كانت مسألة اللغة، بسبب ازدواجيتها في دولة ما بعد الكولونيالية، سواء في الميدان الفكري والثقافي أو في ميادين الحياة العامة، إحدى الموضوعات الأساسية التي اهتم بها الفكر الجزائري، غير أن اصطباغ الموضوع بطابع تنازعي جعل المنتوج الفكري المتعلق بهذه المسألة يتسم غالبا بالصبغة العاطفية والإيديولوجية·· كانت المشكلة اللغوية في الجزائر تمثل إحدى أهم المصادر المنتجة للتوجهات الأيديولوجية والسياسية، وهذا ما جعل عبد الله شريط، أحد المفكرين القلائل الذين سعوا إلى رفع مستوى النقاش حول المسألة اللغوية إلى القول: ''لقد ظل المعربون والمفرنسون في مرحلة إقناع الذات، غالبا باللجوء إلى حجج عاطفية، مقتنعين، عن صدق أم لا، بأنهم يدافعون عن المصلحة العامة وهذا دون أن يأخذوا، بطبيعة الحال، رأي الطرف الآخر''· وكانت الصحف هي المنابر المفضّلة للجدل والنقاش حول المسألة اللغوية أكثر من الكتب والمجلات المتخصصة· ولعل أهم ما كتب بهذا الشأن هي تلك المساهمات التي قدمها مصصفى لشرف الذي نشر بهذا الصدد عدة دراسات في مجلتيئبىَِّْب و اَّمَْملُح ٍَِّمشب على أن مساهمته التي أثارت الجدل أكثر من غيرها، خاصة في أوساط المعربين، هي تلك المقالات الثلاث التي نشرها في جريدة ةبءتصدح-ج أيام 10 ,9 و11 أوت ,1977 أيام كان وزيرا للتربية والتعليم· وبالنسبة لمصطفى لشرف، فإن الشعب الجزائري لم يتبن اللغة والثقافة الفرنسيتين لأنهما فُرضتا عليه، بل من أجل ملء الفراغ الناجم عن كون اللغة العربية كفت تاريخيا عن أن تكون أداة إنتاج ثقافة· فالشعوب ذات الثقافة العريقة، كما هو شأن الشعوب العربية، لا تتحمّل، من وجهة نظره، الفراغ الثقافي، ومن هنا تبني الشعب الجزائري للغة الفرنسية وثقافتها، تعويضا عن ركود لغته وثقافته الخاصة· واتساقا مع هذه النظرة، رأى ضرورة اتباع الجزائر مرحليا الإزدواجية اللغوية في مجال التعليم معتبرا أن المواد العلمية، لا سيما الرياضيات، لا يمكن تدريسها باللغة العربية· وأبرز من رد على هذا التوجه هو المفكر عبد الله شريط، أستاذ الفلسفة سابقا بجامعة الجزائر، وذلك في سلسلة مقالات نشرت بجريدة ''الشعب''، ترجمت بعد ذلك إلى اللغة الفرنسية من طرف م· ل· بورغدة في كتاب بعنوان ٌ مل مِّّىُّىٌُِ فٌ َِّّْ َُىَىِدصٌ مل ُّم َُّمٍمَهىمََّمص·َُىُّفَّىقفْف على أن شريط لم يختلف مع لشرف فيما يخص توصيفه لأسباب ضعف اللغة العربية والثقافة العربية عموما في الجزائر وفي نقده لنظرة كل من المعربين والمفرنسين إلى المسألة اللغوية، ولا في أهمية الثقافة في بناء المجتمع، إلى جانب أنهما كانا، فضلا عن ذلك، يتقاسمان التوجه الإشتراكي السائد لدى عموم المثقفين الجزائريين في عهد ''الفكر الواحد''· لقد اختلف عبد الله شريط مع مصطفى لشرف في النتائج التي توصل إليها عندما دعا هذا الأخير إلى الازدواجية اللغوية كمرحلة انتقالية في التعليم وحصر تدريس العلوم والرياضيات باللغة الفرنسية، ذلك أن اللغة بالنسبة إلى شريط ليست مجرد ''شكل'' يمكن فصله عن المضمون المتمثل في التعليم، الذي يشكل الأساس، قائلا بهذا الصدد: ''السيد لشرف يتناول قضية التعليم والتعريب حسب منطق الشكل والمضمون، أي الصورة والجوهر إذا ما شئنا استعمال لغة أرسطو· بالنسبة إليه ليس التعريب غير شكل، بينما التعليم هو المضمون، ويمكن إعطاء الأفضلية للمضمون على حساب الشكل، ولو مؤقتا، أي إلى أن تصير اللغة العربية ''موضوع ثورة راديكالية''· حينها يمكنها أن تلعب دورها في التعليم والثقافة''· وإعطاء الأولوية للمضمون على حساب الشكل يعني، عند لشرف، تدريس العلوم والرياضيات باللغة الفرنسية، وهذا ما يراه شريط خاطئا لأنه ''لا أحد يفصل اليوم اللغة عن مضمونها الروحي، والحضاري والإجتماعي''· ويختلف معه إلى جانب ذلك في اعتبار اللغة ظاهرة محايدة، ذلك أن ''التنافس اليوم هو على أشده بين اللغات العالمية من أجل السيطرة على العقول والعواطف والثروات''· وحتى يتضح أكثر رأي مصطفى لشرف في المسألة اللغوية في الجزائر، ينبغي التوضيح بأن صاحب كتاب ''الجزائر: الأمة والمجتمع'' يعتقد بأن القوميات هي ''حركات مرحلية تركز عملها على الدفاع عن شخصية متضمنة لقيم هي في حد ذاتها صالحة أو فاسدة، وتقوم بدور الحافز المحرك للشعوب· ولكن لا تكاد الحركة القومية تحرز النصر بعد تحرير الوطن وتمهيد السبيل لقيام الدولة، حتى يكون دورها قد انتهى عمليا''، وهذا يعني أن الأسس التي قامت عليها القومية في الجزائر أو النزعة الوطنية على وجه الدقة، والمتمثلة بالأساس في العروبة والإسلام، التي كان لها دور تعبوي مناهض للاستعمار، قد انتهت وظيفتها بعدما حققت هدفها من خلال طرد الاستعمار وحصول البلاد على الاستقلال· ويرى بأن استمرارها يشكل ''العقبة الأساسية للتقارب العالمي الذي ينبغي أن يظهر في ميادين الثقافة والحياة الاجتماعية والاقتصاد والسلوك المدني، وعلى الأخص في عقليات الأفراد، تلك العقليات التي لها أثر بالغ في تغيير القيم السائدة في المجتمع·'' هذا ''التقارب العالمي'' في ميادين الثقافة وغيرها هو بالتالي ما يمكن اعتباره -من وجهة نظر لشرف- السبيل إلى الحداثة، الذي تمثل الازدواجية اللغوية في التعليم أحد مداخلها· غير أن عبد الله شريط الذي يرى ضرورة تعلم اللغات الأجنبية، يعتبر في آن واحد بأن ''اللغة هي أحد المكونات الأساسية الأكثر أهمية للشخصية· وعدم استعمالها ولو لفترة مؤقتة يعرضها لخطر الاستيلاب''· وهكذا يمكن القول إن الجدل الذي دار بين لشرف وشريط، ويختزل عموما النقاش العام والمستمر في الجزائر حول المسألة اللغوية، يتعلق بالشروط الثقافية لدخول الحداثة، وبالتالي للخروج من التخلف بعدما تم التخلص من الاستعمار: هل يكون عبر بوابة اللغة الفرنسية، لغة الحداثة، كما يراها أنصارها، تلك التي وصفها كاتب ياسين ب ''غنيمة الحرب''، أم عبر اللغة العربية، اللغة الوطنية، التي تمثل أحد مكونات الهوية الوطنية، إلى جانب الإسلام؟ أي بتعبير آخر: هل ينبغي الفصل بين الحداثة والهوية أم، على العكس، ينبغي الربط بينهما؟ فعلى خلاف ما كان الأمر في الفكر العربي في البلدان العربية الأخرى، حيث لم تطرح المسألة اللغوية في جدل الحداثة والهوية، باعتبار أن المشكلة اللغوية لم تكن مطروحة فيها، فإن المسألة اللغوية في الجزائر كانت في صلب الجدل القائم بين المثقفين حول هذا الموضوع· كانت الفرنسية عموما في نظر المدافعين عنها وفي نظر مفكريها ترمز إلى الحداثة واللغة العربية إلى الماضي والدين والتخلف· وكان أنصار العربية والتعريب ومفكروها الذين كان شريط ومولود قاسم وأبو القاسم سعد الله من أبرزهم ولم يقفوا موقف العداء من تدريس اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الأجنبية التي كانوا هم أنفسهم يتقنونها، يرون أن الفرنسة تشكل خطرا على الهوية الوطنية، وبأنه لا يمكن إنجاز الحداثة بلغة أجنبية أو على حساب الهوية الوطنية· والحقيقة أن الجدل حول المسألة اللغوية التي كانت أحد أهم محاور الفكر الجزائري في مرحلة ما بعد الاستعمار، التي هي من مخلفات الحقبة الكولونيالية، لم يكن مرتبطا فقط بمتطلبات بناء دولة ما بعد الاستعمار وبمعضلة التخلف وبأدوات اللحاق بركب العصر، بل أيضا بمسألة الهوية، أي بالجواب على سؤال: من نحن؟ لقد كان الفكر اللغوي الفرنكفوني دائم السخرية مما يعرف في أدبيات الخطاب الرسمي ب ''الثوابت الوطنية''، أعني العروبة والإسلام، وكانت فرونكفونية هذا التيار تدفع به على صعيد الهوية إلى التركيز على البعد المتوسطي وعلى البعد الأمازيغي الذي كان بالفعل منسيا كمكون من مكونات الهوية الوطنية منذ عبد الحميد بن باديس إلى قيام دولة ما بعد الاستعمار، وعلى الصعيد السياسي إلى المناداة باللائكية نتيجة الربط الوثيق في تصور الإيديولوجية الفرنكفونية بين العربية والإسلام· ويمكن القول عموما إن موقف المثقفين الفرنكفونيين من اللغة العربية لم يكن يختلف كثيرا عن موقف الحداثيين العرب من الدين الذي يرون فيه عاملا من عوامل التخلف، وبأنه يمثل أحد العوامل الأساسية التي تربط المجتمعات العربية والإسلامية بالماضي الذي ينبغي تجاوزه· كانت الإيديولوجية الفرنكفونية ترى مثل ذلك في اللغة العربية، لغة الماضي، ''لغة الآخرة''، كما يذكر لشرف، أي لغة الدين، مما جعلها ترى في اللغة الفرنسية الحل السحري لمشكلة التخلف في الجزائر والبوابة الأولى للحداثة· لهذا من الصعب مشاطرة جيلبر غرانغيوم في رأيه بأن سياسة الحكم فيما يخص اللغة العربية، أو التعريب، كان يمليها البحث عن مشروعية سياسية على أساس أن ''اللغة العربية، من خلال علاقتها بالإسلام، هي الوحيدة القادرة على منح مشروعية للحكم في الجزائر···''، ذلك أن اللغة العربية -كما رأينا- كانت موضع رفض من قبل المثقفين الفرنكفونيين الذين كانوا متنفذين في مختلف دواليب الدولة، بينما الشعب الذي كان على أية حال يتكلم اللغة الشفوية، غير المكتوبة، لم يكن يهمه كثيرا ذلك الجدل الذين كان حكرا على المثقفين· والصحيح أن السلطة نفسها -ولا تزال على الأرجح- كانت منقسمة بشأن المسألة اللغوية، وهذا ما سمح بوجود هذا النقاش حول اللغة والثقافة الذي لم نجد له نظيرا في مجال السياسة، حيث كان للرأي الواحد، للرأي الرسمي، السيادة والهيمنة المطلقة· فالديمقراطية لم يسمح لها بالتعبير عن نفسها إلا في مجال الجدل المتعلق بالمسألة اللغوية· ولا بد من التوضيح بأن الإيديولوجية اللغوية الفرنكفونية لم تكن تنم عن ضعف الروح الوطنية، كما كان يدعي بعض دعاة التعريب، مثلما أن الدفاع - بالمناسبة - عن العربية لم يكن معيارا للوطنية· فعلى خلاف ما يراه مصطفى لشرف وأمثاله الكثيرون، ليست اللغة مجرد أداة بالنسبة للإنسان، بل الصحيح، في ظروف معينة أن الإنسان هو الذي يكون أداة للغة التي ينطق بها، فهي التي تتكلم من خلاله، تحدد عواطفه وميوله واتجاهاته، فالإنسان بقدر ما يمتلك لغة بقدر ما أن هذه اللغة تمتلكه وتهيمن عليه· وعلى هذا الأساس كان لا بد للفرنكفونيين أن يتخذوا عموما تلك المواقف المعادية للعربية ولكل ما ترمز إليه من حضارة ودين وهوية، لأنهم لم يكونوا سوى مجرد أدوات للغتهم· والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المعرّبين· لقد كان الجميع أبناء اللغة التي ينطقون بها، عبيدها، إن جاز التعبير· أما عن المصالح اللغوية الكامنة وراء هذا الصراع، وقد كانت ولا شك موجودة، إلا أنها لا تستحق أن نقف عندها· إختلاف المثقفين على أساس لغوي وانشغالهم بهذه القضية حال دون تحوّل المثقفين الجزائريين إلى فئة مؤثرة على السلطة، وإن كان لهم الدور الأول في طرح مسألة الهوية الوطنية سواء في بعدها العربي الإسلامي الذي كان ابن باديس أول من حددها على هذا الأساس أو في بعدها الأمازيغي الذي كان المثقفون الأمازيغ الفرنكفونيون في مقدمة من طرحها، خصوصا أثناء دولة ما بعد الاستعمار وإن شاطرهم في ذلك مثقفون معربون أمازيغ، ولكن بدرجة أقل· وكون المثقفين هم السباقون دائما إلى طرح مسألة الهوية، كان له بالتأكيد إيجابياته، لكن أيضا سلبياته، إذ أن هذه الهوية كانت تحمل طابعا نخبويا، لهذا خلت ثنائية ابن باديس من البعد الأمازيغي، لأن الأمازيغية على خلاف العربية في تلك الفترة، كانت مجرد ثقافة شفوية، شعبية، لا كتابة لها، والمثقفون الفرنكفونيون الذين يركزون من ناحيتهم على الإنتماء المتوسطي، وهو بعد قائم حقا من الناحية الجغرافية، إلا أنه من الناحية الثقافية لا يعني شيئا في وجدان الشعب، ذلك أن الإحساس بالانتماء هي حالة وجدانية عامة جامعة لعامة الشعب، وإلا عجزت عن أن تكون ذلك العامل المؤسس للعيش المشترك الذي يمثل الوظيفة الأساسية للهوية· كان احتلال المسألة اللغوية ومن خلالها مسألة الهوية لمكانة أساسية في الفكر الجزائري في دولة مابعد الاستعمار مرتبطا بزوال العامل الذي كان يجمع الجزائريين ويوحدهم كشعب: وجود الإستعمار الفرنسي· أما، وقد زال هذا العامل، فكان لا بد لمسألة أسس العيش المشترك بين الجزائريين من أن تطرح نفسها في ظل الاستقلال، أعني في ظل غياب عدو الأمس· في هذا الإطار، طرحت مسألة الهوية الوطنية ومعها مسألة التواصل اللغوي بين الجزائريين·