف حينما نشر مقالاته الثلاث تحت عنوان "مشاكل التعليم والتربية" في جريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية أعداد 9-10-11 من اوت 1977، اعتبرت هذه المقالات تراجعا أساسيا في قضية التعريب، وما أن ظهرت مقالاته حتى قمت بإعداد دراسة طويلة عنوانها "وزير التربية الفيتنامي يرد على وزير التربية الجزائري"، لكن وزير الإعلام والثقافة آنذاك السيد رضا مالك منع نشر هذه الدراسة، بل وصادرها، لأنه لم يعدها لصاحبها، وحتى الآن "وعدنا الدكتور سعدي أنه سيبحث عن نسخة لهذه الدراسة في أرشيفه ليطبعها"، كما قام بمنع نشر أكثر من 60 مقالا ترد على مقالات الأشرف، والمقال الوحيد الذي نشر ردا عليه هو دراسة للدكتور عبد الله شريط تحت عنوان "اللغة والمجتمع"، التي أثارت ضجة كبيرة، وارتياحا واسعا لدى محبي اللغة العربية، كما استطاع الإخوة المسؤولون على "جريدة الشعب اليومية" التحايل على توجيهات وزير الإعلام والثقافة، فنشروا لي مقالا تحت عنوان" قضية اللغة في كوريا والصين واليابان" في عدد 27 أكتوبر 1977 بعد أن حذفوا منه كل إشارة إلى مقالات الأشرف أو اسمه، ومن الغريب أن مجلة "المجاهد الأسبوعي" اللسان المركزي للحزب، لم تشارك في هذه الحملة، ولم تنشر ردا واحدا على مقالات الأشرف، وذلك لأن موقف مديرها في ذلك الوقت "محمد الميلي" كان مهادنا للأشرف بالرغم من أنه معرب، بل ونجل لأحد أقطاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولأحد شيوخها الكبار، أما عن بومدين فإنه كان محاصرا من الكوادر الفرانكوفونية المستنفذة في بعض المراكز الحساسة ومن الضباط الذين كانوا سابقا في الجيش الفرنسي ثم التحقوا بالثورة بداية من سنة 1958 وهذه حكاية أخرى. س) في هذه الفترة ( 1977/1982 ) كنت عضوا بالمجلس الشعبي الوطني، ألم يتحرك البرلمان الذي هو من المفروض يمثل إرادة الشعب، لتقويم هذا الاعوجاج الذي أضر بمكسب الثورة الجزائرية التي ضحى من أجلها الملايين من الشهداء؟ ج) كانت المؤسسة التي وقفت ضد هذه الردة وبصلابة هي "المجلس الشعبي الوطني"، فالأغلبية الساحقة من نواب الشعب استنكروا التراجعات في ميدان التعريب، تجلى هذا الموقف في عريضتين وقعهما النواب ورفعوهما إلى السلطات العليا للبلاد، الأولى حول التراجعات في ميدان التعريب، والثانية حول قضية اللغة الوطنية في جامعة باب الزوار، وحول طرد الطلبة المعربين من هذه الجامعة، بعد غلق الأقسام المعربة، وذلك في العام الدراسي 1977/1978، طردوهم بواسطة الكلاب البوليسية، وبأمر من وزير التعليم العالي آنذاك السيد عبد اللطيف رحال، وقد وقع على هاتين العريضتين أكثر من 80 بالمائة من النواب..وتجلى هذا العمل المشرف لبرلمان الشعب بوضوح في الجلسة المغلقة التاريخية التي دامت أربع ساعات والتي عقدها الرئيس الراحل هواري بومدين مع النواب في عام 1978، حيث حدد المجلس موقفه بحزم إزاء هذه الردة، وأعلن النواب للرئيس، قلق الجماهير الكبير إزاء التراجعات التي تتم في ميدان التعريب، بإطار وزارتي التربية والتعليم العالي..، وقد رد علينا بومدين يومها "إن مقالات الأشرف لا تلزمنا رسميا كدولة وكحكومة"...وأضيف هنا أن الرئيس بومدين كان مقدما على إجراءات للقضاء هذه الردة ولكن الموت داهمه رحمه الله. س) وأنت تتحدث عن مصطفى الأشرف الذي تقول أنك تحترمه وتعترف له بموسوعته الثقافية ومع ذلك تتهمه بالردة عن العروبة الإسلام، لكن عندما نعود إلى مقاله الذي نشر بجريدة الشعب بتاريخ 20 أبريل 1992 بعنوان "حول الإسلام-العروبة-العربية"، أن ما قاله عني ديغول لما اعتقلت في حادث الطائرة سنة 1956" مصطفى الأشرف لا يستحق هذا لأنه ابننا" غير صحيح، لأنني كنت مجهولا في ذلك الوقت وفي سياق آخر يقول "أنا أعتز كثيرا بلغتي العربية ولطالما كافحت من أجلها في جميع مقالاتي القديمة التي كانت تصدر أيام الاستعمار الفرنسي وعلى ذلك تشهد مؤلفاتي... وسأتابع كتاباتي بالعربية وكتاباتي بالفرنسية والإسبانية...." كيف تفسر ذلك وما هو تعليقك؟ ج) لقد جاء مقال الأشرف الذي أشرت إليه بعد المقال الذي نشرته في "جريدة الشعب" بتاريخ 19 أبريل 1992 بعنوان "لا يا مصطفى الأشرف...الإسلام ليس مرضا" وهو رد على أخطر ما كتبه الأشرف في المجلة الفرونكفونية "الجزائر أكتيالتي" عددي 1369 و1370 الصادرين في شهر يناير 1992 تحت عنوان "الجزائر مريضة بدينها" وهو ابتكار شيوعي جزائري جدد المقولة الشيوعية (الدين أفيون الشعوب) بمقولة جديدة وهي (الإسلام مرض الشعوب) ومن المعروف أن مصطفى الأشرف ماركسي على الطريقة الفرانكفونية، مثل المؤرخ محمد حربي، فحتى الماركسية دخلت الجزائر بعد أن مرت على مصفاة الفراكفونية في باريس....ففي رأي الأشرف "الشعب الجزائري مريض بدينه ولا بد من بذل جهود لشفائه من هذا المرض"، وقد كتب هذين المقالتين بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية في دورها الأول يوم 26/12/1991 موجها كلامه إلى السلطات الجزائريةالجديدة، محرضا على وضع حد نهائي لتجاوزات الشعب لجزائري الدينية، وذلك بوقف التعريب...فالأصولية الدينية بالجزائر، هي ثمار التعريب كما يرى ومعنى هذا، أن وضع حد نهائي لغزو الأصولية، لا يأتي عن طريق حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ فحسب، وإنما يأتي عن طريق وقف التعريب أيضا..والغريب أن الأشرف أعطى حديثا صحفيا لمراسل "جريدة لوموند" الفرنسية بول بالتا الذي نشره له في ملاحق الجريدة الشهري "لوموند التربية" ديسمب1977، حيث صنف فيه -أي الأشرف- المناضلين في تاريخ الحركة الوطنية تصنيفا لغويا: مناضلون حقيقيين وهم المتفرنسون ومناضلون خونة عملاء وهم المعربون، ويقول: "إن أفضل المناضلين استعملوا لغة المستعمر ضده، بينما نجد الكثير من المعربين كانوا متعاونين مع الاستعمار". فهل يعقل هذا الكلام السخيف الذي يصدر من رجل يستحق عن جدارة لقب المنظر الكبير للفرنكفونيية بسائر أبعادها في الجزائر، نعم فقد صدر بالجزائر للأشرف أربعة كتب كلها بالفرنسية، واحتقاره للعربية ولقراء العربية جعله لا يصدرها بلغة الضاد التي لا يعترف بأنه يتقنها، وآخر هذه الكتب، كتاب "آداب الكفاح"، صدر بالجزائر سنة 1991 وهو مخصص للشعراء والكتاب البارزين الذين طبعوا الأدب الجزائري بطابع النضال والثورة، واستطاعوا أن يعكسوا في إنتاجهم عظمة ثورة أول نوفمبر، وكفاح الحركة الوطنية...وسوف تصاب بالذهول عندما تعلم أن نجوم هذا الكتاب هم "كريستيان شولي عاشور" و"جون سيناك" الشاذ و"أنا كريكي" المولودة "كوليت كريكوار" ...و غيرهم. س) كما خضت معارك شرسة وطويلة مع التيار الفرونكفوني الذي استولى على مراكز مهمة في الدولة بعد الاستقلال، كانت لك معركة أخرى مع جبهة البربريست، وبالخصوص بعد تأسيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية التي ترأستها سنة 1989، ما هي فصول هذه المعركة وهل هذا التيار يشكل خطرا على وحدة واستقرار وهوية الجزائر؟ ج) إذا أردت أن تطلع وبشكل مفصل على هذا الموضوع، عليك بالرجوع إلى الكتاب الذي أشرفت على إصداره والذي طبع سنة 2005 بعنوان "الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية: 15 سنة من النضال في خدمة اللغة العربية" ومع ذلك أجيب عن سؤالك بالقول، أن النزعة البربرية أوجدها الاستعمار الفرنسي على يد "الكوفيرنور شاتينيون" سنة 1948 وطورها الاستعمار الفرنسي الجديد على يد الأكاديمية البربرية التي أسسها في باريس سنة 1967، ومن الغريب أن أتباع النزعة البربرية أقاموا الدنيا وأقعدوها في الأربعين سنة الماضية حول البربرية والأمازيغية ولم يقوموا بجمع تراث البربرية..، لأن أتباع النزعة البربرية ليسوا مخلصين للتراث البربري، وإنما ينفذون تعليمات أعداء العربية بالجزائر الصادرة من الأكاديمية البربرية في باريس، وأهدافها سياسية بعيدة عن الثقافة، ...لقد كان قادة حزب "الأرسيدي" و"الأفافاس" يتنقلون بين تبسة، خنشلة، باتنة، وادي ميزاب، تامنغاست وغيرها، لبث سمومهم المتمثلة في إقناع البربر هناك بضرورة التحرك والتصدي "للاستعمار العربي وهيمنة اللغة العربية" كما يزعمون، وعندما زار وفد الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية سنة 1991 بمدينة تيزي وزو لتنصيب فرع الجمعية، استقبلنا بعدد هام من الشبان "البربريست" بقيادة ابن الشهيد عميروش، معلنين معارضتهم للجمعية ولأهدافها، وأفهمتهم أن هدف جمعيتنا ليس هو ضد أي لغة، بما فيها الفرنسية كلغة، وإنما هدفها محاربة هيمنة الفرنسية على حساب وضع العربية بالجزائر"، فأجابني ابن عميروش بما يلي: "إننا نكافح لهدف واحد وهو محاربة هيمنة العربية"، أجبته على الفور: "أتستطيع الإجابة على السؤال التالي: ما هي اللغة التي صدرت بها الأوامر لقتل والدك الشهيد؟" ولم يجب على السؤال، فإذا كان هذا هو حال ابن أحد أبطال الثورة فماذا عن الآخرين.... منذ سنة 1976 استفزني البربريون وأنا سفير بسوريا، فحررت دراسة أرسلتها للرئيس هواري بومدين بينت فيها خطورة البربريين على الحقائق العلمية التاريخية وعلى الشعب الجزائري، واستقبلني الرئيس، فناقشني واقتنع بوجهة نظري، ثم تطورت الدراسة في كتاب عنوانه "عروبة الجزائر عبر التاريخ"، صدر في الجزائر في طبعتين سنة 1982 وسنة 1985 ، ثم تطورت هذه الدراسة في كتاب بعنوان "الأمايغ عرب عاربة"، طبع بالجزائر سنة 1996 وبطرابلس في ليبيا سنة 1996 والكتاب يؤكد عروبة المازيغ البربر، ويبين أن التشكيك في ذلك هو مناورة للاستعمار الفرنسي الجديد، بهدف شق الوحدة الوطنية واستمرار سيطرة الفرونكفونية على الجزائر وبلدان المغرب العربي الثلاث تونس، الجزائر، المغرب، كما أنني تناولت في الكتابين المذكورين عروبية اللغة البربرية في جدول مختصر للمفردات البربرية ونحوها وتطابقها مع العربية، ومنذ ذلك التاريخ راودتني فكرة إصدار معجم، وفي السنوات الأخيرة شرعت في إعداده بحيث استغرق مني 10 سنوات من البحث، وعندما أنهيته قرر مجمع اللغة العربية بطرابلس الذي أنا عضو فيه طبعه سنة 2007 وهو بعنوان "معجم الجذور العربية للكلمات الأمازيغية ( البربرية)"، أثبت من خلاله أن 90 بالمائة من الكلمات الأمازيغية البربرية عربية عاربة او مستعربة، ونحو البربرية متوافق مع نحو العربية. لقد واجهت حملة شرسة من البربريين، ففي شهر يونيو- حزيران 1996 رفعت ضدي المحافظة السامية للأمازيغية التابعة لرئاسة الجمهورية، دعوى قضائية بسبب مقال نشرته في أسبوعية الشروق الأسبوعي يوم 26/03/1996، تحت عنوان "هل تنجح الأكاديمية البربرية في فرنسا في ترويض الأوراس الأشم؟"، رافضا فيه عقد مؤتمر الأمازيغية الدولي بعاصمة الأوراس باتنة، الذي كان يراد من ورائه خلق ضرة للغة العربية من اللهجة البربرية الأمازيغية، خدمة للغة الفرنسية، وسرعان ما تنادى مجاهدو الولاية الأولى التاريخية "أوراس النمامشة"، فاجتمع في باتنة 42 ضابطا في جيش التحرير الوطني للثورة، جاءوا من ستة ولايات "محافظات" إدارية، يومي 30 و31 مارس 1996، وأصدروا لائحة يرفضون فيها عقد المؤتمر، وهبت الولايات التاريخية الأخرى للثورة تصدر بيانات مساندة لللائحة، كما أصدر الرئيس الأسبق أحمد بن بلة والعديد من الجمعيات بيانات تساند اللائحة، الأمر الذي جعل السلطات تلغي المؤتمر الذي أنفقت من أجله المحافظة السامية للأمازيغية 400 مليون سنتيم، وقد تطوع للدفاع عني أمام هذه القضية الغريبة 74 محاميا، جاءوا من سائر أنحاء البلاد، وطلبت مشاركة المحامين المتطوعين من العاصمة فقط، فكان عددهم 15 محاميا ومحامية وبحضور الشيخ عبد الرحمن شيبان، حكمت علي فيه محكمة حسين داي بتاريخ 10 مارس1997 بغرامة مالية لتعويض ما صرفته المحافظة السامية للتحضير لعقد مؤتمر باتنة، وبرأتني محكمة الاستئناف بحكمها الصادر يوم 20/05/ 1997، ورفضت المحكمة العليا الطعن في القضية أمامها. كان الهدف من مثل هذه المضايقات هو وقف نشاط الجمعية بل ودفعها للتوقف كليا، بل وإنهاء وجودها، لكن إصرار أعضائها خيب آمال أعدائها الذين ما كنا نتصور يوما يأتي فيه رجلا مثل حسين آيت أحمد ارتبط اسمه بالنضال الثوري يدعو جهارا إلى تقسيم الجزائر إلى خمس دويلات، وفق ما خطط له الفرنسيون ويقف موقفا عدائيا من اللغة العربية وينظم حزبه بتاريخ سنة 1990 مسيرة ضد قانون تعميم استعمال اللغة العربية، الذي نوقش في البرلمان، كما صرح سعيد سعدي زعيم الأرسيدي بوقاحة وقلة حياء قائلا: " إذا صدر قانون تعميم استعمال اللغة العربية، سأكون أول من يقوم باغتصابه"، وقد نفذ وعيده الوقح في التلفزة، التي كان يسيطر عليها البربريست والفرنكوفونيون. س) مباشرة بعد الاستقلال توليت مهام دبلوماسية، حيث كنت رئيس البعثة الدبلوماسية بالكويت بين سنة 1963 وسنة 1964، ثم قائما بالعمال بالقاهرة بين سنة 1968 وسنة 1971، وبعدها سفيرا في بغداد بين سنة 1971 وسنة 1974 وأخيرا سفيرا في دمشق بين سنة 1974 وسنة 1977، ماذا يمكن أن نستخلص من هذه الرحلة الدبلوماسية واهتماماتك الثقافية والأدبية، بالخصوص أن لك إصدارات شعرية مرتبطة بمهمتك كسفير في كل من بغداد ودمشق؟ ج) نعم وهو كذلك، فإلى جانب معاركي التي خضتها ضد التيار الفرنكفوني والبربريست، كانت عندي اهتمامات بالشعر والقصة والرواية وبالأدب عموما، فمنذ سنة 1961 كان حلمي أن أجمع شعر الثورة الجزائرية في الوطن العربي، ومن خلال عملي كدبلوماسي كانت البداية بالشعر العراقي الذي جمعته في كتاب بعنوان "الثورة الجزائرية في الشعر العراقي" طبع في بغداد سنة 1981 وبالجزائر سنة 1985، جمعت فيه 107 شاعرا وشاعرة من العراق، نظموا 255 قصيدة في الثورة الجزائرية، منهم شعراء كبار كالجواهري، بدر شاكر، السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة وغيرهم... وقد ثنيت ذلك كله بالشعر السوري وقد جمعت من خلاله 199 قصيدة قالها 64 شاعرا وشاعرة في الثورة الجزائرية ويضم شعراء كبار كذلك مثل الشاعر سليمان العيسى، ونزار قباني وغيرهما....لكن الظاهر أن الحزب الفرنكوفوني المسيطر على الدولة آنذاك شعر بخطورة ما أفعله فاستدعاني من العمل الدبلوماسي...لكي يمنع إكمال هذا العمل الموسوعي لشعر الثورة الجزائرية بالوطن العربي. س) إلى جانب اهتمامك وولعك بالشعر، كانت لك تجارب في القصة والرواية، هل هذا اللون من الإبداع صاحبك منذ زمن بعيد أم طرأ عليك بعد وفاة الزوجة كما اطلعنا على ذلك في روايتك "دمعة على أم البنين"...؟ ج) قبل هذه الرواية وبزمن بعيد كتبت مجموعة من القصص مستوحاة من واقع الثورة الجزائرية بعنوان "تحت الجسر المعلق" وقد طبعت في الجزائر وبغداد سنة 1974، وقبلها نشرت في مجلة الآداب البيروتية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وقد اطلع عليها حينذاك مصطفى الاشرف حينما كان بالسجن وقد راسلني حول الموضوع يبدي إعجابه بها، أما آخر ما صدر لي فهو رواية بعنوان "وشم على الصدر" سنة 2006 عن دار الأمة، وهي رواية تغطي أحداثها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بمنطقة الشرق الجزائري على مدى قرن بين القرن 19 والقرن 20، وتبرز صراع الإنسان الجزائري مع الزمن الصعب تحت حكم الاستعمار الاستيطاني البشع. س) بعد كل هذا الزخم والمنتوج المتعدد، ما هي مشاريعك المستقبلية؟ ج) هي رباعية في قالب روائي عبارة عن نوع من السيرة الذاتية، أشبه بثلاثية نجيب محفوظ، فبعد الرواية الأولى وهي "وشم على الصدر"، تأتي الرواية الثانية وهي "في ظلال قرطا(قسنطينة)" والثالثة بعنوان "في ظلال أرض الكنانة"، تدور أحداثها عندما كنت طالبا بالقاهرة وقد تتلمذت لمدة أربع سنوات على يد الدكتور طه حسين، لكن لذي ما يهمني في ظل هذا كله ونحن ندخل الألفية الثالثة، التي تعقدت فيها الحياة وكثر فيه استخدام الانترنيت والفضائيات، وجعلت الشباب غير قادر على مطالعة الكتب ذات الحجم الكبير والأكاديمية حول تاريخ الجزائر، وبالتالي هناك طريقة اهتدت إليها كثير من الدول مثل بريطانيا وفرنسا ومصر إلى تلخيص تاريخ بلدانهم منذ العصر الحجري إلى الآن في كتاب من الحجم المتوسط لا يتعدى 400 صفحة، فأنا إذن قمت بمثل هذا العمل الذي استغرق مني عشر سنوات بعنوان "الجزائر في التاريخ" وهو تحت الطبع في مركز الدراسات العربية ببيروت. س) كلمة ختامية دكتور سعدي؟ ج) ما يمكن أن أختم به حديثنا أنه لا مستقبل لهذا الجيل، إلا بالتمسك بهويته لتحقيق التنمية والرفاهية للإنسان الجزائري الذي عانى طويلا، و"ما يبقى في الواد غير حجارو"، فاللغة العربية منتصرة لا محالة، حب من حب وكره من كره.