ولد المثقف الميدياوي مباشرة بعد أحداث أكتوبر 88 التي كانت بمثابة شهادة وفاة شعبية وتاريخية ورسمية لنظام الحزب الواحد وشعبويته الوطنية المهيمنة.. كانت لحظة الميلاد علامة جديدة على خريطة الطريق التعددي التي تم الإعلان عنها عبر تعديل الدستور الذي قام بترسيم التعددية الحزبية والسياسية، وكانت الحقبة الجديدة تعبيرا مكثفا عن ديناميكية جديدة وصفت بما بعد الوطنية، وتمثلت سماتها في بروز حراك اجتماعي تميز بتصاعد حركات الإضرابات والاحتجاجات داخل المؤسسات العمومية، وبظهور خطابات سياسية واجتماعية ذات نبرة حدية وراديكالية وبهيمنة العفوية والرفضية ذات الطابع الكلاني وبميلاد صحف يومية وأسبوعية كانت مرآة لوضع جديد صارخ التناقضات وطافح بالتوترات وبنشأة شعبوية أخرى سعت لتكون بديلا للشعبوية الوطنية التي ظهر عليها الإنهاك وعلامات الشيخوخة والأفول، وكانت هذه الشعبوية ذات إيديولوجية إسلاموية، قامت بتعويض شعار الاستقلال، بشعار آخر، ''الإسلام هو الحل'' أو ''إقامة الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وتاريخية''. كانت ولادة المثقف الميدياوي في ظل هذا المناخ، وفي ظل هذا النسيج غير المكتمل والهش لحقبة التعددية، وكانت صرخة ولادته الأولى عندما أقبلت مجموعة من الصحافيين على تنظيم نفسها في حركة غير معترف بها من قبل السلطة آنذاك أطلق عليها اسم ''حركة الصحفيين الجزائريين'' المشكّلة من صحفيين مخضرمين وشباب، ومن أطياف إيديولوجية من اليسار الطليعي والتروتسكوي والنواة الجنينية للتيار الليبيرالي الإصلاحي وقيامها بالانخراط في أحداث أكتوبر 88 في يوم 10 أكتوبر وخروجها من اجتماعها ببيان يطالب بحرية التعبير ويندد في الوقت ذاته بالتعذيب الذي تعرّض له الشبان المحتجون من طرف أجهزة الشرطة.. ثم سرعان ما تحوّلت صرخة الميلاد إلى ولادة حقيقية عندما تمكن المثقف الميدياوي أن يتحوّل إلى شريك في بناء العهد الناشئ، عهد ما بعد نظام الحزب الواحد.. وتمثلت هذه الشراكة في الإعداد مع السلطات القائمة لسياسة جديدة في مجال الإعلام، وظهر في تلك الفترة ما وصفوا بالإصلاحيين في المجال الإعلامي والمجالات الأخرى، وكان هؤلاء الإصلاحيون بمثابة النخبة الجديدة التي أشرفت على وضع التصورات والآليات لنشوء التعددية الإعلامية.. وبالفعل ظهرت على الساحة صحف باللغة الفرنسية والعربية وتحوّلت في ظرف وجيز ليست فقط منابر للرأي وقنوات للأخبار وتشكيل الرأي العام، بل كمؤسسات ومجموعات ضغط نافست الأحزاب التي خرجت إلى نور الشرعية ودخلت في لعبة معقدة مع العصب المتصارعة والمتنافسة والمتنازعة داخل النظام الذي كان يعاني من الهشاشة ومن فقدان القوة واليقين اللذين كانا يتمتع بهما في السابق.. وبالاضافة إلى ذلك، تمكن هذا المثقف الميدياوي أن يتحوّل إلى مقاول بالمعنى المالك للمؤسسة الإعلامية التي جمعت إلى جانب صناعة الخطاب الإعلامي والسياسي الجديد سلطة المال والنفوذ.. وبالرغم أن الملامح الأولى لهذا المثقف الميدياوي لم تكن واضحة بالشكل الكافي إلا أنها بدأت تتبلور مع التطور السياسي والاجتماعي الذي رافق خطوات الحقبة التعددية والتطور الداخلي للمؤسسة الإعلامية التي انخرطت في الحراك الإجتماعي بشكل عضوي ومتناقض ومتشابك بالمقارنة إلى المؤسسات الأخرى الصانعة للنخب مثل الجامعة التي أصبحت خارج لعبة التغيير، وهذا ما أدى بها إلى الانكفاء على ذاتها وإلى الانكماش والجمود والابتعاد ليس فقط عن عملية الشراكة في بناء اللحظة الجديدة بل الابتعاد عن الواقع الحقيقي للجتمع والسياسة.. تحوّلت المؤسسات الإعلامية الناشئة إلى قوة استقطاب لفئات عريضة من الشباب المتعلم المتخرج من الجامعات الذين أصبحوا صحفيين أجراء ووفرت لهم تجربة جديدة في التعرّف على المجتمع وعلى العالم المغلق للسياسة وذلك من خلال تعاملهم المباشر مع الميدان، عبر التغطيات اليومية المكثفة وإجراء الحوارات وعقد الصداقات مع مختلف الفاعلين ليتحوّل هذا التعامل القائم على منطق الخطأ والصواب إلى عملية تراكم في المعرفة والخبرة، وبالتالي إلى تشكل الوعي المثري للتجربة الفردية والجماعية على حد سواء.. ولم يقتصر الأمر فقط بالنسبة لهذه المؤسسات على استقطاب الصحفيين الحرفيين بل عملية الاستقطاب مست عددا من الجامعيين النقديين والمنتجين الذين ضاقوا من جو الجمود الذي سيطر على الجامعة فتحوّلوا إلى كتاب ومنتجي رأي وخطابات تتوجه مباشرة إلى القارئ وصناع القرار.. صراع الشعبويتين وانعطافة المثقف الميدياوي وصل صراع الشعبويتين الوطنية والإسلاموية إلى أوجه في بداية التسعينيات وذلك بدءا من الانتصار الكاسح الذي حققته جبهة الإنقاذ في الانتخابات المحلية عام990 1 وتأكد في تشريعيات991 1 الذي كان مسبوقا بعصيان مدني واستعراض عضلات في معركة الشوارع والرموز ومشاريع المجتمع، ولجأت الشعبوية الوطنية إلى حلفاء جدد من الشعبويين الحداثيين والثقافويين البربريين من التيار اليميني (الأرسيدي) والإسلاميين الإخوانيين في حين راهنت الشعبوية الإسلاموية الراديكالية على الشارع ككتلة كلانية وميتافيزيقية تحيل إلى الدلالة الوجدانية السحرية للأمة وإلى مخزون الخطاب الديني الأسطوري المتجذر بشكل هلامي في اللاوعي الشقي للجماعة. وفي أتون هذا الصراع وجد المثقف الميدياوي نفسه يعيش انعطافة جذرية في انخراطه داخل هذه الحرب المحمّلة بالدلالات والرموز والعلامات والمجازات.. وكان الميدان المفضّل لهذا الصراع أو الحرب، هو ساحة الصحافة كفضاء للقتال الرمزي.. وهكذا صعد المثقف الميدياوي إلى مستوى أعلى في سلم هذه الحرب.. وتحوّلت الصحف إلى أذرعة مسلحة بالرمزية على صعيد اللغة المستعملة كأسلحة.. وتحوّلت عناوين مثل ''لوماتان'' و''ألجيري روبيبليكان'' و''الوطن'' و''ليبرتي'' و''ليبدو لبيري'' مشكلة وحاضنة في الوقت نفسه لهذا الطراز من المثقف الميدياوي مقابل جرائد أخرى تصدر باللغة العربية، مثل ''الجزائر اليوم'' و''المنقذ'' وإلى حد ما ''الخبر'' في الفترة الأولى من الصراع و''الصح آفة'' و''العقيدة'' (الحكومية) التي كان يسيطر عليها تيار الجزأرة، ويذكرنا المثقف الميدياوي هنا بمفهوم المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي وفي كلا المعسكرين تحوّل هذا الطراز من المثقف إلى منتج لخطاب حربي ومؤسس لمخيال جماعي معبأ بانسجامية إيديولوجية جذرية.. وكانت هذه الانعطافة للمثقف الميدياوي حاسمة في انشطار الوعي للجماعة الوطنية.. فالإسلامي في منظور المثقف الميدياوي المنحاز لمعسكر الشعبوية الوطنية تم إعادة تشكيله وصناعته بالاعتماد على مخيال الحداثة الهجين والإسقاطي والميكانيكي كفاشي، ونازي جديد ومهدد ليس للديمقراطية وحسب بل لأسس الدولة الوطنية وجوهر الجمهورية ونفس العملية قام بها المثقف الميدياوي المتعسكر في خندق الشعبوية الإسلاموية بحيث أنتج في وجه خصمه مفاهيم وخطابات جديدة، تنعته بالاندماجي الجديد إحالة إلى اللحظة الكونيالية، والاستئصالي، والحركي، واللائكي بمعناه القدحي والفرانكوش (اختصارا لعبارة الفرنكفوني الشيوعي) إلخ.. وكلا المثقفين الميدياويين انبنى خطابهما على الشطب والإلغاء المطلقين للآخر وعلى الصعيد المجازي انبنى على الاغتيال أو القتل الرمزي.. وحوّل كلا المثقفين الهوية إلى ساحة اقتتال وظف فيها التاريخ بطريقة لا تاريخية والدين والرموز الوطنية التاريخية مثل عبد الحميد بن باديس والأمير عبد القادر، والعربي بن مهيدي، ومحمد بوضياف كما وظفت العصرنة والجمهورية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة كإيديولوجيا.. في قلب الحرب الأهلية اشتعل فتيل الحرب الأهلية بعد لجوء الشعبوية الوطنية إلى أحد رموزها التاريخيين محمد بوضياف الذي جاء بعد منفى طويل على رأس المجلس الأعلى للدولة وانكماش الشعبوية الإسلاموية بعد تلقيها ضربة قاصمة في نزالها مع الجهاز البيروقراطي والأمني للشعبوية الوطنية بحيث تم إلقاء القبض على معظم قياداتها السياسية وتفكيك بنياتها الحزبية والمؤسساتية الناشئة وحظر جرائدها ومغادرة كوادرها إلى المنفى ودخول بعضها الآخر السرية والعمل والمسلح ليفتح الطريق أمام القادة الجدد للحرب الناشئة بين جيل الأمراء والقوات المسلحة للأجهزة الأمنية على الميدان.. وفي ظل هذه الحرب الناشئة انحسر إلى حد كبير تواجد المثقف الميدياوي المتخندق في معسكر الشعبوية الإسلاموية بسبب حل مؤسساته الإعلامية وهيمنة الرقابة على المؤسسات القريبة أو المتعاطفة مع خطها الافتتاحي بحيث منعت جرائد مثل المنقذ، والبلاغ، والعقيدة، والصح آفة، والجزائر اليوم، ولاناسيون، والحدث وغيرها.. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه أمام نوع واحد من المثقف الميدياوي بشكل رئيس ليقدم وجهة نظره وهي الوجهة المتماشية مع القوة النافذة لصياغة خطابه ضمن استراتيجية مكافحة الإرهاب من جهة، وإعادة الصياغة لمشروع القوة الجديدة الناشئة عن التحالف المقدس ضد الشعبوية الإسلاموية وحلفائها المباشرين وغير المباشرين.. وكان الاختبار الأول لهذا المثقف الميدياوي المدعم من طرف الجهاز البيروقراطي السياسي والعسكري متمثلا في المعركة حول مبادرة من وصفوا بجماعة سانت إيجيديو من أجل تسوية سياسية تاريخية بين الشعبويتين المتطاحنتين.. وهنا ظهر المثقف الميدياوي بشكله الجلي والمكافح وجذر خطابه ليس فقط ضد الإسلاموية الممثلة في الراديكاليين والمحافظين، بل ضد تيار داخل الوطنية التاريخية مثله حينذاك كل من عبد الحميد مهري وآيت أحمد وضد تيار من اليسار، مثلته فترتها المناضلة التروتسكية لويزة حنون.. وكانت جريدة مثل ''ليبدو ليبري'' التي كان يرأسها على صعيد الإدارة والتحرير الراحل عبد الرحمن محمودي، وجريدة ''لوماتان'' التي كان يقودها محمد بن شيكو، لسان حال هذا الطراز من المثقف الميدياوي.. لقد صاغ عبد الرحمن محمودي مفاهيم جديدة على صعيد الخطاب الإعلامي والسياسي والأيديولوجي المحارب، مثل، المحور الإيجابي والمحور السلبي وهما أقرب إلى مفهومي الخير والشر كما أنتج مفهوم ل F 3 ESج.. المعبر عن الجبهات الثلاث، جبهة الإنقاذ، وجبهة التحرير الممثلة في تيار عبد الحميد مهري، وجبهة القوى الاشتراكية وانضوائها تحت لواء الحلف المقدس مع ال ئ الرابع، وهو مصدر المحور السلبي يقصد فرنسا ميتران.. كما تحولت ليبدو ليبري إلى المنبر المفتوح لمجموعة يسارية حاولت إنتاج خطاب جديد عن الأمة / التاريخ، وعن الحرب الأهلية وعن الجمهورية وعن أحداث القطيعة مع النظام الريعي من أجل إعادة اختلاق الدولة الوطنية / الجمهورية على أسس جديدة، وكان الممثل الفكري لهذه المجموعة التي كانت تعبر عن نفسها وتوجهاتها اليساري عبد الرحمن شرو الذي تم اغتياله من طرف الجماعة الإسلامية المسلحة أمام منزله.. ونفس الأمر كان بالنسبة لجريدة ''لوماتان'' التي ساهمت بدفع المثقف الميدياوي ليتحوّل إلى قوة نقدية تجاه أفكار وتوجهات بعض العصب نفسها التي كانت تشكل جزءا من النواة الصلبة داخل الحكم.. وبالمقابل كان لجماعة (أو تيار) سانت إيجيديو أيضا مثقفها الميدياوي الذي عمل على إنتاج خطاب نقدي تجاه السلطة وتجاه العسكر، وكان هذا المثقف وراء صناعة السؤال الشهير الذي أزعج الحكم آنذاك.. وهو سؤال ''من يقتل من في الجزائر؟! واستقوى أمام انسداد فضاءات التعبير داخل الجزائر بحلفاء من غير الجزائريين مثل فرانسوا جيز صاحب دار نشر لاديكوفارت، وجوزي ارسون كاتبة افتتاحية بجريدة ليبراسيون، وبيير بورديو عالم الاجتماع الشهير، وجون بول ماري، كبير المحققين بأسبوعية نوفال أوبسرفاتور'' وهذا بالإضافة إلى أسماء جزائرية معظمهم كانوا ممن يعدون لغويا وثقافيا على الفئة الفرنكفونية مثل الصحفي الكاتب عابد شارف، وغنية موفق، وسعيد جعفر أحد منشطي أسبوعية ''لاناسيون'' والكاتبة الصحفية سليمة غزالي... المثقف الميدياوي وفترة ما بعد الإرهاب انضوت المعركة التي خاضها المثقفون الميدياويون إبان عشرية الحرب الأهلية في التسعينيات تحت عنوان كبير ''التصالحيون وà°S'Gئصاليون'' لتتخذ فيما بعد شكلا جديدا وإعادة توليفة جديدة.. وتمحورت حول التوجهات والخيارات الجديدة للحكم في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ العام ,9991. لم يكن بوتفليقة مرتاحا منذ مجيئه إلى الحكم للمشهد السياسي والإعلامي القائم، ولا للديموقراطية التي أنشأها على الصعيد المؤسساتي الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، ولا للنظام الحزبي ولآليات الحكم ومنذ الوهلة الأولى ظل بوتفليقة يرافع من أجل مشهد حزبي جديد مقوماته تتشكل في ثلاثة تيارات أو قوى أساسية تتمثل في الجماعة الوطنية والجماعة الإسلامية المعتدلة والجماعة الديموقراطية شبه العلمانية، وأعتقد أن ذلك يحل من خلال تعديل الدستور الذي يمنح صلاحية أكبر للرئيس، ولم تكن التجربة الديموقراطية حسبه التي أعقبت تداعي نظام الحزب الواحد إلا مفجرة للتناقضات ودافعة إلى المزيد من الهشاشة التي توسعت رقعتها إلى الدولة والمجتمع على حد سواء.. لذا كان الحل بالنسبة إليه استرجاع السلم وإعادة الهيبة إلى الدولة بالمعنى اليعقوبي وإعادة وهيكلة المنظومة الإعلامية إلى جانب إعادة هيكلة المنظومات الأخرى من خلال إحداث إصلاحات جذرية في المنظومة التربوية، ومنظومة العدالة، ومنظومة الاقتصاد، لكن هذا الخطاب ظل إلى حد كبير على صعيد سياسي، وذلك ما جعل المثقف الميدياوي في حالة ترقب وتذبذب إلى أن انفجرت المعركة التي ستدفع به إلى الإدلاء برأيه النقدي تجاه حكم بوتفليقة، عندما أعلن بوتقليقة عن نيته في الترشح لعهدة ثانية.. وكالعادة انقسم المثقف الميدياوي إلى قسمين، قسم وقف إلى جانب فريق الحكم، وقسم آخر وقف هو الآخر إلى جانب فريق اخر في الحكم عندما حاول أن ينتصر لعلي بن فليس الذي انشق عن بوتفليقة واعتمد على قسم من المثقفين المدياويين لإحداث ثورة برتقالية.. لكن بالاضافة إلى الجانب السياسي، أفرز الوضع الجديد موازين قوى مختلفة على الساحة الايديولوجية وداخل المجتمع، وكان تأثيرها كبيرا على توجهات المشهد الإعلامي الذي انضافت إليه عناوين إعلامية جديدة، وجيل جديد من المحررين والمحققين الذين لم يتشكل وعيهم في أتون الحرب الأهلية من كتاب المقالة والمحللين النقديين.. ووجب هنا أن نشير إلى سمة رئيسة ميزت مشهد الميديا، تمثلت في بروز ظاهرة جديدة، وهي الصدور والانتشار الملفت للصحافة المعربة ذات التوجه الشعبوي الهجين.. وبدت على مستوى الخطاب الميدياوي انقسامية جذرية ومفارقة حادة بين الصحافة المعربة الصاعدة وبين الصحافة الفرنكفونية التي تقلص انتشارها على المستوى الجماهيري.. ووجدنا أنفسنا أمام نوعين من المثقفين الميدياويين.. النوع الأول، وهو فرنكفوني في الأغلب باستثناء البعض من المعرّبين والمجيدين في نفس الوقت للغة الفرنسية الذين واصلوا العمل على صياغة خطاب نقدي وتحليلي، سواء عن طريق الكتابة المنتظمة على أعمدة الصحف، وفي تنشيط الحصص أو المساهمة فيها على القنوات الإذاعية أو من خلال التدخل في القنوات الفضائية الاجنبية عبر التحليل والتعليق حول ما يجري من أحداث ذات الصلة بالوضع السياسي أو بالحراك الاجتماعي.. وهذا النوع يتشكل من بعض الجامعيين الذين اكتسبوا فنيات وخبرة جديدة في التحرك من خلال فضاء الميديا، ومن بعض الكتّاب الصحفيين.. ويمكن ذكر بعض الأسماء على سبيل المثال، (الهواري عدي، علي الكنز، شفيق مصباح، ناصر جابي، عابد شارف، قاضي إحسان، أحمد شنيقي، بوزيد بومدين، ليلى عسلاوي (قاضية ووزيرة سابقة) وفيصل مطاوي ومحمد بوعزارة وغيرهم..) أما النوع الثاني من المثقف الميدياوي فلقد تخلى أو جافى النقدية وتحوّل إلى مروّج للثقافة الهجينة التي تريد الحفاظ على الوضع القائم، ولا يحتفظ خطابه بأية استقلالية، بل أصبح أقرب إلى خطاب الداعية الأخلاقي وأقرب إلى العوام من حيث التوجه اللاعقلاني، وأحيانا العدمي، وقد أصبح جزءا من المؤسسات الإعلامية ذات التوجه الشعبوي الهجين، وظهر ذلك في أمثلة شتى، كالإثارة في مقابلة كرة القدم بين مصر والجزائر، والاحتجاجات الأخيرة التي جُرم شبابها، وما أثير حول مسألة التنصير والمسيحية في منطقة القبائل.. كما أن هذا النوع أصبح مندسا داخل خطاب المؤسسة الإعلامية التي بسطت هيمنتها بشكل شمولي، ليتحول هذا النوع من المثقف الميدياتي ممحو الإسم والصورة، ليفسح المجال أمامها كعنوان.. بمثابة خاتمة إن هذا المثقف الميدياوي يعكس حالتين متناقضتين في نفس الوقت، الحالة الأولى، صعد إلى الواجهة بفعل التراجع المهول للأنواع الأخرى من المثقفين (المثقف الأكاديمي، والمثقف الأيديولوجي المرتبط بحزب، والمثقف التقليدي)، في إنتاج المعرفة بمختلف أشكالها، وفي التدخل في الفضاء العام، وفي التأثير بصورة إيجابية أو سلبية على توجهات الرأي العام، أما الحالة الثانية فهو نتاج التطور النوعي والكبير لتكنولوجيا الاتصال ولتشكل هذا التراكم في ظرف وجيز في الممارسة الإعلامية بحيث نشأ عنها وضع جديد