شرعت صحيفة ''لكسبريس'' الفرنسية، منذ البارحة في نشر مقاطع من ''الدفاتر السرية لحرب الجزائر''، لصاحبها جاك دوكسان، صحفي في جريدة ''لاكروا'' خلال فترة الحرب. حيث يروي تفاصيل مثيرة وواقعية جدا، عن ممارسات التعذيب في حق الجزائريين، وبشهادة الضحايا أو الجنود الفرنسيين أنفسهم. تأتي هذه الصفحات في وقت يحتدم فيه النقاش حول مصير فرنسيو الجزائر، بعد إتفاقيات إيفيان. ظل جاك دوكسان، يحتفظ بدفاتره لسنوات طويلة منذ استقلال الجزائر، معتبرا أن المعلومات التي بحوزته، قد تزعج الكثير في السلطة الفرنسية، وقد تسبب له أيضا متاعب كالتي لحقته من قبل المنظمة العسكرية السرية (أو.أ.أس)، التي حكمت عليه بالإعدام. وقد سبق للصحفي والمراسل صحيفة ''لاكروا'' في فترة 1957-,1960 أن صرح في عام ,2000 أنه عاش بهاجس الخوف من تبعات الكشف عن يومياته. فيومياته مدعمة بصور أصلية إلتقطها جنود أثناء مهامهم. وتعكس المستوى الإنساني المتردي للفرد الفرنسي حينذاك: ''كان التعذيب سلوكا طبيعيا في تلك الفترة، أن لا يستعين العسكري الفرنسي بالتعذيب هو الشذوذ عن القاعدة''، يصرح دوكسان، الذي كان يرى أن ''الحديث عن التعذيب في الخمسينات كان مجازفة وانتحارا''. أو بتعبير آخر له: ''في الجزائر، كان عليك أن تكون أعمى حتى لا ترى ممارسات التعذيب آنذاك''. يستعمل دوكسان، نعوت متنوعة للحديث عن مناضلي جبهة التحرير الوطني، فتارة يقول أنهم ''حفنة من المناضلين الوطنيين''، ومرة يقول عنهم ''متمردين''. إلا أنهم يجزم في آخر المطاف، أن الحرب الذي خاضها الجزائريون من خلال تنظيمهم الموحد، جبهة التحرير الوطني، أخلط أوراق فرنسا الإستعمارية، وضرب بهياكلها في الصميم. وفي شبه إقتناع بشرعية الكفاح التحرري، ينقل دوكسان انطباعه في تلك الآونة، كما جاءت، إنفعالية وعملية في آن واحد، على ضوء معلومات كانت تصله بصفته مراسل صحفي. وأبرز ما خرج به من تلك التجربة، هي ممارسات التعذيب في حق العزل، وخضوع الرجال والنساء إلى جلسات لاإنسانية، يقول أنه يستحيل الحديث عنها جميعها. ''هي''.. عذبت من قبل المظليين وقعت بين أيدي دوكسان وثيقة ممضاة من قبل جزائرية، ضحية تعذيب مرير. كانت تشتغل ممرضة واتهمت بضلوعها في تمريض أحد الثوار. اقتيدت إلى الحبس، تاركة ابنتها وحيدة في البيت. هذه الشابة المتعلمة، بعد ضم بعض جراحها دونت في 42 صفحة، وكتبت بواسطة الآلة الراقنة، بعبارات بسيطة ودقيقة، تحكي فيها 43 يوما في الحبس والتعذيب الذي لقيته بمدرسة ''ساريو'' بشارع موبونسييه، قريبا من قصبة الجزائر. نقلت فيما بعد إلى بن عكنون، حيث يوجد مركز للجنود الأمريكيين في .1943 روايتها هي شهادة حقيقية حول طريقة عمل واحد من المراكز ''السوداء''، حيث كانوا يوقفون المشتبه بهم بطرق غير قانونية، يقول دوكسان. نورد ما جاء في شهادتها كما جاءت: ''طلبت الإتصال ببيتي حتى تهتم عائلتي بطفلتي. كلمة هاتف أضحكت حراسي: سترين واحدا بعد قليل''. بالرواق الضيق الذي يربط قسمين، كنت أنتظر الإستجواب: أرغمت على التفكير بالضغط على أظافري، كنت حافية القدمين على البلاط، حيث جفت قطرات دمي''. فجأة انفتح الباب الزجاجي لأحد الأقسام، وسمعت صوتا يأمر: ادخلوها. أربعة رجال واقفين، صدورهم عارية، بلباس داخلي وأقدام حافية، يتحركون في القاعة. في الوسط، صبورة كبيرة مليئة بالصور، تواريخ، قصاصات جرائد. تعرفت على وجوه المقاومين الموقوفين، من خلال ما نشر عنهم في الصحف. في أسفل اللوحة، صورة حسيبة (ميتة رفقة علي لابوانت تحت أنقاض بيت بالقصبة). وضع أمامها علامة إستفهام كبيرة. واحد من الرجال، الملازم شميت، أسمر ضخم، بنظارة، في 35 عاما تقريبا، كان يقف خلف طاولة طويلة. دخل مباشرة في صلب الموضوع: ''ثمة سطور بخصوصك هنا، قصيرة جدا، لكنها دقيقة. ستوضحين لنا الأمر إذا أحببت''، أجلسوني وشرع شميت في قراءة الأسطر. الملازم فلوتيو، (متوسط القامة، وجه مثلث، أصلع بعض الشيء وعينان زرقاوان منتفختان)، تحدث بصوت عسلي، وكأنه متعاطف معي، وقال أن الفقرة قصيرة فعلا. أمام اتهاماتهم، واستغرابي الذي لم يخف عليهم، دفعتهم إلى استعمال طرق أخرى. شميت أومأ بإشارة صغيرة لرجاله، وسريعا حملوني. أحدهم قصير، هزيل، أشقر وأزرق العينين، أمسك بيدي اليمنى: وضع خيط كهربائي حول أصبعي. لم أتصور أنني سأتعرض للتعذيب بهذه السرعة. جلس على مقعده، وعلى ركبتيه جهاز مغناطيسي، وأرسل أول شرارة كهربائية. ببرودة تامة، كان الملازمان يتابعان المشهد. أسقطتني الهزات الأولى على الأرض، بعد صرخة دوت المكان. في صورة ضبابية لاحت أمامي وجوه مظليين واقفين واجهة الباب. في الركن، كان مدني جالس، إسمه بابوش (أحد الوشاة المعروفين بالقصبة. عوقب لاحقا بالقتل). منذ دخلت السجن، وجدت حالته لا تشبه المسجونين. كان يردد: اتركوني أفعل، معي ستقر سريعا. سأهتم بها بكل سرور''. واصل المظلي الأشقر في إرسال شرارات الكهرباء. عند سقوطي أرضا أمر الملازم فلوتيو بمساعدة في النهوض. المظلي الرابع، ممتلئ الجسم، جبهته منخفضة، حليق الرأس، هو ما نفذ الأمر. بينما كان يمسك بذراعي، تلقيت شرارة إضافية شعر بها أيضا. كان شميت يدير الإستجواب... لا يمكنني وصف الآلام التي تسبب فيها التيار الكهربائي في جسدي، كنت أصرخ. كنت أعاني، لم أعد أتحكم في أعضائي، التي يهزها التيار. كنت ألتفت إلى حامل الجهاز المغناطيسي، كان يرد علي: ''لا داعي لذلك، لن يرق قلبي عليك''. كانت عيناه تلمعان بغرابة. كلان يعمل مبتسما. وجهه يستحيل نسيانه، وجه كابوس''. سقطت مرارا وواصلت في النكران والتفسير. أخيرا، أمر شميت بنزع الأسلاك من يدي ورجلي. أخذني معه إلى غرفة أخرى، جلس إلى جانبي، ستار كان يحجبنا. رجل آخر دخل، طرح عليه أسئلة بخصوصي. كل إجابته كانت تدينني''. مجند فرنسي شاب يحكي جنون زملائه كتب الصحفي عن شهادة أخرى عثر عليها أثناء عمله، وتخص شاب فرنسي تجند للخدمة العسكرية، قال عنه ما يلي: ''مؤلف هذه الرسائل ضابط صف في سطيف ثم بجاية، فقسنطينة ومناطق أخرى في الشرق الجزائري. ما شاهده، ما عاشه، يسرده بشكل دقيق وملفت. نشعر أنه شخص متعلم، وهو أمر لا ينطبق على كل المجندين. عندما تعمقت في روايته، قلت في نفسي أن نصه جدير بكتاب حول تاريخ الجزائر الإستعماري''. كتب الجندي الفرنسي ما يلي: ''بين بونة وسطيف، مرورا بقسنطينة، رؤيته مزارع مبنية بالحجر ومغطاة بالقرميد مثلنا تماما. هذه المزارع كانت مكهربة. لكن هذا النوع من المساكن كان حكرا على الأوروبيين. بينما إلى جانب أي مزرعة... وفي مشهد خلفي، بحوالي 500 إلى 600 متر، تجد قرية عربية مبنية من طين وقش، ونادرا ما يصلها التيار الكهربائي. أعرف أن أسبابا كثيرة يعطيها سكان المنطقة لتفسير الظاهرة، بما في ذلك الأوساخ وكسل العرب. ومع ذلك...عندما قطع المتمردون أعمدة الكهرباء بين بونة وقسنطينة (كان لي الوقت لملاحظة الخسائر لأننا قضينا 24 ساعة لقطع 300 كلم)، لم يتم التعرض إلى السكان العرب. منذ وجودي هنا، لا أذكر أني سمعت وصفا آخر لنعت السكان الأصليين سوى ''البونيول'' أو ''الفاشلين''. الأحد مساءً، في حوالي الرابعة زاولا حملت دورية ''متمرد''، أو بالأحرى متهم بإخفاء أسلحة، كان عمره أربعين عاما، وجهه يؤكد تعرضه لضربات باليد وركلات متتالية. لقد فقد جزء من خديه، لا يقوى على البقاء واقفا. سارع أزيد من 1500 جندي إلى الالتفاف حول السيارة، لمشاهدة الفلاقة. قام أحد الملازمين بابعاد الجنود عن الرجل، وكاد أن يفقد حياته. بمغادرة السيارة إلى مركز الدرك، قام الجنود المشحونين بالضغينة، إلى ربط رأس المتهم بالسلك الشائك...أمام هذا المشهد، كان يستحيل التدخل، قوانين الحشود كانت رهيبة''