تونس·· بعبق الياسمين أو أبعد أنشد العرب كثيراً لتونس الخضراء، وبالغ الغرب في وصفها ب ''المعجزة الاقتصادية'' بينما لم تكن في واقع شعبها سوى وطناً يفتقدون فيه أبسط حقوق المواطنة، ويرزحون فيه تحت بطش نظام بوليسي عرف كيف يزين صورته الخارجية·· ويقمع أي محاولة لإبراز الصورة الأخرى الكامنة في دواخل كل فرد تونسي· ولأن الله غالبا ما يضع سره في أضعف خلقه، كان لمحمد البوعزيزي، وسيلة واحدة لإخراج تلك الصورة من الإطار المخفي، ليعلقها في وجه العالم·· ولم تكن تلك الوسيلة سوى ''حرق نفسه'' أمام مبنى الولاية، احتجاجاً على القمع والحفرة التي تعرض لها من قبل شرطية أقدمت على مصادرة عربته التي كان يعتاش منها ببيع الخضر، فكانت تلك هي اللحظة التاريخية (السابع عشر من ديسمبر 2010) التي حوّلت المنطقة بأسرها إلى ثورات غضب عارمة، احترقت بها أنظمة عربية عدة ولا تزال· رحل البوعزيزي بعد هذا التاريخ بعدة أسابيع (في الرابع من جانفي 2011) لكن جذوة الثورة لم تمت، حيث أدت الشرارة التي أطلقها البوعزيزي وهو يحرق نفسه، إلى اندلاع مظاهرات واسعة في عدة مدن تونسية، ما أجبر الرئيس زين العابدين بن علي على إقالة عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية وتقديم وعود لمعالجة مشاكل البطالة والمشاركة السياسية والانفتاح الإعلامي، كما أعلن عزمه على عدم الترشح للانتخابات الرئاسية عام .2014 إلا أن كل ذلك لم يساهم إلا في رفع سقف المطالب لدى المحتجين سيما بعد المواجهات العنيفة التي دارت بينهم وبين قوات الأمن، حيث أضحى المطلب الأوحد هو رحيل النظام، الأمر الذي أجبر مرة أخرى بن علي وبعد ثمانية وعشرين يوماً من الثورة على التنحي عن السلطة ومغادرة البلاد بشكل مفاجئ تحت حماية أمنية ليبية إلى السعودية في الرابع عشر من جانفي 2011، فأعلن الوزير الأول محمد الغنوشي في اليوم نفسه عن توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، وذلك بسبب تعثر أداء الرئيس لمهامه، مع إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول· لكن المجلس الدستوري قرر بعد ذلك بيوم اللجوء للفصل 57 من الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس، وبناء على ذلك أعلن في يوم السبت 15 جانفي 2011 عن تولي رئيس البرلمان فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة· وشكلت الثورة التونسية المفجر الرئيسي لسلسلة من الاحتجاجات والثورات في عدد من الدول العربية· ثورة 25 يناير المصرية.. نصر شعبي يحاصره العسكر إعتبرها البعض استمرارا لحركات كفاية و6 أبريل وغيرها من محاولات التغيير الداخلية التي واجهت الدولة البوليسية في مصر مبارك، كما واجهت مشاريع التوريث، وقال عنها البعض الآن إنها الحلقة الثانية من سلسلة ثورات الربيع العربي التي تفجرت أولا في تونس بعد انتحار المواطن محمد البوعزيزي، وفي كل الحالات كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 واحدة من أكبر الثورات السلمية في العالم وتمكنت في أقل من عشرين يوما من تنظيم اعتصامات بلغ عددها في بعض المرات 8 ملايين مصري من تحقيق ما عجزت عنه حركات سياسية وعنفية على مدار عقود طويلة· إنطلقت الثورة يوم الثلاثاء 25 جانفي 2011، وفي الشهر الذي تمكن فيه التوانسة من إجبار الجنرال بن علي على التنحي والفرار، اختار ثوار مصر هذا اليوم ليوافق عيد الشرطة وحدد هذا التاريخ مجموعة من التنظيمات، منها حركة شباب 6 أبريل وحركة كفاية ومجموعات الشبان عبر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، أشهرها مجموعة ''كلنا خالد سعيد''· لقد كانت الثورة المصرية بنجاحها مليئة بالمواقف الإنسانية وأبدع فيها الشعب المصري بحسه الساخر في الانتصار على الخوف وعلى الديكتاتورية بالفكاهة، وكان المعتصمون يواجهون رصاص البلطجية وقوات الأمن بالنكتة إلى أن انتصروا في المرحلة الأولى· وأدت هذه الثورة أولا إلى إجبار الرئيس محمد حسني مبارك على الرحيل عن الحكم في 11 فيفري 2011، فقد أعلن ذلك نائب الرئيس عمر سليمان في بيان قصير عن تخلي الرئيس عن منصبه وأنه كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد· وفي الوقت الذي هلل الكثير لهذا النصر والتحرر الشعبي غير المسبوق، كان البعض حذرا وأكد أن الثورة لم تتمكن إلا من قطع رأس النظام دون أن تتمكن من التخلص من النظام نفسه، ورغم أن ميدان التحرير الذي احتضن الاعتصامات المليونية هو الذي اختار رئيس الحكومة عصام شرف، إلا أن هذا الأخير لم يستطع فعل أي شيء، وتبين أن العسكر الذين أجبروا على التخلص من مبارك يحكمون قبضتهم على زمام الأمور ولهم أهداف غير الأهداف التي نادى بها الشارع، بدليل التماطل في تسليم السلطة للمدنيين، مما دفع الشارع للتحرك من جديد عشية الانتخابات التشريعية التي فاز بها التيار الإخواني، أكبر المستفيدين من الوضع الجديد بعد ثمانين سنة من المطاردة والتهميش، وكانت المواجهات دامية بالفعل، لم تتوقف مع إجراء الانتخابات، وعاد أحد ممثلي العهد السابق كمال الجنزوري ليتسلم مقاليد الحكم تحت إشراف العسكر وتبقى الثورة المصرية بعد كل تلك التضحيات تبحث عن نصرها النهائي في ظل سيطرة العسكر على مفاصل الدولة· ثورة 17 فبراير.. ليبيا دون القذافي كانت ثورة 17 فيفري في ليبيا، أعنف ثورات الربيع العربي على الإطلاق، وأكثرها راديكالية، وتحوّلت من حركة احتجاجية سلمية إلى ثورة مسلحة، قبل أن يدخل حلف شمال الأطلسي على الخط، وهو الذي تلقى ضوء أخضر من مجلس الأمن لفرض حصار جوي وحماية المدنيين، إلى شن حرب جوية أنهكت قوى كتائب العقيد معمر القذافي الذي لم يكن يتصور نهايته بهذا الشكل، وهو الذي حكم البلاد بأسلوب غريب أقرب إلى العبث منه إلى نظام حكم منسجم· إنطلقت الثورة يوم 15 فيفري مع اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل بمدينة بنغازي ليخرج أهالي الضحايا لإنقاذه، بعد أن رأوا انعدام وجود سبب لاعتقاله· في اليوم الموالي بدأت مظاهرات للمطالبة بإسقاط النظام بمدينة البيضاء شرق البلاد، أطلق رجال الأمن الرصاص الحي وقتلوا بعض المتظاهرين، وقامت مظاهرات أخرى بمدينتي الزنتان والرجبان، وقام المتظاهرون في الزنتان بحرق مقر اللجان الثورية رمز نظام الحكم، ومركز الشرطة المحلي· وجاء يوم الخميس 17 فيفري في شكل انتفاضة شعبية شملت بعض المدن الليبية بالمنطقة الشرقية وتوسعت الاحتجاجات بعد سقوط أكثر من 400 ما بين قتيل وجريح برصاص قوات الأمن ومن وصفوا بالمرتزقة· ومن هناك بدأت ثورة 17 فيفري حقيقة، وسرعان ما وصلت إلى بعض أحياء العاصمة طرابلس· واعتقد كثير من الملاحظين أنها ستكون الأسرع، خاصة مع رواج إشاعة مفادها أن العقيد القذافي هرب إلى دولة فينزويلا، لكن العقيد يظهر من جديد متزامنا مع ظهور نجله سيف الإسلام الذي خاطب الثوار بكثير من التحدي والاحتقار، ليتبعه والده لاحقا بخطابه الشهير توعد فيه ب ''تطهير ليبيا بيت بيت، زنفة زنفة''، الخطاب الذي تحوّل إلى مادة للتهكم وأضحت عبارة زنفة زنفة من أشهر كلمات البحث العربية على الأنترنت· وسرعان ما استعاد القذافي زمام المبادرة ودحر خصومه ووصل إلى مشارف بنغازي عاصمة المعارضة التي انضم إليها الكثير من رموز نظامه السابق، وعلى رأسهم وزير العدل مصطفى عبد الجليل ووزير الداخلية عبد الفتاح يونس العبيدي الذي اغتيل بعد ذلك في ظروف غامضة· ورغم تدخل حلف الناتو، إلا أن الحرب طال أمدها وأكلت الكثير من الضحايا وأتت على البنية التحتية الفقيرة أصلا، قبل أن تسقط طرابلس بين يدي الثوار في شهر أوت· ولم تنته الحرب عندما تكتلت قوات العقيد في مدينة بني وليد ومدينة سرت، وبعد معارك شرسة سقط العقيد أخيرا في شهر أكتوبر قتيلا، بعد أن تمكن الثوار من القبض عليه، وبدا أنه تعرّض للتنكيل بالطريقة التي حكم بها إثنين وأربعين سنة· ورغم زوال جماهرية القذافي من الوجود، إلا أن خصومه الآن يواجهون صعوبات كبيرة في إعادة تشكيل دولة من الصفر، بالنظر إلى حالة الفوضى التي خلفها الفراغ الذي أحدثه القذافي طيلة 42 سنة من حكمه الغريب، واستعماله سياسة الأرض المحروقة حتى يكون في مأمن من أي انقلاب· الحكمة يمانية·· والثورة أيضا لم يكن ما حدث في الثالث من فيفري الماضي في اليمن سوى جزء من سلسلة طويلة من المحاولات التي قادتها المعارضة الداخلية وعدد من الحركات المطلبية منذ نهاية التسعينيات، التي كان معظمها يخمد نظرا لتمتع النظام بقوة البطش من جهة، وقدرة الاستقطاب القبلي من الجهة الأخرى· إلا أن الشرارة التي انطلقت في سيدي بوزيد كانت ملهمة للصمود والإصرار لتأتي أحداث ميدان التحرير في القاهرة وتشعل العزيمة في قلوب اليمنيين الذين دعوا لمليونية كبرى في الحادي عشر من فيفري التي سميت ب ''جمعة الغضب'' (والمفارقة أنها الجمعة التي صادفت يوم سقوط نظام حسني مبارك في مصر) مما ألهب حماس الناشطين وساهم في مضاعفة المستجيبين لنداء الثورة· وقد انضم ل ''ثورة الشباب ''هذه، أحزاب المعارضة المطالبة بتغيير نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي يحكم البلاد منذ 33 عاماً، التي تعرف ب ''أحزاب اللقاء المشترك''، كما استقطبت الثورة في وقت لاحق، قيادات عسكرية انشقت من الجيش، فضلا عن زعامات قبلية ذات وزن، حيث أضحى واضحا مع مرور الوقت ومواجهة النظام للمتعصمين بالعنف، أن هناك تحولات بدأت في الخريطة القبلية في اليمن، حيث لم تعد الكفة ترجح النظام، لأول مرة منذ وصول صالح للحكم· وما فسر فقدان الرئيس علي عبد الله صالح ورقة القبيلة -الركيزة الأساس التي استند إليها نظامه - قبوله للمبادرة الخليجية تمهيدا للتنحي، ورأى مراقبون أن خطابات صالح المتكررة عن الرحيل هي نتيجة قراءة دقيقة لمتغيرات الواقع السياسي والقبلي في اليمن بعد الثورة· وعمليا، أضحت الكثير من المحافظات ذات التأثير القبلي في كفة الثورة، حيث لم تعد صعدة والجوف ومأرب وشبوه وأبين وحضرموت والبيضاء، وحتى صنعاء داخل سيطرة النظام· وبالرغم من أن معظم اليمنيين مسلحون وأن الإحصاءات الدولية تشير إلى ما معدله من 3 إلى 5 قطع سلاح في كل بيت يمني، فإن الثوار لم يلجأوا لهذه الوسيلة وأبقوا ثورتهم سلمية بالرغم من وابل الرصاص الذي كانت تواجه به اعتصاماتهم من قبل قوى الأمن، ليؤكدوا من خلال هذا الفعل قول الرسول الأكرم إن ''الإيمان يماني·· والحكمة يمانية''· وبعد كرّ وفرّ بين المعارضة وشباب الثورة من جهة، ونظام صالح من جهة أخرى، وقّعت أحزاب اللقاء المشترك وعلي عبدالله صالح على المبادرة الخليجية التي نصت على تنحي الرئيس لصالح نائبه الذي يقود فترة انتقالية بمشاركة قوى المعارضة قبل الذهاب إلى انتخابات مبكرة، مع ضمان الحصانة القانونية للرئيس وأفراد عائلته من المتابعة القضائية، وهو ما يرفضه حتى الآن شباب الثورة ويعتصمون ضده· سوريا·· بلون الدم الفاقع لم يكن أحدٌ يتصور قبل ''ربيع الثورات العربية'' أن يتمكن بضعة أشخاص في دمشق، من الاجتماع في مقهى شعبي عام لمناقشة أي شأن عام يتعلق بالسياسة، دون إذن مسبق من الثمانية عشر فرعا للمخابرات ومن العدد غير المحدود من لجان ''البعث''، هذا بالطبع بعد أن تتأكد السلطات بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمعين أتوا لتأييد ''فخامة الأسد'' وبعثه·· لكن زمن الثورات لا يعرف المستحيل· هكذا وبعد تأكيدات كثيرة بأن سوريا ليست كغيرها، انفجرت الانتفاضة الشعبية في الخامس عشر من مارس، لتؤكد أن سوريا ليست استثناء إلا في درجة قمع نظامها الوحشي لكل من تسول له نفسه أن يقول لا· وقد قاد هذه الاحتجاجات شباب لم يعرف لهم سوابق في المجال السياسي لكنهم خرجوا متأثرين بروح الثورات العربية ومطالبين بالحرية، لكن قوات الأمن والمخابرات السورية ومليشيات موالية للنظام (عُرفت بالشبيحة) واجهتهم بالرصاص الحي فتحوّل الشعار إلى ''إسقاط النظام''· في حين أعلنت الحكومة السورية أن هذه الحوادث من تنفيذ متشددين وإرهابيين من شأنهم زعزعة الأمن القومي وإقامة إمارة إسلامية في بعض أجزاء البلاد· وكانت الاحتجاجات قد بدأت بمظاهرة صغيرة في العاصمة دمشق في الثلاثاء 15 مارس 2011 بعد دعوات قبلها ببضعة أسابيع، لكن الأمن اعتقلَ جميع المتظاهرين· ثم في 18 مارس خرجت المظاهرات في خمس مدن بأنحاء سوريا تحت شعار ''جمعة الكرامة''، وهذه المدن هي درعا ودمشق وحمص ودير الزور وبانياس· واستمرت درعا بالخروج بشكل يومي بعد ذلك، فتحوَّلت المظاهرات إلى اشتباكات دامية في محيط المسجد العمري ومناطق أخرى من المدينة· في 25 مارس انتشرت المظاهرات للمرة الأولى لتعمَّ العشرات من مدن سوريا تحت شعار ''جمعة العزة''، واستمرت بعدها بالتوسع والتمدد شيئاً فشيئاً وأسبوعاً بعد آخر· وفي أول ظهور له منذ بدء الاحتجاجات، خرج بشار الأسد في 31 مارس ليلقي خطاباً ويعلن عن منح الجنسية للمواطنين الأكراد في سوريا بعد حرمانهم منها لعقود، وفي 14 أفريل شُكلت حكومة جديدة للبلاد عوضاً عن القديمة التي استقالت، ثم في 21 أفريل أعلن الأسد عن رفع حالة الطوارئ في البلاد بعد 48 عاماً متصلة من فرضها، لكن درجة القمع والقتل لم تختلف كثيرا، فمنذ25 أفريل أطلق الجيش السوري عمليَّات عسكريات واسعة في درعا ودوما هي الأولى من نوعها، وأدت إلى مقتل مئات الأشخاص جراء حصار وقصف المدينتين والقرى المحيطة بهما· وقد استدعى تزايد وتيرة القتل تدخل الجامعة العربية بمبادرة تهدف إلى إيقاف إراقة الدماء وحماية المدنيين ولم يقبل بها النظام إلا بعد أشهر من التسويف، حيث وقّع على البرتوكول الملحق بعد تهديد ''الجامعة العربية'' بتحويل الملف إلى مجلس الأمن الدولي، في منتصف ديسمبر الماضي، وهو الأمر الذي سمح بانتشار مراقبين عرب في المدن السورية منذ 26 ديسمبر في محاولة لحماية المدنيين من خلال رعاية وقف إطلاق النار وسحب المظاهر العسكرية، وصولاً إلى ضمان حياة طبيعية للسوريين، فيما يستمر الثوار في مطالبهم·