إحداهما لسيدة في بداية خريف العمر، تلبس حجابا بسيطا ولا أدري إن كان الشيب قد استولى على شعر رأسها، فقد كانت تغطيه بخمار أبيض، والأخرى لشابة يافعة في بداية العشرينيات من عمرها، شعر منسدل أسود وبشرتها سمراء، ترتدي ثيابا عصرية أنيقة. عمر الثانية ثلاثون سنة، وأما الأولى فعمرها حوالي سنتين، صورتان لامرأة واحدة اسمها رميلة، فرّقت بينها ظروف وأيام وجمعهم ديكور مشابه في جغرافيا واحدة، هو السبورة والأطفال والطبشور. ومع تغير المكان الجغرافي قليلا بحوالي أربعة كيلومترات نحو الشرق، كأني أسافر في الزمن، وأنا أستعرج تفاصيل الصورة القديمة، وكانت معلمة اللغة الفرنسية الجديدة في حصتها التعليمية الأولى في تلك المدرسة التي كانت حكرا على المدرّسين الذكور، كانت في كامل أناقتها وهي تفكر بصوت مسموع أمام تلاميذ لم يألفوا مثل تلك الصورة، وهي تقول: ''باش نبدا يا ربي؟ باش نبدا يا ربي؟''، لتعثر على الحل السحري، وتكتب الأبجدية الفرنسية كاملة على السبورة، وتقرأها على الأطفال وكنت أحدهم، وعندما قرأت الأبجدية أكثر من مرة، طلبت من يعيدها وكنت أول الفاعلين، وجاءت الجائزة سريعا: حبة حلوى أخرجتها من حقيبتها الصغيرة التي كانت فوق المكتب. كنت أسترجع تفاصيل تلك الصورة وأنا أتجه بعد ما يقارب الثلاثين سنة من تلك اللحظة إلى المدرسة، حيث صاحبة تلك الصورة تواصل رحلتها تلك، لكني لم أعد الطفل الصغير الذي كان، لم تكن معلمتي فقط، بل كانت معلمة زوجتي أيضا، وكم تحدثت معها عن تلك المرأة التي كانت إحدى علامات طفولتي الأولى، ومع أنها كانت تدرّس الفرنسية إلا أني تعلمت معها كيف أقرأ الكتب وكيف أشاهد الأفلام السينمائية ولو من خلال شاشة التلفزيون بالأبيض والأسود، وكيف أستمع إلى الموسيقى، وكانت تحرص أشد الحرص على تطوير أداء الكورال الموسيقي الذي أشرفت عليه وفيه بنات وبنين وكنت أحدهم، وكنا نؤدي من خلاله موشح ''يا شادي الألحان'' الذي عرفت عندما كبرت أنه لسيد درويش، كما كنا نؤدي أغانٍ وأناشيد وطنية منها ''حيّوا الشمال'' الذي كان يحيل إلى مجزرة الثامن ماي 1945 وكنا ننشد من خلاله ''على السطايفية، ماتوا من أجل الحرية''. ولما كنت أستعد لامتحان ''السيزيام'' كان مطلوبا منا أن نأخذ صورا شمسية بالأبيض والأسود حتى تُصنع لنا بطاقات، ولما علِمت أني أخذت صورا، جاءتني إلى الساحة طلبت مني صورة مع أني لم أكن أدرس عندها، ولا أدري إذا مازالت تحتفظ بتلك الصورة. كنت أسترجع تلك التفاصيل وغيرها وأنا في رحلة بحث عن صاحبة تلك التفاصيل وكيف أصبحت بعد كل تلك السنين، وكنت أعلم أنها تزوجت وأنجبت أطفالا ثم عانت كثيرا مع زوجها الذي أصيب بمرض خطير ثم ترملت وتحمّلت لوحدها تربية الأطفال، لكنها لم تنقطع عن التعليم وتكيّفت مع الظروف التي اضطرتها للتحوّل من تعليم الفرنسية إلى تعليم اللغة العربية. كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة مساء عندما وقفت أمام باب السكن الوظيفي المدرسي وقلبي يدق مثلما كان يدق قلب الطفل الصغير الذي كنت قبل كل تلك السنين، وكان شاب في استقبالي وزوجتي، إنه ولدها الذي ذهب للبحث عنها، ليعود ويقول بأنها ما تزال في القسم، لتتبعه بعد قليل، وتستقبلنا بكثير من الحياء الذي بدا على وجهها، لكن الزمان الذي مرّ عليها وعلينا، لم يفقدها ذلك السر الذي أحسسته فيها للمرة الأولى، وأدخلتنا القسم وهي تتحدث عن الطفل الذي كنت وأنا أحدثها عن المعلمة المبتدئة التي كانت، وبينما تلاميذ القسم التحضيري الذين كنت في ضيافتهم تطرح عيونهم الكثير من الأسئلة البريئة.