الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    المغرب: لوبي الفساد يتجه نحو تسييج المجتمع بالخوف ويسعى لفرض الامر الواقع    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    الشباب يهزم المولودية    سباق الأبطال البليدة-الشريعة: مشاركة أكثر من 600 متسابق من 27 ولاية ومن دول اجنبية    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    العدوان الصهيوني: الأوضاع الإنسانية في غزة تزداد سوء والكارثة تجاوزت التوقعات    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العبور الثمانيني للشاهد المتعجل.. بلحسن سوسيولوجيًّا
نشر في الجزائر نيوز يوم 13 - 02 - 2012

..لقد استطاع عمار بلحسن أن يستشعر في أواخر حياته مواطن الخطرفي هذه البنيات الهشة، وأن يرصد مواضع الدّاء بحسه النقدي ورؤيته الاستشرافية، لكن كذلك بما وفره له الدرس السوسيولوجي النقدي من إمكانيات وضع المقدمات والنتائج في أماكنها الصحيحة من دون القفز على المسلمات أو السطو على النتائج وتوجيه مساراتها إلى غير الوجهة الآيلة إليها..
1- شكلت مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي نفق عبور مأساوي ليس بالنسبة لما سيكون عليه الخطاب الفكري والثقافي في المرحلة اللاحقة، ولكن، وهذا هو الأخطر، بالنسبة لجل المثقفين الذين كان لديهم الحدس الكافي والحساسية اللازمة لاستشراف الحقبة المظلمةمن تاريخ الجزائر المعاصر وما حملته من متغيرات في البنية المُؤسسة للدولة الوطنية، فكانت أقلامهم مغطوسة في حبر المرحلة وكتاباتهم متلونة بتلوينات حشرجات أنفاسهم وهي تشاهد المدّ القادم من بعيد يأخذ في غير إنذار ظاهر ولا انتظام جل الطموحات المعلقة على أبواب مرحلة الاستقلال الوطني إلى هاوية الحلم. وهي بهذا الحضور الكثيف والثقيل في مدونة الأزمنة المتعاقبة على الجزائر، تعد المرحلة الأكثر حدة في طرح المقولات الفكريةوالسياسية والثقافية والنقدية المتروكة في باحة البيت الوطني دون حلّ، والأكثر غموضا وتعصبا وابتعادا عن العقل في إيجاد إجابات جذرية ومقنعة لها.
وربما بدت هذه المرحلة أبعد ما تكون عن واقع العشرية الثانية من الألفية الثالثة وما فرضته وتفرضه من تغيرات جذرية على مستوى الفعل المرتبط بالحراك الاجتماعي في المجتمعات العربية عموما والمغاربية على الخصوص. وربما صار الكثير من المثقفين والدارسين والمبدعين ممن عبروا النفق الثمانيني عبورا حقيقيا أو عبورا افتراضيا أو لم يدخلوه أصلا، غير معنيين بصورة مباشرة بما أفرزته فترة الثمانينيات من القرن الماضي من نتاج فكري وثقافي وإبداعي نظرا لعدم توفر شروط الربط المعرفي والمنهجي الذي يبحث من مسببات النتائج التي آل إليها الواقع الحالي في ما سبقها من إفرازات فكرية ومعرفية، هي على درجة كبيرة من الأهمية وعلى درجة وثيقة من الارتباط باللحظة الآنية لحركة التاريخ، وكذلك نظرا لعديد التشابكات والتعقيدات التي تعكسها صورة الواقع وهو يحاول أن يكتب صفحة جديدة من التصورات الأولية لما ستكون عليه هذه المجتمعات في العاجل القريب وفي الأجل البعيد.
غير أننا ونحن نحاول العودة إلى تراكمات ما أنتجته المرحلة وما تلاها في التسعينياتفي الجزائر خاصة، من أفكار سياسية وثقافية واجتماعية، نسجل ضرورة التوقف طويلا عند مجموع هذه الأفكار وتمظهراتها على مستوى الخطابات وعلى مستوى المشاريع وعلى مستوى تأثيرها في تشكيل جيل من المثقفين والدارسين الذين أخذوا على عاتقهم التصدي بالدراسة والتحليل لعديد الظواهر المتعلقة بمجموع الإشكاليات المطروحة في هذه الخطابات. وسيلاحظ الدارس مدى ثراء الفترة الثمانينية نظرا لانفتاح حقل الممارسة الفكرية والثقافية على النفق المظلم، من حيث إنتاج خطابات تحاول قراءة التحولات التي كانت تجري بصورة تحتانية في بنية المجتمع الجزائري خاصة، من وجهات نظر ليست متباينة على مستوى التوجهات الإيديولوجية والطرح المنهجي فحسب، ولكن متصارعة كذلك على مستوى حدة التصور المؤسس لقطبية هذه التوجهات في شكل ثنائية متضادة ستطغى على مستوى الفعل السياسي والحراك الاجتماعي في فترة التسعينيات في الجزائر، وفي بداية العشرية الثانية من القرن الحالي على مستوى المغرب العربي خاصة والعالم العربي بصورة عامة. وسيلعب قطبا هذه الثنائية دورا أساسيا في تجييش الأفكار داخل هذه الخطابات وترسيخ منطلقاتها الإيديولوجية في بنياتها السطحية والكامنة.
2- لا يختلف إثنان في أن النخبة المثقفة، التي يتساءل المرحوم عمار بلحسن فيما إذا كان أصحابها ''أنتيلجنسيا أم مثقفون في الجزائر؟''، وفي هذه الفترة خاصة، كانت في غالب الأحيان صدى لما تحمله هاتان الثنائيتان من مبادئ سياسية وإيديولوجية وتشهره سلاحاً في وجه تسارع حركة التاريخ التي حاول ''الإيديولوجيون الكبار'' الذين يعتقدون عادة أنهم أولى من الجميع بالتلاحم النظري مع سياقاتها، توجيهها وفقا لرغباتهم ومصالحهم انطلاقا من اعتقادهم المطلق بقدرتهم على صناعة النخب التي تصنع بدورها الخطابات اللازمة للعب دور الإقناع أو التوجيه أو التحييد أو التعبئة، وشحن بطارياتها في اللحظات الحرجة لحركة التاريخ من خلال تحيين المنغّصات النائمة في البهو الخلفي للبيت الوطني وإلقائها في ساحته الكبرى -المسمّاة عادة بساحة الشهداء- ليتلقفها المثقفون خاصة ويجتهدون حينذاك في تأجيج شراراتها وتعميمها في هشيم الواقع الاجتماعي.
ربما أعطت حدة الوعي بحساسية المرحلة التاريخية لعمار بلحسن فرصة النفاذ إلى عمق المساءلة الثقافية من كوّة أكثر اتساعا لم تُعْطَ لكثير من أبناء جيله، ومكنته من الاطلاع على واقع الممارسة الحياتية الآيل إلى التغيّر الجذري في بنياته والانتقال العنيف في حركيته -كما هي عادة المجتمع الجزائري- من مرحلة ما بعد الكولونيالية كما تُصوّرها أدبيات المثقف الثوري إلى مرحلة إعادة تركيب صورة المجتمع الجزائري في ذهن الجيل الجديد من المثقفين بطريقة مختلفة عما كان ''الإيديولوجيون الكبار'' الموروثون من الفترة الكولونيالية يخططون لترسيخه في ذهنيات هذا الجيل من خلال الإصرار على توجيه المنطلقات الفكرية للمسار الثقافي للأمة في المقررات التعليمية والخطابات الثقافية والبرامج الاجتماعية وتمديد فعاليتها المنعدمة إلى فترة الثمانينيات، مما أدى إلى تكليس الرؤى الاستشرافية وتغليب التحليل غير الواقعي (الموصوف بالواقعي) لاحتياجات المجتمع دون الأخذ بعين الاعتبار انفتاح الساحة الفكرية والثقافية على أبواب لم تكن مفتوحة من قبل أدت مباشرة إلى إيقاظ الروايات المختلفة للحادثة التاريخية المكبوتة بصورة متعمدة منذ أمد بعيد في المدونة الوطنية، وفتحت الباب أمام استيقاظ الأصوات المغيبة عن الساحة منذ الاستقلال وإزاحة فرضية توريث العمى الإيديولوجي المعمم على الأجيال القادمة المستعدة بغير معالم واضحة إلى الدخول في مغامرة القرن الجديد.
ولعلها الفترة التي تحوّلت فيها صورة الكثير من هؤلاء ''الإيديولوجيين الكبار'' من فاعلين ثوريين أثناء الثورة وفي فترة الاستقلال إلى جزء من الإرث الكولونيالي في صورته الإنسانية المنفتحة على مآلات النخب المولودة تحت مظلتها الزمنية والمتغذية من ينبوعها الثقافي والألسني، فأصبحوا بفعل الممارسة الشمولية للعمل السياسي والإيديولوجي في فترة ما بعد الاستقلال جزءا من المشكلة بعد أن كان الكثير منهم عنصرا أساسيا في تعبيد الطريق الوعرة للوصول إلى الحلّ الذي أدى بالمجتمع الجزائري إلى الخروج من النفق المظلم للحقبة الاستعمارية.
وربما كان عمار بلحسن أكثر المثقفين الجزائريين في تلك الفترة اقتناعا بحتمية حركة التاريخ وهي تعيد ترتيب البيت الداخلي وفق تراتبية لم يعهدها الواقع السياسي والاجتماعي في جزائر الثمانينيات، ولكن بطريقة كان يحذر من أن تقع فعلا، فتلاحمت مأساته الشخصية المتمثلة من مرضه بمأساة المرض المعمم الذي ربما أبصره قبل غيره مقبلا بخطى ثابتة للاستقرار في أوصال الإنسان الجزائري في فترة التسعينيات، فورث منه نصيبه الذي أدى به إلى استشراف حالاته المستعصية الآتية من العُقد المتروكة دون حلّ في عمق التاريخ الجزائري الذي لم يُقرأ كتابُه المفتوح على الأزمنة والمتروك مخطوطا يحاوره الغبار بصوت جهوري مرتفع إلى اليوم. ولعله لذلك كان يحاول أن يقرأ حركية المجتمع من عمق اللحظة الممزوجة بمأساة الذات وهي تعاني من ترهل الجسد آملا في أن ''تكشف الغمة عن هموم الأمة'' وأن يُرفع الداء المسلط عليها كما الطاعون على شعب طيبة.
3- ينتمي عمار بلحسن إلى جيل من المثقفين الجزائريين الذين عايشوا الثورة الجزائرية دون أن يكون لهم السن الكافي للانخراط في العمل الثوري على غرار من سبقهم من المثقفين. فجيل الخمسينيات من القرن الماضي لم تتوافر له فرصة الالتحاق بالثورة نظرا لصغر سنه، ولكنهتحمّل وهو في العاشرة تقريبا قوة وقع ردة الفعل الكولونيالية على الفعل الثوري المصمم على الخروج من نفقها المظلم، وهو بذلك يكون - كما العديد من أبناء جيله ممن سيصيرون أدباء وكتابا وشعراء وباحثين في الجزائر المستقلة- قد تمثل الفترة الأكثر حساسية في تاريخ الجزائر المعاصر من حيث تأكيد الانتماء إلى الشعب والقطيعة مع الأنموذج الاندماجي الذي حاولت فرنسا الاستعمارية أن تفرضه على المثقفين الجزائريين، فحاول العديد منهم إعادة إنتاجه بلغة المستعمر وتكريسه في خطابات ما قبل الثورة وأثناءها، وبقي العديد منهم وفيا له بصور مختلفة خفية وظاهرة بعدها.
كما يكون عمار بلحسن قد انطبع - تماما كما أبناء جيله من المثقفين - بما حملته هذه الفترة من آلام في خضم مأساة الجرح الكولونيالي، وهو يعمق الفعل الجذري في جسد الإنسان الجزائري من أجل إرغامه على تمديد فترة الخضوع للقيم الكولونيالية على الرغم من تغير الظرف التاريخي وشيوع المد الثوري الطامح إلى تحرير الإنسان المستعمَر والداعي إلى سلوك الفعل الثوري طريقا وحيدا لتحقيق الحرية. ولعله، نظرا لشدة هذا الوقع متعدد الأوجه، أن كان أثره باديا على هذا الجيل الذي ينتمي إليه المرحوم عمار بلحسن بصورة جلية، ليس في الاقتناعات الفكرية والإيديولوجية التي سيؤمن بها صادقا فحسب، ولكن في التوجهات التي سيسلكها في التعبير عن مكنونات المرحلة التاريخية التي عايشها وهو طفل، وحاول أن يفك عقدها (أو الفكاك من عقدها) وهو شاب مقبل على الحياة، وسعى إلى تجسيد اقتناعاته من خلال المشاركة في فعاليتها، وهو رجل مندرج في فاعلية حركتها وفق ما وفرته له إمكانياته الفكرية من وعي بالمرحلة التاريخية التي أصبح هو وأبناء جيله ينتمون إليها في فترة الاستقلال.
ولعل ثقلا تاريخيا كهذا الذي يحمله على عاتقه كل جيل أتاحت فرصة التاريخ لممثليه أن يكونوا مخضرمين هو الذي سينجب في فترة الاستقلال العديد من الباحثين السوسيولوجيين، الذين كان عمار بلحسن واحدا منهم في فترة شهدت طغيان الدرس الثوري وشيوعه على عموم التوجهات الفكرية والثقافية، وذلك على غرار عبد القادر جغلول والهواري عدي ونذير معروف وعلي الكنز... وغيرهم، على الرغم من التفاوت النسبي بينه وبينهم في السنوالاختلاف النسبي في الأطروحات الفكرية والممارسات الألسنية.
كما شهدت هذه الفترة اندراج معظم الدراسات والبحوث الجامعية خاصة ضمن الرؤية السياسية الرسمية والإيديولوجية المسيطرة وضمن منحى تغليب التصور الاجتماعي في المنطلقات وفي طرائق التحليل وفي المناهج، وذلك كله نظرا لما كان يعانيه الحقل المعرفي المغلق من توحيد لتصورات النخبة المثقفةداخل مرجعيات الفكر الاجتماعي اليساري على الدرس الفكريوالاجتماعي عموما، وعلى طرائق الإبداع الأدبية وعلى مناهج النقد الأدبي بصورة خاصة. والأكيد أن هذه الحالة قد أثرت، نظرا لتماهي طرحها النظري مع فكرة الانعتاق من الاستعمار والحماسة الحالمة التي أعقبت الاستقلال، على التوجهات الفكرية لهؤلاء المثقفين ومن بينهم عمار بلحسن. ولعل النهل من هذه المرجعية الوحيدة المتوفرة في تلك الفترة قد أثر على التصورات الأولية التي طبعت كتاباتهم الأولى، فكانت صياغاتهم متأثرة بفكرة المرحلة وبحماس اللحظة وبالالتزام الصادق بما يمكن أن تحققه النضالات الفكرية والميدانية للمثقفين في مستقبلها القريب.
ولعل موهبة عمار بلحسن -رحمه الله- وتميزه بالنظر إلى الشرط الاجتماعي الذي عاشه-وأبناء جيله- في طفولته، جعلاه يظفر بسهمين تلقفهما بذكاء حاد وجعلهما زادا لقوسه، فمكناه من توسيع زاوية النظر إلى الحقل المعرفي والإبداعي في الجزائر وكشفا له الأبعاد المتروكة في حواشيه: سهم علم الاجتماع وما يتيحه لدارسه من معاينة وتريث واتزان وموضوعية في الحكم على أسباب الظواهر الاجتماعية وعلى نتائجها، وسهم الأدب وما يتيحه من توغل في فهم الذات والعالم بإحساس مرهف وعين فاحصة، وهو ما كان يتوافر لعمار بلحسن من خلال مساره الأدبي بوصفه مبدعا وقاصا قادرا على تطويع اللغة وإخضاع بلاغاتها للمنظور الاجتماعي وحقيقته المعبّرة عن الواقع كما كان يعيشه في فترة ما بعد الاستقلال، وهو بهذه الحالة يكون من الأدباء القلائل الذين بقوا أوفياء للغة العربية، فحاول أن يضيف لها أبعادا اجتماعية شعبية خاصة في كتاباته القصصية، معطيا بذلك الصورة المثلى لما يمكن أن يكون عليه مثقف منحدر من طبقة اجتماعية شعبية من وفاء لتصوراته الفكرية التي نشأ عليها، وكان يعتبر من خلالها أن ''الأدب الوطني كمؤسسة يعمل بلغتين، وينتج جزائريته وهويته في سجلين أو مدونتين لغويتين متباعدتين''، وهو ما اعتبره ''مفارقة لا شك أنها تاريخية'' في بنية الخطاب الأدبي الجزائري.
4- ولعل ما مكنه من التعامل مع واقع اللغة على مستوى الممارسة الإبداعية نابع من اهتمامه ب ''سوسيولوجيا الأدب'' وما يوفره علم الاجتماع الثقافي، ميدان اختصاصه، من إمكانات الفصل المفاهيمي بين (الأدب والإيديولوجيا) التي جعلته سابقا في إدراك ما يمكن أن يعتري المفهومين من سوء فهم ينعكس بالضرورة على الإبداع في فترة كان فيها الخلط المتعمد بينهما يقود العديد من المثقفين والأدباء المتحمسين من أبناء جيله إلى اعتبارهما وجها واحدا لعُملة الطرح المشوب بشيء من الشمولية الزائفة والادعاء الوهمي، ولذلك كان عمار بلحسن يعتبر أن ''الأدب الثوري الأصيل هو الذي يُكتب كتابة جيدة وأصيلة، ولكن هذا لا يعني أن الأدب إيديولوجيا وسياسة''. وبناء عليه، فإن ما كان يعتبره ''مهزلة ومأساة عندنا في الجزائر هو أن هناك من يقرأ بعض العناوين لبعض الكتب التقدمية ويدعي أنه تقدمي، وهناك من يقرأ بعض الآيات القرآنية الكريمة ويدعي أنه أصولي''. والأكيد أنه كان يعي جيدا أن الخلط المتعمد أو الساذج في تصوّر أدب خاضع للإيديولوجيا مصدره حالة سوء الفهم المعمم التي تنخر المقاربة الثقافية التي يحملها المثقفون الجزائريون عن فعل الكتابة الإبداعية الأصيلة وعن فعل القراءة النقدية العارفة بخبايا سياقاتها التاريخية وأنساقها الفكرية والجمالية.
ولذلك، فهو عندما يحاول أن يقرأ ''القراءة'' بوصفها ''فعلا جماعيا وليس مجموعة من القراءات المنفصلة'' ضمن ما يحققه المدخل السوسيولوجي من إمكانية ربط النص بواقع الممارسة القرائية، فإنه لا يتعمد تغليب وجهة النظر السائدة بقدر ما يحاول أن يجعل منها توجها من ضمن عديد التوجهات ذات الصبغة الإيديولوجية المختلفة التي ينفتح عليها فعل القراءة بوصفها فعلا متغيرا على الرغم مما قد تطرحه صورته الجمعية من ثبات، وهو بذلك يحاول الانفتاح على ما بدأت تشير إليه المدونة النقدية الجزائرية من مدارس نقدية جديدة ك ''نظرية القراءة'' و''جماليات التلقي'' كانت مغيبة منذ زمن من واقع الممارسة النقدية، وهي أبعد ما تكون من حيث الطرح الجمالي والمنطلقات الإيديولوجية عمّا كان سائدا في صلب هذه المدونة من منهج اجتماعي في فترة السبعينيات والثمانينيات، وهو بهذا يحاول كذلك أن يعرض لحالة الانتقال التي ''شهدتها ظروف ثقافية وفكرية امتازت بأزمة الفاعل و -موت المؤلف- وتحلل القيم وتحوّلها إلى أشياء ]..[ وكأن قراءة النص الأدبي انتقلت على صعيد البنيات الداخلية والسياقات الخارجية من إيديولوجيا المؤلف والكاتب المتحكم في عملية البيان، وتوجيه المصائر والتخييلات والرؤى إلى نزعة نصوصية داخلية أدت إلى اكتشاف الأنا القارئ في النص وتعويض القارئ الجماعي بالقارئ الخاص''. ولعله كان يحاول، من خلال الانفتاح على جميع الزوايا الممكنة التي يتيحها التحليل السوسيولوجي للأدب، تجاوُزَ الصورة النمطية للقيم الثابتة في المناهج الاجتماعية المتصفة باليسارية من جهة، وفي تطبيقاتها على النصوص الأدبية، من جهة ثانية. فلم يكن روبير إسكاربيت صاحب كتاب ''سوسيولوجيا الأدب''، إنجيل العديد من الأدباء والنقاد في الفترة السبعينية، في نظر عمار بلحسن غير مدرسة قد ''أخطأت موضوعها السوسيولوجي وأسئلته'' بالنظر إلى ما يمكن أن تطرحه أسئلة الأدب على الكاتب وعلى القارئ معا من شيفرات سيميائية وفكرية وإيديولوجية، هي الخطابات التي تمفصل مصالح واتجاهات ومنظورات اجتماعية وسياسية، تشكل بنيات فكرية ولغوية لجماعات معينة''.
وربما جعله تميُّزُه في استعمال هذين السهمين ''الأدب وعلم الاجتماع'' والتحكمفي مساراتهما الفكرية والجمالية المعقدة، أديبا في نظر زملائه السوسيولوجيين وسوسيولوجيّافي نظر زملائه الأدباء، وهذا ما لم يتوافر لأبناء جيله من الأدباء الذين انتهى معظمهم إلى مثقفين سلطويين يدافعون عن مصالحهم الخاصة، ولم يتوافر كذلك لأبناء جيله من السوسيولوجيين الذين اكتفوا بالسهم الأول فتعمقوا في الدرس السوسيولوجي الباحث عن تفسير العُقد الآنية للمجتمع الجزائري في المطبّات القديمة في التاريخ الجزائري من خلال محاولة تقويض الأطروحات الكولونيالية عند نوشي ولاكوست ودوكوا... وغيرهم، في الفترة الاستعمارية كما هو الحال بالنسبة لعبد القادر جغلول -رحمه الله- أو تعمقت في تحليل المسار التاريخي للمجتمع الجزائري بالنظر إلى القراءة الأنثروبولوجية للمدرسة الغربية المعاصرة، خاصة عند عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، وهو يحاول أن يؤسس للدرس الأنثروبولوجي المعاصر من خلال دراسة سلوكيات المجتمع القبائلي في الفترة الاستعمارية، كما هو الحال بالنسبة للهواري عدّي، أو حاولت توصيف الأمكنة في المجتمع الجزائري ودراسة حراكه وفق النظرة الأنثروبولوجية التي تساءل التاريخ الاجتماعي المغاربي لما بعد الحرب، كما هو الحال بالنسبة لنذير معروف، أو حاولت النفاذ إلى عمق المجتمع الجزائري من خلال دراسة ''فينومينولوجيا الوعي الوطني'' والبحث عن ''مسارات الأزمة العاصفة بالجزائروالعالم العربي'' كما هو الحال بالنسبة لعلي الكنز.
ولعل هذا الجيل من الباحثين السوسيولوجيين، ومن بينهم عمار بلحسن، كان من أكثر الباحثين الجزائريين في مختلف التخصصات الإنسانية والاجتماعية تعمقا في فهم أزمة الأجيال التي عبرت مشروع الدولة الوطنية وجابهت لوحدها تحديات التاريخ واللغة والتأصيل والحداثة والانتماء والمجتمع والاقتصاد... وغيرها من الإشكاليات المطروحة، بالنظر إلى العديد من الكتابات الأدبية والتاريخية التي كانت أكثر التفافا حول مكونات الأزمة ومسبباتها، نظرا لما يحمله الدرس السوسيولوجي من أبعاد لا يمكن أن تتنصل من الحقائق الاجتماعية وإفرازاتها على الواقع المعيش، ولا يمكن أن تزيف نتائجها الملموسة كما يمكن أن يحدث - وقد حدث فعلا- للكتابات الأدبيةوالتاريخية.
5- لقد أدرك عمار بلحسن -رحمه الله- بحدسه المتوهج وفطرته الطبيعية وكذلك بما أتاحه له حمله للسهمين والتوغل في أغوارهما، قبل العديد من الدارسين ما كان يكتنف المشروع التحديثي للدولة الوطنية من عطب أثناء محاولة تطبيقه على غرار المجتمعات العربية الإسلامية، الذي لم يكن ليدرك تناقضاته الجوهرية في فترة التطبيل الإيديولوجي للحداثات المستوردة العديد من الدارسين الذين راهنوا على ضرورة التغيير الإيديولوجي القسري للمجتمع من خلال الدعاية إلى ما سيصبح استيرادا عشوائيا للحداثة الريعية مقابل التصدير التبذيري للكنز المادي للأمة، أو تفسيرا هجينا للفراغات الثقافية الآنية من خلال تغييب الأطروحات المعرفية المؤسِّسة للمدونة الثقافية الجزائرية، أو تناسيا للعامل الجوهري في تحريك بنيات المجتمع الراكدة وهو حرية التفكير وحرية الاختيار اللذين لا يمكن أن يغيبا أو يُغيّبَا عن كل معادلة حضارية تضع الإنسان ومرجعياته في لب المغامرة الوجودية وفي آنية تحققها على مستوى الواقع فتحقق لصانعيها درجة الرقي الطبيعي بأفراد المجتمع إلى مستويات أحسن مما كانت تكابده في المرحلة الكولونيالية، وهو بذلك يكون قد حاول -رحمه الله- أن يضع اليد على الجرح في ما يتعلق بإشكالية التحديث في المجتمعات العربية والإسلامية ودورها في التأسيس لخطاب مناور في سيطرته على اللحظة بأدوات إجرائية خشنة أحيانا ومرنة أحيانا أخرى وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للدويلات الوطنية، وغير واضح المعالم في تبنيه لأطروحات الحداثة، كما أنتجها الفكر العقلاني الغربي. ومن هنا، فإن عمار بلحسن يستعمل مصطلح ''حداثة معطوبة'' أو معاقة للدلالة على أن الحداثة ]..[ نتاج العقلانية والإبداعية والذاتية الفلسفية والجمالية والعلمية والتكنولوجية، الغربية أو العالمية'' للتذكير بفارق المناورة التي تستعملها الأنظمة والنخب في المجتمعات المتخلفة لتزييف الوعي في هذه المجتمعات وتعطيل مساراتها التحررية.
والذي يقرأ كتاباتهفي المرحلة الأخيرة من حياته، يدرك مدى اهتمامه بالبحث عن المعوقات الجوهرية التي تقف جدارا في وجه تأسيس مجتمع متماسك من حيث نظرته للذات وللآخر، وذلك من خلال توسيعه للحقل السوسيو - أدبي الذي كان يشتغل عليه سابقا، ومحاولته إدراج مجمل الأيقونات الطارئة على الخطاب الفكري والفلسفي العربي في فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات في كتاباته التي سجل فيها ما كان يلاحظه من تناقضات مفاهيمية في الأطروحات المعرفية لما يسميه ب ''الأصوليات الدينية واللغوية والتغريبية'' المسيطرة على الساحة الثقافية، والداعية إلى تثبيت اقتناعاتها في واقع المجتمع الجزائري، وهو على الرغم من توجيه النقد المؤسس لهذه الأطروحات من خلال ما كان يبدو أنه يخيفه فيها، وهو طرحها العنيف للمشاكل المتراكمة في الخطاب السياسي والفكري الجزائري منذ فترة ما قبل الاستقلال، إلا أنه كان يحاول أن يقف إلى جانب ما كان يبدو له منطقيا من حيث أن نوعية الأسباب تؤدي في نظره حتما إلى النوعية نفسها من النتائج. ولعله من منظور الباحث الأكاديمي الحريص على اتزان مواقفه في الحكم على العديد من الظواهر، كان يحاول أن يطبع أحكامه بالطابع العقلاني الذي يبعدها عن الطرح المتطرف.
فعلى الرغم من اقتناعه بأن الأصولية تسعى إلى السلطة ''نظرا لكونها حزبا سياسيا أو أحزابا''، وهذا ما أثبت الحراك الاجتماعي الحالي صحته، فإنها تعتبر في نظره حركة ثقافية ''أعادت طرح مشكلة التعريب والهوية والانتماء العربي الإسلامي للجزائر'' في فترة حساسة من تاريخها المعاصر، وهو حينما يريد استنطاق الواقع بالبحث عن أسباب عودة طرح إشكالية الهوية والتعريب في المجتمع الجزائري في الصورة المتشنجة التي شهدتها مرحلة الثمانينيات في الجزائر خاصة، و''تحولت إلى علاقات غامضة استمرت لمدة ربع قرن بعد الاستقلال''، لا ينكر أنها كانت ردّ فعل منطقي لتجذّر الأصوليات المضادة في منظومة السلطة الثقافية التي مكنت التيار الفرانكفوني التغريبي والنزعة البربرية النخبوية من الاستيلاء على مساحات التعبير وتوطيد مكانتها في المجتمع بالنظر إلى ما كانت تعانيه الطبقات الفقيرة المتكونة من المتروكين على الهامش الذين لم يستفيدوا من ريع النظام الاشتراكي في السبعينيات ولم يصلوا إلى تحقيق مطالبهم المادية والمعنوية في فترة الانفتاح المزيف التي شهدتها الثمانينيات، ولذلك كان عمار بلحسن يعتبر أن الأصولية الدينية ''ظهرت حركة شعبية وجماهيرية مضادة للنزعات النخبوية الأمازيغية والفرانكفونية ورد فعل عليهما''. ولعله في طرحه هذا كان يضع نصب عينيه عديد التجارب التي مرّت بها المجتمعات المشرقية، حيث كان الخطاب الإسلامي أكثر تبلورا في التأسيس للفعل السياسي عن طريق تفعيل الحركة المطلبية و''التمكين'' للفكرة الإسلامية على أرض الواقع بعد الانتصار الذي حققته الثورة الإسلامية في إيران على أكثر الأنظمة الرجعية في العالم الإسلامي، وهو نظام الشاه وبداية هذه الحركات في الحلم بإمكانية الوصول إلى السلطة بعد التجربة التي حققها الإسلام السياسي في إيران.
6- ولعل الجميع يعرف، اليوم، كيف انتهت هذه الحركات أثناء تصادمها مع حراس المشاريع التلفيقية للسلطة السياسية في مصر خاصة، وفي العديد من الدول العربية الأخرى. وربما كان عمار بلحسن يضع أمام عينيه تجربة الحراك الاجتماعي الذي شهدته الجزائر في ما اصطلح على تسميته ب ''أحداث أكتوبر ''1988 الذي أدى إلى قلب العديد من الموازين على مستوى الخطابات السياسية والفكرية، وغيّر بناء على ذلك العديد من الممارسات التي أدت إلى الانفتاح المعروف على الحقل السياسي وحرية الممارسات ثم ما تبعه من انغلاق فجائي أدى إلى دخول قطبيّ المشروعين المتصارعين في خضم المواجهة السياسية العلنية المنذرة بتأزم الوضع نظرا لانسداد أفق التصورات التي حاولت تحقيق المشاريع التلفيقية من جهة، وانقطاع إمكانية الحوار الإيجابي من جهة ثانية، بين أصحابها وأصحاب المشاريع المضادة، من جهة أخرى.
إن البعد الموضوعي الذي يوفره الدرس السوسيولوجي في تحليل الظواهر الاجتماعية هو الذي مكّن عمار بلحسن من طرح الإشكاليات الجوهرية التي انبنت عليها المواجهة الدموية بين هذين القطبين في فترة لاحقة، كان عليه أن يودع بداياتها توديع الشاهد المحذر من عواقبها، وهي إشكاليات التاريخ والانتماء والهوية واللغة والمجتمع... وغيرها، مما كان يعتبره وغيره من الدارسين، محركا أساسيا لقاطرة المشروع الثقافي والحضاري للدولة الوطنية التي كان يهيمن عليها مفهوم ''دولة-أمة (َُىُّفَ-ُّفُّ) التي تلغي الاختلافات والتناقضات بتسوية إيديولوجية تحت لفظة -الثقافة الوطنية-''. ولعله البعد الموضوعي نفسه الذي مكّن زملاءه علماء الاجتماع من اتخاذ مواقف تبدو اليوم، وبعد مرور عقدين من الزمن، متزنة وموضوعية بالنظر إلى مواقف عديد المثقفين المتموقعين داخل هذه القطبية من أزمة التسعينيات التي لم يقدر لعمار بلحسن أن يعايشها على الرغم مما كان يحمله من همّ ظاهر بغموض مآلاتها لم يكن خفيّا على من عرفه عن قرب أو من قرأ كتاباته في أواخر مشواره.
وقد كان لهؤلاء العلماء عديد الكتابات التي حاولت أن تتقصى مواطن الداء في عمق الأزمة وتبحث عن أسبابها التاريخية والفكرية والاجتماعية، كما هو الحال بالنسبة للكتابات التي شرح فيها عبد القادر جغلول مسببات الأزمة، أو المقالات التي حاول فيها الهواري عدي أن يرصد التغيرات الطارئة على الخطابات السياسية وتأثيرها على السلوكيات الاجتماعية في فترة التسعينيات، أو ما كتبه علي الكنز من تحاليل لبنية المجتمع الجزائري وعلاقته بالأزمة في الفترة نفسها.
لقد غيّرت أزمة التسعينيات العديد من المواقف التي كانت تبدو راسخة رسوخ الجبال في أذهان العديد من الباحثين والمفكرين وعلماء الاجتماع.. ممن مكنهم الوعي العميق بخطورة المرحلة الثمانينية وما شهدته من تحوّلات جذرية على المستوى العالمي من النظر إليها بغير مرآة الإيديولوجيا وقنوات التجييش التي تستعملها الأصوليات المعاصرة المتموقعة في أبراجها الفكرية المعتادة عن طريق ''الروموت كونترول'' السياسي الذي يتحكمون من خلاله في طبيعة الحراك ونوعيته ومآلاته. ولعل ما تشير إليه كتابات عمار بلحسن الفكرية والسوسيولوجية خاصة، في أواخر حياته كفيل بالوصول إلى رصد العين الثاقبة التي كانت تنذر من داخل نصوصه بما كان سيحصل للمجتمع الجزائري من شرخ في التصورات وانقطاع في قنوات الحوار والخروج الكلي من حقل التغطية المعرفية الكفيل بدرء المصاب ورتق الممزق في بنياته الاجتماعية الهشة.
لقد استطاع عمار بلحسن أن يستشعر في أواخر حياته مواطن الخطرفي هذه البنيات الهشة، وأن يرصد مواضع الدّاء بحسه النقدي ورؤيته الاستشرافية، لكن كذلك بما وفره له الدرس السوسيولوجي النقدي من إمكانيات وضع المقدمات والنتائج في أماكنها الصحيحة من دون القفز على المسلمات أو السطو على النتائج وتوجيه مساراتها إلى غير الوجهة الآيلة إليها، من خلال قراءة لا تدعي امتلاك الحقيقة بالنظر إلى ما كان يوفره التعالي الإيديولوجي من كبر زائف لكثير من المثقفين الجزائريين المتموقعين داخل الأبراج الرسمية والمتاجرين عن بُعد بجرح المرحلة في كتاباتهم الفكرية والإبداعية. فقد حاولت كل كتاباته أن تطرح الإشكاليات المركزية التي كانت ولا زالت تستحوذ على الخطاب في فضاءاته النظرية، وتستولي على الممارسة في مساحاتها الواقعية بعين فاحصة ورؤية متنورة زاهدة.
للموضوع مصادر ومراجع وإحالا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.