.. تونس الآن تعيش في الصّيرورة والتحولات والدمقرطة، وجانفي ''التسونامي'' التونسي ليس هو أكتوبر الجزائري من عام 88 وليس هو جانفي الجزائري من عام ,92 الانتقال صامت نخبويا على ما يبدو وسط صخب شعبي وإعلامي، هذا الانتقال يتدرج مؤسَّساتيا وهيكليا على وتيرة مضبوطة دونما عنف وتدافع.. الأرض بتتكلم سياسة في تونس، المقهى، الطاكسي، عربة الترامواي من شارع باريس إلى بن عروس، مسجد الفتح ومحلات كارفور، فندق أفْريكا وفندق الهناء، أرض كلها سياسة، منشورات سياسية وقرآن، أغنيات وقرآن، مسرح وسينما وجمعيات نسائية ومدنية وقرآن، وقرآن وسياسة! الغنوشي ليس عباسي مضت الحكاية التونسية - ما بعد الثورية - تبحث، تقارب تؤالف بين الزمن الإنقاذي الجزائري والزمن النهضوي، لكنها في مجمل اتجاهاتها تنحى المنحى الأوحد، ليست النهضة على شبه ومشاركة، فجبهة الإنقاذ كانت راديكالية الطرح، ميالة إلى المخاصمة مع المتحالفين، سلفية اللغة والفكر، عشوائية التنظيم، جمعت عباسي مدني إلى علي بلحاج والهاشمي سحنوني بمراني وسعيد قشي ببن عزوز زبدة، ثم إنها لم تؤالف أصحابها مع أصحابها في التكوين والمزاج والسمات الشخصية، لكن النهضة تمتلك هذا الحس النضالي المشترك قياديا، متجاذبة ومتقاطبة مع خصوم لها كثيرين، قليلة الاستعمال للنص الديني ومذاهبه التأويلية، مخزونها القيادي ليس فيه راشد الغنوشي فقط، بل فيه حمادي الجبالي، علي لعريض، نور الدين البحيري، الصادق شورو، الحبيب المكني، صالح كركر، النهضة والإنقاذ ليسا من المنبع ذاته من حيث الروح والمرجع وليست هي الأسئلة نفسها، فهذا الذي قلته لمحدّثي الصحفي عبد الحق.. لم تنحصر الحكاية في إجراء مقاربة بين فصيلين فقط، بل بين تاريخين وتركيبتيْ شعب ونظام وجغرافيا وعلاقات إنتاج وعمل ليشدني بعدها الحديث عن الاستشناء التونسي النخبوي في جيل جديد من المتحدثين السياسيين الشباب ومنهم بنات - خاصة من سلك المحاماة.- الدرس السيميائي تونس الآن تعيش في الصّيرورة والتحولات والدمقرطة، وجانفي ''التسونامي'' التونسي ليس هو أكتوبر الجزائري من عام 88 وليس هو جانفي الجزائري من عام ,92 الانتقال صامت نخبويا على ما يبدو وسط صخب شعبي وإعلامي، هذا الانتقال يتدرج مؤسَّساتيا وهيكليا على وتيرة مضبوطة دونما عنف وتدافع، لقد شهد الشارع التونسي والعالمي مشهدا متوترا (قصبة 1 وقصبة 2 وقصبة 3)، الأولى لمحمد الغنوشي الوزير الأول حتى يرحل والثانية للباجي قايد السبسي كيما يعدل نفسه قليلا حتى لا ينسى أن الثورة هي التي جاءت به، الثالثة هي له أيضا حتى يسرع فلا يبطئ في الخطأ ويتمايل يمنة إلى الماضي ويَسْرة إلى الماضي أيضاً.. انشحن القاموس السياسي بالدلالات، الكلمات الجديدة تنبض أحسن، قوية أكثر، أعنف أكثر، كل خطأ إملائي، مطبعي، ثوري، نخبوي، خارجي، وكذلك كل خطأ لساني، سيميائي، فيزيائي، رياضي، كمياوي يخرج له التوانسة كي يقولون ''دياج'' يعني ارحل وارحل تعني إرحل.. إن إشارة ''هرمنا'' في السلوك التونسي صارت تعني التحية، تحية الفجر والإصباح أو تحية المساء والشفق، ''هرمنا'' ولن يعيّرنا أحد بالشيْب فبن علي هرب، الطاغية هرب، المجرم هرب، الفاسق هرب كما تحدث المحامي ليلتَها، قاموس هكذا صار ينبض، كرونولوجي، متغير، متوتر، لقد قلت إن النفس الحالي هو نفسٌ سياسي يغطي على كل شيء ويُدلّل عليه الناس بالسياسة على أشياء في التحية والأكل والشراب والضيافة، تونس لم تعد متفرغة للصبايا والخطب الليلية، البنْعلية، الإعلام سياسة، الدين سياسة، الثقافة سياسة، المرأة سياسة، الرياضة سياسة، السياحة السياسة، مذاق النيكوتين والنباهة هو الذي يحكم، يفصل ويشكل المعادلة تلو الأخرى، فلسفة الثورة جعلت الناس لا يكفون عن التعبير عن مكنونات محرَّمة وأفكار استنبطوها وأضغاث أحلام مخفية كانت صارت تُحكى بالثقة والبهاء... كيف هي أحوال ناس ''اللاَّك'' و''المنار'' حيث البرجوزاية الرَّثة وأطفالها الذهبيين، حيث الأنانيش وذوي العاهات الاستهلاكية، حيث السطوع والظهور الطاغي وحيث مثقفي الكافيار واليساريين الليبراليين كانت الثورة أيضا، الحديث عنها، الإغتراف من قاموسها، التحدث باسمها، التحدث باسم البوعزيزي وحريقه، سرقة الحريق سرقة المغنم الجديد بدرء التجاعيد البنْعلية، أي سرقة الثورة، واحد من أسئلتي المهمة في تونس، هل شارك الأغنياء في الثورة....؟ هل مسّهم لهيبها، هل أحرقوا شيئا من أملاكهم من عجلات سياراتهم الباذخة حتى يُحسبون منها وهي الثورة أو هم سيُحسبون عليها حتى يكونوا لها وتكون لهم، والحال أن الاستقطاب الطبقي في الخضراء أينع وازدهر في السنوات الخوالي البائدات، لقد كنت ألحظ فيما سبق ذهابا نحو ''اللاّك'' أو لكرم أو حلق الوادي أو المرسى وقمرت وسيدي بوسعيد، إنها هي ذي تونس المحلومة، المتخيّلة، المشْبعة، المتخمة باللذائذ والأطايب والسَّهر والمحظورات، لكن للرائي المثقف الحذر تبدو له الكذبة كذبات طرابلسية روّجها البنك الدولي وتقارير التنمية على نحو تشابهت فيه أحلام بن علي الإمبراطورية بأحلام ليبيا الغد لسيف الإسلام القذافي، إذ الحال كذلك، أيضا أن ''المرفهين'' هنا في النصر أو في المنار أو المنزه استدركوا اللعبة وهضموها، فبدأوا باعتصام القبة ردا على اعتصام القصبة، خلقوا أجواءهم المظاهراتية، واحتفالياتهم الموسومة، المتسقة مع نمط عيشهم وأسلوبهم الفذ، فبدوا كأنهم يذهبون إلى نادي ''الروك'' كما يتندَّر لهم فقراء تونس، لقد حرص هؤلاء الميسورين - اللاّمعين، الأنانيش على كونهم أغلبية صامتة تهمّهم الثورة وهم حريصون على الانتظام في نسقها والانتماء لها، بشعارات فرنسية التعبير والروح، لا للفظة الظلم أو الحرة فيها، الانضباط، إن الثّري التونسي حاول ويحاول نفض غبار التحديث الزائف وآثار الخسران المبين للسياسات المتعالية التي سرعان ما أبانت عن فوارق جمة بين ناس التحت وناس الفوق، ولا يحاول البرجوازي التونسي - جلادا كان أم ضحية - أن يغيب عن نصيبه ومقامه في بناء تونسالجديدة ببنيات جديدة واستثمارات جديدة، ذلك التفسير الوحيد الذي تجده في حديث طويل يدور في الأروقة الناعمة في أندية الدولتشي فيّا التونسية... سينما ومسرح... فرار وقرار يستعجل زين العابدين بن علي ابنته في قصر قرطاج، بن علي استسلم، أين سيذهب، إلى نواكشوط أم إلى العربية السعودية، علي السرياطي أوصاه بالثانية، ليلى تحمل الحقائب وبن علي يخاطب مدير مخابراته ''أوصيك خيرا، بعدم الخذلان خاصة بعد العودة'' الفرار من قرطاج هي ثلاثية توثيقية عملت على تيمة هروب الطاغية إلى الرياض، لحظاته الأخيرة وهو ما بين الماصدق والماكذب، فيلم اقتراب ومعايشة يلتقط بعد سنة تونس في وقتها العصيب ذاك، عدسة الإعلامي محمد الهادي الحناشي رصدت الفرار المحزن للرئيس الذي فرّ بمؤامرة الشعب ضدّه ويخلي الصحب والخلان من أمثال محمد الغنوشي ورشيد عمار وأحمد قريعة وعلي السرياطي، الفيلم يقول ولا يقول، إيحاءات، دموع وسوسبانس ومال خليجي للشركة المنتجة، هل أخطأ الشعب التونسي في حق محسوبهم ومخلوعهم الزين، الفليم هو نموذجي في مبناه ومنطلقه عن سينما ما بعد الثورة بين نقدوية ومجاهرة مطلوبة كأنها فرض عين، وبين فجاجة وقلة احترافية وارتباك درامي، التجربة ناهضة من عثرات وهي الآن تبحث عن كوَّة شمس وخيوط وضيئة، ينسحب الأمر كذلك على التجربة المسرحية، التمسرح يحدث في التشظي، في اللهاث وفي المسارعة نحو شكل ثوري يُقولب وفق تونس ثقافية جديدة تروم الخروج والحرية والنأي عن المناصصة - الرسمية - المدعومة بالمال السلطوي، إنه قرار ثوري، وخيار جمالي متشابك الموضوعات والاشتغالات، مسرحية الخلوة، حملت سمة المرحلة وتطبعت بأحلامها وهبابها، مسرحية ''الخلوة'' في التياترو هام بها توفيق الجبالي وهمّ بها إلى هوّة قرار سحيق وغير سحيق، بوصلة الثورة، جسمها وخلاياه وخريطته، الخلوة هي المكان الأخير الذي يتجه نحوه التوانسة للإقتراع... صندوق على زيّ عروس، الشخوص هم توانسة مرضى نفسانيا تلعب بهم مصائر القدر والأحزاب والوجبات السياسية المتعددة، سي كمال حارس مكتب الاقتراع بمرافقات محجبات وأخريات على صيغة ''سيفيليزي'' ترجمة لتونس الحضارية بهويات مختلفة، المتحررون، المعتدلون، النسويات، مشهد يبلغ الذروة في الإضحاك والفرفشة، حيث يقوم الناخب الضرير بالإدلاء ''هذه قائمة بواجباتها المنزلية'' تعبيرا عن الانتخاب على القائمة وألاعيب الطاقية والإخفاء كما يفعل الانتخابيون العرب، القوائم هي أمراض الثورة المريضة بأحزابها وخيالاتها كتكتل في المعدة ''أرسي دي'' في الدم، النهضة طلعت في المخ، إن النسق هو الهامش والخلوة، القاعة الخلفية حيث ينتخب المواطن من يولّيهم أمره وهو لا يدري!!! الأضواء والموسيقى تؤجج الفرجة وعبر نص مفتوح مهلهل، متفرد لتوفيق الجبالي يوصي الناس خيرا بالصندوق، فربما يكون هو آخر الخُلوات وآخر الانتخابات وآخر القرارات بعد الانقلاب المضاد على الثورة!!... ''واللهّم لطْفا''... الراديكاليات لا يطالبن بأقل من المساواة لم يكن الحضور التونسي - قطاع النساء - للفكرة والتزيين وطلب الفنتازم الغربي وليراجع الواحد فينا أعدادا من مجلات ''الباري ماتش'' و''النوفيل أوبسرفاتور'' و''جون أفريك''، إذ كانت تكفي بلاغة الصورة وسيمياء الدَّال، النسوية التونسية جاءت من واقعها التاريخي حيث استفادت من الزخم البورقيبي، بورقيبة كان المعلم والبيداغوجي وحامل الشعار، إرث آخر يمتد إلى أبي الضياف وخير الدين التونسي أي إلى المقال التونسي التأويلي والأدب الفقهي الجريء السجالي، وبينهما شراسة النضال ضد العقل الديكتاتوري، الأبوي - الذكوري، التونسيات كلهن هدى شعراوي وكلهن سيمون دوبوفوار حتى بعض الإسلاميات هن كذلك، لهن مآثر ميدانية وبطولات السجن والاغتصاب، التهم والتشويهات، التوريط والتعهير، كما لهن النشاط الحقوقي والمعرفي والدرس والأدب، إن الورقة النسائية هي ورقة ذهبية عند ابن علي لعبها وخسر رهانها بسبب أميته وجهله، كما ربحتها النسوية التونسية في العصر البورقيبي، إذ هي اليوم قوة تاريخية نافذة المفعول حالتها تندر في المغرب والأردن ولبنان، لكن قوتها ليست في احتضان الجلاليب والسيلكونات، بل في الاستمرار الراديكالي الذي يطاول الدولة القمعية ولو كانت إسلامية بماكياج علماني أو العكس تباعا، وهذا ما تتجرأ فيه أكثر سهام بن سدرين وراضية النصراوي وألفة يوسف... المجموعة النسائية التونسية تواصل نضالها على أسنة ورماحْ مع وإزاء أصوليات عدة وكراسي رجال ملتحين وغير ملتحين، لكن الذي أعجبني أن الخطاب واضح، أهدافه، غاياته آفاقه، فيما تغرق النسويات العربية الأخرى في التصفيق بحمد الحاكم وحذائه... إني أرى في عينيك الطريق إلى القدس: في المعنى هذا الذي تكون فيه الثورة بلاغة وفكرة دين ودنيا، ملهاة ومسرح وشريعة، اختلال عقلي وجنون وهذيان، قسوة وحب وقنوط، التقيته جلال، في آخر شارع بورقيبة مجنون الثورة، استوقفني من أجل دينارات تقيه البرد والثلج والجوع، بدأ حديثه بالأسئلة، بالقلق الوجودي والهوية من نحن؟ من أنتم؟! من أنت ! ''إني أرى في عينيك الطريق إلى القدس''، قال لي لا تذهب إلى القدس عبر الدوحة هذه واحدة، لا تدع لبن علي آله وصحبه أن يزوروك في المنام، فلن يعود من جدة أبدا، أغمض عيناك، عما حدث لعلي لعريض في سجنه، فالرفعة والإباء من شيم الثوري، كالني جلال المهبول الفصيح من اللغات، ما أعرف وما لا أعرف وعن تونس وإفريقيا القديمة وعن ثورة في الثورة، عن غيفارا وكاسترو وغاندي وعن عزالدين القسام والحاج أمين الحسيني وعن القدس، إذ الطريق إلى القدس لا يمر عبر الدوحة كمال قال مجنون شارع بورقيبة ...