نسبي من نسب جدي، جدي غزَّاوي من بني هاشم، وهاشم جد النبّي، نسبي وسلالتي فخر وانتماء إلى المنزل النبوي، إلى الحضن المحمدي، إلى حضرة الرسول الأكرم محمد صلى اللّه عليه وسلم، في التحبب له والتقرب من مقامه وطلب الشوق لرؤيته مناما، حلما ورؤيا ونشيدا وحضرة، أماني وسلوات ومكارم، هكذا في التحبب له ينشأ المقال الشعبي الإسلامي العام ويتمدد على مَساحة عفوية بها الشساعة والفسحات، فمن حدثنا عن نسبويته الرسولية ليس فقط عالم من علماء الصوفية والهائمين على درب العشق الإلهي، ليسوا فقط أصحاب الكرامات العلوية والحظوظ السماوية والعلماء من أولي النهى والعقل والحصافة بل حدثني طالب علم شرعي صغير، مجرد فتى يهذي بالوصال المحمدي ويتخبط خبط عشواء في شجرة الأنسابْ ويلحق لقبه بنبي البرية وخاتم الرُسل ودليل الفالحين، لا ضير في أن يتوَّسم المسلمون الطريق العاشق، ينشدون النبي، يلهجون بحسن أسمائه ويلهجون بأحاديثه ويلهجون بأخلاقه الطيبات وبشيمه الباديات·· ليس ذكره وتذكره والإستشهاد بنفحاته هو ميزة في الكلام الإسلامي ومكون هام من مكونات الشأن الخطابي العربي المستلحق بالوظيفة الدينية الإسلامية، فليس التذاكر به ومن أجله هو ميزة فقط، بل إن السيرة العطرة تتكشف في الغزارة وتتكاثف في النظم وتنكتب في المدونات والتأريخات على النحو التَّوالُدي الذي لم تكتب فيه سيرة مسبوقة أو قصة رسالة أو بيوغرافيا شخصية كما كانت في سيرته وقصته - محمد صلى الله عليه وسلم- العرب والغرب كتبوا عنه، حصَّنوا مقولاتهم بأدبه وتحصَّنت بلاغاتهم بأفعاله المعصومة وخُطاه المسدَّدة، تولستوي وغوته، وليسا هما فقط، غارودي ورودنسون، أندري ميكال وجاك بيرك وموريس بوكاي، ومن المتأخرين كُثر في الكتابة الأكاديمية، وفي التداول الإعلامي وفي الخلق الروائي، أعمال زاخرة هَيابة المعاني، مدهوشة، متيَّمة ولهانة، منصفة محايدة متفربة شارحة موسعة دالة ذوات مدلولات ومباني وتأويلات، ضيْر لا يكون وعجب لا يلحظ أكثر إذا ما تأمل الواحد فينا أيضا في المكتوب عنه عربيا بدقة في الوصف وتسلطن في العبارة وتذوق في الغناء والقصيد، المتن الوصفي السيْري، الوقائعي للنبي ليس بقليل البتَّة مذ سيرة ابن هشام وكلام الأوائل في شمائله، إبن القيم، إبن تيمية، إبن عبد الوهاب، على أن التداول السلفي لم يكن كافيا لوحده لرصد التجربة المحمدية بمخزوناتها ومكنوناتها فالحال سار إلى الإجتهادات الأخرى لكافة المدارس العربية في الكتابة عن شخصه وشخصيتٌه، حتى وصم البيوغرافيات الحديثة عنه بالكتابة الجديدة المصحوبة بالمنزع المعرفي إذ هي اختلفت في الأسلوب والطريقة والمنهج عن المقاربة السلَّفية، اجتهد محمد الغزالي في فقه السيرة وقدمه بزخمه البلاغي المعروف، عمل محمد سعيد رمضان البوطي بذات العنوان فقه السيرة مع نفحة صوفية تعشقية بائنة، وكلَّل جهد الكاتب الهندي صفي الدين المباركفوري في الرحيق المختوم بالشهرة وحسن الذلوع العالم الإسلامي - مع احتمالية وجود ترجمات عالمية مختلفة له - وقد استأمنه المسلمون واتخذوه مرجعية ومرجعا في النقل والصحة والثقة البيانية، إن الرحيق المختوم يسير في مقروئه، أبعد عن الزخرفة والطنطنة اللغوية، باسط سطوره لعامة المسلمين وخاصتهم، كما نال كتاب عائض القرني - محمد كانك تراه- الإنتشار والحظوة في عنونة تتماهى مع توجهات القرني البصرية ولمعانه التلفزيوني، إذ يبدو العنوان على إثارة إيجابيَّة للجو الإسلامي ويبيع الكتاب أرقاما هائلة ويسوَّق في كل نقطة ومكان من مكة إلى الدارالبيضاء ومن الدوحة إلى إسلام أباد ومن جاكرتا إلى باريس·· سواءٌ أكانت الكتابة السيرية تراثية، نقلية، استعادية، تفاخرية - نثرا وشعرا-أو هي دراسية تعليمية تربوية تتضمن عناصر التفكيك والتأويل والمشاهدة والفحص والإخبار التأريخي فإن الجماعة السلفية بعموم مدارسها هي التي تهيمن على المناخ العام في الأخذ والمناقلة والإستدلال، إن المهيمنين هم المشائخ والدعاة ورجال الحديث والشريعة وليسوا الأدباء والمتفقهين بعلوم البلاغة ومذاهب القول والبيان والروائيين وكتاب السّيرذاتية وهنا فاصلُ بيني في المسألة فرغم الوفرة في النتاجات والكتابات السيْرية الصادرة من غير المنتمين إلى المدرسة الكلاسيكية للفكر الإسلامي إلا أن الإستبعاد والنفي يظل الآليات في عمل المؤسسة التاريخية الإسلامية، إنها لا تعتمد الشراح والمتأولين والمتأدبين، بَلى، لينظر ماذا فُعل بطه حسين في كتابه المعروف، وكتاب عبد الرحمان الشرقاوي وكتاب خالد محمد خالد - ''الخالدون مائة وأعظمهم محمد'' وثلاثية أحمد أمين ''فجر الإسلام وضحى الإسلام وفجر الإسلام''، وكتاب عباس محمود العقاد ''مطالع النور''، لقد ظلت المشيخة الإسلامية مغلقة، منكمشة، مانعة لأية أسلوبية جديدة أو منهج روائي حديث في بعث السيرة النبوية وإذكاء رو ح العصر على طرائق تدريسها وأساليب تلقينها ولذلك اعْتبرت الكتابة المتحررة الإصلاحية- في نماذجها المذكورة أعلاه- كتابة علمانية أو هي تجديفية أو هي آخذة بالوجهة الإنسية غير المتعالية وهو ما لا يليق ولايستقيم مع الرؤية المعهودة المثبتة بالنقول والمرويات والنزعات التي لا تقبل بأن تحيد عن مناهج الحديثيين، لكن زمنا على المسلمين جاء حاسما، قاطعا لجهينة الخبر والنهج، اللغة والعصمة، المتعالي والمقدسي، اللاَّئق والذي لا، عبقريٌ سينمائي في مصاف المخرجين العالميين يقدم فيلما، الفيلم يسمى بالرسالة، يمثل هذا الفيلم المنطوق المطلوب في أن يكون عليه الحدث النبوي الضَّخم، محنة الطفولة وشق الصدر، وقبلها عام الفيل، الرضاعة عند حليمة السعدية، اشتغاله بالتجارة مع عمه، تعرفه على خديجة ومرافقته لغلامها ميسرة، محنة الوحي، محنة التبشير والدعوة وسخط القوم، العذابات والإكراهات وقرار الهجرة، العودة إلى الموطن التوحيدي الخاص، إستكمال الشعائر، الفتوحات،هي ملحمة المخرج العالمي السوري مصطفى العقاد التي يمكن وضعها في خانة الأنموذج الخارج عن التصنيف والمفتوح على التأويل وهو ليس من ضمن المنظومة السلفية وما تعرضُه على الناس من توجيهات ومفاهيم ومحدّدات، الرسالة هي خطاب، جدل وحوارية، شقاء إنساني ورسولي وتسامح، شوق وغبطة وابتهاج، نصرة وضيافة وتمكين، مركزية ضامنة للتوازنات وتفكيرات سلسة·· لقد سادت ''الرسالة'' وتمدَّدت وتوطئت ومن حيث هي لم تتشاغل في التوصيفات والمنآجيات على حساب الأطروحة وعقلنة اللحظة الإسلامية المفعمة بالمشاعر والوجدانية وانغمارات الوجد النبوي، أبغي القول أن المدرسة الإصلاحية التي مثلها عبد الرحمان الشرقاوي خالد محمد خالد والعقاد وأحمد آمين هي فصَّلت وفصلت في أشياء كثيرة، فلقد ظلت موضوعات كالتجسيم والإعجازات والخوارق عملا من أعمال المعرفة والجهوزية العقلية التامة ولا تجد لها التأسيس الحيّ، العلمي والفلسفي، على الأقل في الراهن العاجّ بأنوار الحداثة وضروب التجارب·· هناك مقْبولية في منابذة أعمال وسير باطلة راح يكتبها معروف الرصافي في ''الشخصية المحمدية وخليل عبد الكريم في ''فترة التكوين'' ولقطات سيرية منقولة عن الصادق النيوم، وسيد القمني، وفراس السواح، فأعمالها جانبت المنهج التأريخي واستبدلت التقديسي والتمجيدي والفخري السلفي بالتجديفي والإباحي والتطرفي في دراسة العهد النبوي الشريف·· بالكاد لا يكون فقط النَّثر النبوي ومدارسه وإشكاليته هو من يستأثر بالتداول والتفسير أو بالتمجيد والإشادة، ففي حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم نشأت آداب وفنون تنتمي إلى المنظومات المتغايرة، لقد تفنَّنت الصوفية في الشد والغناء والمديح النبوي حتى شكَّلت ظاهرة موصوفة، بالشعر وبالشفاهية، بالمقول والأرجوزة، بالأوراد والأدعية والتوسل والشفاعة باللقاء الإجتماعي ومناسبات المولد النبوي وطقوسه انطرحت ''الرسالة'' بوصفها حضرة ومجالسة، نشيدا وأهزوجة، تغني وبكاء ومحمدّيات، إنه المعنى الذي يجيء مع كتاب الألماني استيفان فايديز-اغواءات محمدية- يجيء مع كتاب مراد هوفمان الطريق إلى مكة، يتخذ المولد النبوي بطقْسياته كالنزياح للتجلي الإسلامي وخطابه- لاسيَّما في العالم السني- وهو يعكس ثقافة عربية وإسلامية مجتمعية ليس لها صفة دائمة بالمذاهب والملل والنحل من سلفيات وصوفيات وحداثيات، فكثيرا ما تحتضن الواقعة الإسلامية ما كان من مألوفاتها وما لم يكن، امتزاج الحاضر المجتمعي بالماضوية الدينية سمة أخرى ومشهد انزياحي لا يطلع بالضروري من بواطن الكتب أو من أفواه الدعاة أو من حلقات الجوامعْ·· إن بلادا كالجزائر العاصمة كانت تولي لمولده العناية والتأهب فعندنا كانت العادة أن يتلى صحيح البخاري طول الليل، وتضاء الشموع ويحمل القراء المصابيح وهم يجولون الشوارع، يرتلون من الشعر الديني أعْذبه وأصدقه ومن الموشحات والمواويل أرقّها وأرهفها، كانت النسوة يعددن أفضل الأطعمة وألذها، ويلبسن الرجال أنيق الأثواب وأنصعها مع الطيب والعنبر، كانت حلقة السيرة هي حلقة في الإجتماع الديني والمدني الحافل بصنوف الإنشراح واللهو البريء والتدين السمح، لقد بدا لي دائما أن أم كلثوم هي فعلا مطربة هوى وهيام نبوي وفي حضرته ولحضرته غنت وأنشدت رائعة أحمد شوقي·· ''ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسُّمٌ وثناء··